المشرق العربي الإسلامي على أعتاب مرحلة جديدة

02-11-2006

المشرق العربي الإسلامي على أعتاب مرحلة جديدة

خلال الأسابيع الأربعة من شهر رمضان المبارك بدا وكأن العالم كله في طريقه إلى التغير، أو على الأقل عالم العرب والمسلمين. ولأن سياسة واشنطن هي القوة المهيمنة في عالم اليوم، فإن هذا التغيير يتعلق في شكل خاص بالسياسة الأميركية.

وربما لم تعرف علاقة الولايات المتحدة الأميركية بالعالم من حولها تصريحاً كالذي تحدث به مسؤول العلاقات العامة في دائرة الشرق الأدنى بوزارة الخارجية لقناة الجزيرة يوم السبت 21 أكتوبر/ تشرين الأول.

فقد قال السيد ألبرتو فرنانديز بوضوح، وبالعربية، أن السياسة الأميركية في العراق اتسمت بالغطرسة والغباء. وتحدث بصيغة الماضي (موحياً بأن الأمر قد انتهى فعلاً) حول أن نوايا الولايات المتحدة في العراق كانت نوايا نبيلة (!) ولكن من الممكن الآن توجيه نقد كبير لها.

بعد سنوات طويلة من لغة التهديد والإملاءات، دعا فرنانديز العرب إلى عدم الشماتة بالتخبط الأميركي في العراق، لأن عواقب الفشل ستكون فادحة على الجميع.

فرنانديز ليس بالطبع الرئيس بوش؛ وقد تكون صراحته نابعة من الوضع الصعب الذي وجد نفسه فيه خلال العامين الماضيين، مدافعاً عن سياسة لا يمكن الدفاع عنها، ومن خلفيته كدارس للعربية والشرق الأوسط وابن للثقافة اللاتينية.

الرئيس بوش، على الأرجح، لن يعترف يوماً بخطأ غزو العراق، ولا بأخطاء سياسته الباهظة بعد الاحتلال. رئيس الوزراء البريطاني انتوني إيدن دفع ببلاده (بالتآمر مع فرنسا والدولة العبرية) إلى مغامرة السويس قبل خمسين عاماً من اليوم.

وكان فشل إيدن الذريع في تلك المغامرة مؤشراً على نهاية حياته السياسية، ونهاية دور بريطانيا الإمبراطوري في الساحة العالمية. ولكن إيدن لم يقر يوماً، وحتى وفاته، بالخطأ الفادح لسياسته تجاه مصر ولا بالثمن الثقيل الذي دفعته بريطانيا لهذه السياسة. هذه -وكما قال غونزاليس - هي طبيعة الدولة الحديثة وخطاب السلطة: الدولة، مهما أخطأت، لا تخطيء!

بيد أن الأمر لا ينبغي أن ينتظر اعتراف الإدارة الأميركية بفشل مشروعها في العراق، ولا حتى محاولة إيجاد تفسير لصراحة غونزاليس المفاجأة. (واعتذار غونزاليس اللاحق لإدارته لن يغير شيئاً؛ فقد قالها وانتهى الأمر) العاصمة الأميركية واشنطن بكل أطيافها، والعالم كله لا يرى في العراق إلا النهاية.

طوال أكثر أيام أكتوبر/ تشرين الأول، احتل العراق الصفحات الأولى للجرائد البريطانية الجادة، خبراً وتحليلاً. وقد خرج العديد من أعضاء الكونغرس الأميركي، حتى أولئك الذين أيدوا غزو العراق ودافعوا عن الاحتلال، على الرأي العام الأميركي معربين عن خيبة أملهم في ما آلت إليه الأمور.

معلق أميركي من أشد المؤيدين للإدارة الأميركية طوال السنوات الست الماضية، ورفيق درب قديم للمحافظين الجدد، يكتب في صنداي تايمز البريطانية (22 أكتوبر/ تشرين الأول) أن العراق هو في الحقيقة أسوأ من فيتنام.

مجلة تايم الأميركية تعنون تعليقها على الوضع في العراق بـ "نهاية الوهم". وإن كان هناك من مشترك في كل هذه القراءات للمشروع الأميركي في العراق فهو الإقرار بأن إخفاق المشروع لم يعد قابلاً للتصحيح، وأن الأفضل الآن البحث عن خروج مشرف، خروج يقلل من وطأة الخسارة، إن كان هناك مخرج من هذا النوع.
المسألة التي ينبغي الانتباه لها أنه ليس من الضروري الآن الاتفاق حول حقيقة المشروع الأميركي في العراق وأهدافه: ديمقراطية أو هيمنة، إقليمي أو عالمي، رد فعل أو سياسة إمبراطورية.

المهم أن العراق (وليس أفغانستان التي كانت مأوى قادة القاعدة) ومنذ أربعة أعوام، شكل إطار ومركز ومحور السياسة الأميركية الخارجية، والسياسة الأميركية الخارجية في المشرق العربي الإسلامي على وجه الخصوص.

