نبوءة درامية : سوريا في 2026 لا شيء سيتغير مكانك راوح

01-11-2006

نبوءة درامية : سوريا في 2026 لا شيء سيتغير مكانك راوح

الجمل ـ بشار إبراهيم : بتكرار ظهور صورة الرئيس بشار الأسد، أكثر من مرة، وخاصة خلف مكتب ضابط الأمن، العميد عبد الفتاح (ناجي جبر)، ثمة دلالة قاطعة، لا لُبس فيها، على أن أحداث مسلسل «غزلان في غابة الذئاب» إنما تجري الآن، وهنا!.. وليس في أيِّ مرحلة سابقة، كما اعتقد البعض من المشاهدين، أو توهَّموا!..
بل إن ثمة الكثير مما يشير إلى أن أحداث المسلسل، في غالبية حلقاته، تدور في العام 2006، تحديداً، بل حتى في زمن لاحق لما تؤكده شاهدة قبر غادة (أمل عرفة) التي تبيِّن أن تاريخ موتها جرى يوم (27/1/2006)، ذلك التاريخ الذي بدا نافراً، ومُرتجلاً، بل واعتباطياً، على اعتبار أن بعض المشاهد التي سبقت حادثة انتحار غادة، ومن ثم جنازتها، ودفنها، ورؤية شاهدة قبرها، والتي رأيناها في الحلقة ذاتها، أظهرت يافطةً على واجهة إحدى المباني الحكومية؛ يافطة تحيي ذكرى الجلاء (جلاء المستعمر الفرنسي عن سوريا)، وهي المناسبة التي يُفترض بها أن تأتي بعد حادثة الوفاة، بقرابة ثلاثة أشهر (17/4)، وليس قبلها، كما بدا في مونتاج الحلقة تلك.
يبدو الزمن مشكلة حقيقية، في مسلسل «غزلان في غابة الذئاب»، سواء من ناحية التداخل وافتقاد الترتيب والتتالي والتناسق، أو من ناحية كون الأحداث ستفيض عن زمنها الراهن، الملتبس، قبل أن تغوص بمآلاتها في أحشاء المستقبل، الأكثر التباساً!..
ربما يمكن القول إن زمن الأحداث التي رأيناها، طيلة قرابة خمس وعشرين حلقة من مسلسل «غابة الذئاب»، هو زمن تصويرها ذاته (النصف الأول من عام 2006).. فكل الإكسسوارات، والأدوات المستعملة، هي من آخر طراز ظهر في سوريا خلال العام 2006 حصراً، بدءاً من السيارات الفارهة، إلى أحدث أجهزة الموبايل (المحمول)، إلى طراز ديكورات المكاتب، والبيوت..
وستستمر طالبة الثانوي غيداء (ديما بيّاعة)، بالذهاب المتكرِّر اليومي إلى مدرستها (الثانوية)، طيلة الأحداث التي تجري، دونما أي توقُّف ولو عابر، لعطلة صيفية، أو انتصافية.. بل إن غيداء ستتزوج، وهي بلباس المدرسة نفسه!.. مما يوحي أن غالبية الأحداث تجري في الفصل الثاني، من العام الدراسي 2005 – 2006.
هنا، لا يمرُّ الزمن على ملامح الشخصيات، أو يكاد، فلا تكبر في العمر، ولا تتغيَّر هيئاتها، على الرغم من التغيرات الهائلة في الأحداث: تُسرق الأختام، ويجري عليها وبها ما يجري من عمليات نصب ونهب، وتُستعاد الأختام، ويجري التحقيق بصددها.
يصعد سامر (قصي خولي)، وأبوه (خالد تاجا)، سلَّم السلطة، ويمارسان أبشع أنواع الاستبداد، وينهاران بطريقة دراماتيكية. تدور عمليات اختلاس وفساد ورشاوى وابتزاز، كما تتمُّ إجراءات مراقبة أمنية، وتحقيقات واسعة. وتحمل غادة سفاحاً وتجهض وتموت أو تنتحر، ويدخل شقيقها غسان (محمد حداقي) التلفزيون، ويصبح مُعدِّاً للبرامج.. والشخصيات راسخة، والزمن يكاد لا يمرّ، إلا بما يشبه اليوميات الغارقة في بطئها، والمنقطعة عن واقعها..
فلا أحداث سياسية، مثلاً، أو متغيرات، تحصل في سوريا، ولا شيء يجري في بلدان في الجوار، أو في المنطقة.. على الرغم من أنه خلال السنوات القليلة، التي سبقت كتابة وتصوير المسلسل، على الأقل، أو التي واكبت مجريات أحداثه، على التأكيد، رأينا ما تشيب من هوله الولدان!.. رحيل قادة عرب تاريخيين، واحتلال بغداد، واغتيال الحريري.
ربما هي مشكلة النص أولاً، وربما هي مشكلة مهندس الديكور، والاكسسوارات، التي ينبغي بمجموعها أن تعطينا الإحساس بالزمن، فما انتبهت، أو ما أرادت الانتباه، إلى أن كل ما نراه في المسلسل، إنما هو من مفردات العام 2006 تحديداً. وذلك على الرغم من أن الزمن هو أهم العناصر في الأعمال الفنية، خاصة تلك التي تتناول مسائل الفساد، فهذا النوع من الأعمال غالباً ما يتعرَّض، في أذهان المشاهدين على الأقل، لأسئلة من طراز: متى جرى هذا؟..
لقد مارس المشاهدون (السوريون منهم على الأقل) لعبة «المشابهة» بين هذه الشخصيات الدرامية وتلك، وشخصيات واقعية، عرفوها، أو سمعوا عنها. وقايسوها كلٌّ بطريقته.. دون أن ينتبه غالبيتهم إلى أن زمن المسلسل هو الآن، وليس ما مضى!.. وهذا ما ينبغي أن يجعلنا أمام خيارين، لا ثالث لهما: أولهما ذاك الذي يقول إن المسلسل يُخطئ في بنائه، وتعامله مع الزمن، فيخلط فيما بين ما مضى وما هو حاضر الآن.. وثانيهما الذي يُفترض به أن يؤدي إلى أن على المشاهدين (والسوريين منهم في المقدمة) أن يقايسوا بين شخصيات المسلسل، وشخصيات راهنة موجودة، فاعلة ومهيمنة، وتمارس فعائلها المرصودة، حالياً، ولحظة تصوير المسلسل، ولحظة مشاهدته، ذاتها، دون أي إحالة إلى ما مضى، أو من مضوا!..
وفي حين يقوم المسلسل بفعل «المغايرة»، لتعمية هذه «المشابهة»، بإزاحة تفاصيل معروفة واقعياً، وإضافة تفاصيل مضلِّلة، غير واقعية، فإنه لم يأبه للزمن، أو لدلالاته، تلك التي كان من الممكن أن تمنح المسلسل فرصة أبعد من كونه مجرد رصد حالة فساد، من هذا الطراز، وبالتالي الانتقال به من مجرد الإجابة عن سؤال: كيف جرى هذا الذي جرى؟.. إلى مراودة أسئلة أكثر أهمية، من طراز: لماذا جرى هذا الذي جرى؟.. ومن تراه قام به؟.. مُقدِّمة لطرح السؤال الأساس: وماذا بعد؟.. بعيداً عن الإجابات القدرية المحتومة، كالموت بالجلطة، والتلطِّي وراء مقولات مبتذلة، من طراز ثنائية الأب الجيد والولد الفاسد، أو الحاكم الطيِّب والحاشية الشريرة.. وكذلك بعيداً عن المشاهد غير المقنعة، كسقوط السيارة من أعلى جبل قاسيون!.. هذه المحاولات التي لا تعني سوى القفز فوق حقيقة اكتشفها عبد الرحمن الكواكبي، قبل أكثر من مئة عام، تتمثَّل في أن «الاستبداد أساس كل علّة»!.. فلو لم يكن أبو سامر مستبداً، لما تمكَّن ابنه سامر من فعل شيء.
الأمر الذي يزيد الطين بلَّة، في مسلسل «غزلان في غابة الذئاب»، أنه على نحو مفاجئ، وخلال حلقتين أخيرتين، أو ثلاثة، يقفز بنا عشرين سنة إلى الأمام، مما يعني أننا بتنا، مشاهدين وأحداث، وعلى نحو عملي، في العام 2026. وهو ما كان يفترض بالمسلسل أن يمارس فعل النبوءة، أو الاستشراف، أو الغوص في الخيال (علمي، أو لا علمي، لا فرق)..