ولم يكن رئيس الوزراء البريطاني توني بلير مبالغاً عندما قال في خطابه لجنوده بالبصرة، في زيارته الأولى لهم بعد الاحتلال، إن حرب العراق ستكون "المحدد الرئيس للقرن الحادي والعشرين".

بإخفاق هذه المغامرة الكبرى، واقترابها المتسارع من لحظة النهاية، سيكون من الضروري طرح مجموعة من الأسئلة بالغة الأهمية فيما يتعلق بمستقبل العراق، مستقبل العرب ومنطقة الجوار العراقي، مستقبل المسألة الفلسطينية، ومستقبل الوضع الدولي ككل.
على مستوى العراق، لابد أولاً من العمل على نهاية المأساة، التي تطيلها محاولات واشنطن اليائسة لتحقيق "نصر" لم يعد من الممكن أن يتحقق.

ولعل الأخطر على العراق الآن ما يشاع من تسليم مقاليده لعدد من جنرالات الجيش الجديد، ودفع الحرب إلى مستوى آخر من "العرقنة" حيث تتعهد قوات الجيش والأمن مجازر واسعة ضد الشعب، تخلي الإدارة الأميركية يدها منها.

كما علينا أن نسأل عن الطرق الكفيلة بإعادة بناء اللحمة الوطنية العراقية، وما يتعلق بها من إعادة بناء الكتلة السياسية المركزية وجسم صحيح وقابل للحياة للدولة العراقية.

الذين يظنون أن من الممكن إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل ربيع 2003 واهمون؛ ولكن الذين يتصورون أن وجودهم في المنطقة الخضراء طوال السنوات الثلاث الماضية كحكام للعراق (تحت الحماية الأميركية) يوفر لهم مسوغات الاستمرار في الحكم، ربما ببعض التغيير والتحوير في الخطاب والسياسة، هم أكثر وهماً.

العراق الجديد سيكون وليد أخطاء النظام السابق، وليد الغزو والاحتلال، وليد المقاومة والتضحيات الكبرى للشعب، ولسُنته العرب على وجه الخصوص، ووليد ثوابت الانتماء العربي الإسلامي للعراق، التي لم يستطع أكبر جيش في العالم محوها.

ولكن هذا العراق سيولد من رحم آلام كبرى، دماء لم تجف بعد، انقسام أهلي قد يتطور سريعاً إلى حرب أهلية شاملة، وتشظ سياسي غير مسبوق.

إن كان ثمة من يعي حجم التحديات التي فرضتها سنوات الاحتلال على بنية العراق وكيانه، من العراقيين ومن دول الجوار العربي الإسلامي، فعليه أن يبدأ سريعاً بطرح هذه الأسئلة، وأن يعمل بكل جهد ممكن من أن أجل أن يتجاوز العراق محنته.
قد لا يكون العراق فاعلاً رئيسياً في سياسات المنطقة، ولكن موقعه وتاريخه وبنيته تكفل له تأثيراً بالغاً على جواره كله. وبدون استرداد العراق لعافيته، يصعب أن تتمتع المنطقة بالعافية.
على المستوى الفلسطيني، علينا أن نطرح جملة من الأسئلة المتعلقة بأثر الإخفاق الأميركي على وضع الدولة العبرية، لاسيما أن هذا الإخفاق يأتي مصاحباً للهزيمة الإسرائيلية في لبنان وتصاعد المخاوف الإسرائيلية من البرنامج النووي الإيراني.

هل سيؤدي الإخفاق الأميركي في العراق إلى عودة إسرائيلية إلى العقل والمنطق، إدراك استحالة انتصار منطق القوة على هذه الشعوب القديمة للمشرق العربي، والتوجه نحو الوصول إلى حل عادل لهذا الصراع الطويل على فلسطين، أم سيؤدي إلى تعزيز منطق العناد والاندفاع نحو مغامرة دموية جديدة في فلسطين والمنطقة لتعزيز قدرات الردع الإسرائيلية؟

إلى أي حد بلغ التوغل الإسرائيلي في العراق، لاسيما في المنطقة الكردية، وإلى أي حد ستعمل الدولة العبرية على إغراق العراق في صراع فئوي إثني طائفي؟ وهل من الممكن أن تلجأ القيادة الإسرائيلية إلى إشعال حرب (ربما حتى على المستوى غير التقليدي) من أجل تدمير المشروع النووي الإيراني، إن وجدت أن واشنطن فقدت الرغبة في، أو الإرادة للدخول في حرب جديدة في المنطقة؟ وكيف سيكون لهذه الحرب من تأثير على الوضع الفلسطيني وعلى المنطقة العربية ككل، لاسيما على سوريا ولبنان؟
على المستوى العربي الإسلامي، فتحت السنوات الثلاث الماضية جروحاً غائرة، من الصراع التاريخي على العراق بين قوى المنطقة إلى تفاقم المسألة الطائفية.

وربما بات من الضروري، قبل فوات الأوان، أن تطرح دول المنطقة وشعوبها أسئلة رئيسية حول ما إن كانت تمشي بلا وعي نحو مرحلة من التشظي الطائفي والصراعات الإقليمية.