على ذلك، ودون العناية به، سنرى المسلسل يمضي في أحداثه إلى الأمام، وكأن هذه السنوات العشرين، لم تغيِّر إلا بعض الملامح الشخصية، شيباً في الشعر، وتقوُّساً في الظهر، وتناسلاً لا معنى له: "ترى ما الفرق بين أن ينجب قصي (فادي صبيح) عشرة أولاد، أو ولداً وبنتاً، مثلاً؟.. طالما أنه سوف يبقى في موقع التابع، الخادم".
بل إن المسلسل إذ يجري بعضاً من التحوِّلات، كأن نرى أن غسان ذاته، قد أصبح وزير إعلام.. فإن ذلك مما يعني أن المسلسل يرى بأن هذا ممكن أن يحدث في سوريا، ليس في الماضي، ولا الآن (أي في العام 2006)، بل مستقبلاً، وبعد عشرين سنة بالتمام والكمال!.. وسنرى الرجالات أنفسهم، الصالحين منهم والطالحين، الرفيعين منهم والوضيعين، تقريباً في مواقعهم ذاتها، وفي التنضيد ذاته، مما يوهم بانسداد الآفاق أمام الأجيال والكفاءات الصاعدة، خاصة الشابة التي ستنشأ بالضرورة، من اليوم وحتى العام 2026.
سوريا في العام 2026، تبدو في مسلسل «غزلان في غابة الذائاب»، حقيقة، وبما لا يدانيها أيُّ شك، وكأن «كل شيء في مكانه، وكل شيء على ما يرام»!.. فكما لم يعتن المسلسل بجعلنا نشعر بوجود أيِّ ماضٍ لشخصياته، التي تعامل معها طيلة قرابة خمس وعشرين حلقة، على أساس أنها راهن مؤلم، مؤسِّس لمستقبل أكثر إيلاماً، فإنه لم يعتن أيضاً بالإشارة إلى حدوث أي تغيُّرات جوهرية في سوريا!..
لن يحدث أيُّ شيء!.. فقط القدر، سوف يصفي حساباته.. فيموت الأستاذ (جهاد سعد)، الذي أحب من هي في عمر ابنته وفي صفها المدرسيّ، وذلك عندما حاول أن يستعيد الحب الذي مضى، في عقاب أخلاقي غير مبرر، إلا في عقلية تقليدية.. بينما سيستمرّ الآخرون في صعودهم اللامنتهي، ووفق خياراتهم التي يريدون، أو التي يتمكَّنون!..
الغائب الأساس في المسلسل هو الشعب السوري، بخياراته وإراداته ومبادراته.. إنه غائب في البداية وفي النهاية.. ولا حول له ولا قوة.. بل لعل مبادرتهم الوحيدة الناجحة، تتمثَّل في أنهم جلبوا الكراسي، وأقاموا العزاء، في عرض الشارع، بعد رحيل غادة!..
يحرص مسلسل «غزلان في غابة الذئاب»، في ختامه، على أن يحيطنا علماً بأن سامر، الفتى الفاسد المستلِّط، ذاته، سوف يعود في إهاب رجل أعمال، ومستثمر فرنسي!.. ولكن لماذا «رجل أعمال ومستثمر» فرنسي؟.. بل لماذا ليس «ابن مرابع» سوري، آخر، يدير كأس الاستبداد ذاتها، إلى حين؟..
سيكتب الزميل أحمد خليل، في موقع الجمل، أن أحد مدراء التلفزيون السوري اعتبر عرض هذا المسلسل «خيانة وطنية»!.. ولكن كيف يكون هذا، وقد بشَّرنا المسلسل أن كل شيء سيكون في مكانه، وكل شيء سيكون على ما يرام، في سوريا، عام 2026؟..
وفي الختام، تبقى التحية واجبة للفنان قصي خولي، وأدائه المتمكِّن، والاستثنائي..

 

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...