لقد كلفت الحرب العراقية الإيرانية أكثر من مليون ضحية، ودماراً بالغاً في البلدين. فهل لابد من تكرار حقبة الحرب الدموية قبل أن تصحو الأطراف المختلفة على حجم الكارثة؟

لربما يمكن أن يحتل عراقيون شيعة كل المناصب الرئيسة في الدولة العراقية، باسم الهوية الوطنية العراقية لا الطائفية؛ ولكن سيطرة شيعية طائفية على العراق هو مشروع انتحاري سينتهي بالوبال على أصحابه وعلى كل من يساندهم.
ومن جهة أخرى، فإن لإيران مصالح في العراق، لابد من الاعتراف بها والتفاهم حولها وحول حدودها، ولكن العراق بلد عربي، جزء من محيط عربي، تربط الضمير العربي الجمعي به تواريخ ووقائع وثوابت لم يعد من الممكن تجاوزها. وما ينطبق على العلاقات العربية الإيرانية، ينطبق أيضاً على العلاقات العربية التركية، وإن في شكل مختلف وأقل حدة.


بيد أن المرحلة المقبلة لا تتعلق بالعرب وإيران وتركيا وحسب، بل تتعلق أيضاً بالنظام العربي، وبالتعددية الإثنية والطائفية في عدد من البلدان العربية.

إن من نافل القول إن أغلب الدول العربية قد تورطت في غزو العراق، مادياً أو معنوياً، على اعتبار أن كسب ود ورضا الولايات المتحدة كان أكثر أهمية من استقلال العراق وسيادته.

وعلى العرب اليوم أن يطرحوا على أنفسهم أسئلة هامة حول التكلفة الباهظة لانهيار النظام العربي، لاسيما وقد فاقمت الحرب الإسرائيلية على لبنان من الخلافات العربية العربية.

عليهم أن يروا حجم الرفض الشعبي للسيطرة الأجنبية، ومعنى التضحية ببلد عربي كبير لإنقاذ جلد عدد من الأنظمة الحاكمة. كما أن عليهم أن يدركوا أن العراق في النهاية قد وفر لهم الحماية من الخضوع لسيطرة الإرادة الأميركية العمياء، التي كادت تعصف بالمنطقة جميعها في أعقاب كارثة أبريل/ نيسان 2003.

على العرب أيضاً أن يطرحوا أسئلة أخرى حول بنية الدولة العربية الحديثة، التي لم تنجح أبداً في اكتشاف منطقة التوازن بين الحفاظ على اللحمة الوطنية، وعدالة التعامل مع التعددية الطائفية والإثنية.

ففي حين ينبغي وضع خط قاطع في وجه تيارات الانقسام والتشظي، فإن من الضروري بناء أسس حكم جديد على قاعدة أن التعددية ثروة طالما لم تتحول إلى أداة لقوى الخارج.

ولا يمكن أن يمر الإخفاق الأميركي في العراق بدون آثار بالغة على الوضع الدولي، وعلى موقع الولايات المتحدة في الساحة العالمية. لم يحدث أن تعرضت قوة كبرى في التاريخ العالمي لمثل هذا الإخفاق بدون أن يكون لإخفاقها أصداء واسعة.

وليس المهم هنا أثر العراق على هذه الانتخابات الأميركية أو تلك، بل أثره على السياسة الأميركية الخارجية، وعلى سياسات العرب الخارجية.

هذه الإدارة الأميركية هي إدارة من نوع خاص، وأركانها جميعاً لم تزل باقية، فهل ستلجأ هذه الإدارة إلى سياسة خروج عاقلة من العراق، أو إلى خروج مدمر يقصد به تلقين العرب درساً من الانقسام والحرب الداخلية لن ينسوه؟ هل ستتخلى هذه الإدارة عن إستراتيجية عسكرة العلاقات الدولية، أم ستفجر حرباً جديدة ضد إيران كتلك التي فجرتها قبل شهور ضد لبنان؟
وإلى أي حد ستعمل السياسة الأميركية على إصلاح ما خربته من علاقاتها بشعوب المنطقة بانتهاج سياسة جديدة في فلسطين، أم أنها ستطلق العنان للقيادة الإسرائيلية لمعالجة فقدان قوة الردع في العراق؟

هل ستنكفيء الولايات المتحدة على نفسها، ولو نسبياً، لعدد قادم من السنوات، أم ستستخلص دروس العراق سريعاً وتعود كقوة فاعلة في السياسة الدولية؟

وهل أوقعت "الحرب على الإرهاب" وكارثة احتلال العراق دماراً لا يمكن إصلاحه في العلاقة بين الإسلام والغرب، أم إننا أمام مرحلة توتر سرعان ما تنتهي ما إن تشهد واشنطن أو السياسة الأميركية الخارجية تغييراً روتينياً؟
أما فيما يتعلق بسياسات العرب الخارجية، فربما يفتح العراق باباً لقراءة عربية جديدة للوضع العالمي، قراءة ترى عالماً يمضي باتجاه تعددية القوى لا تكريس أحادية القوة.

ولهذه القراءة أن تطرح هي الأخرى سلسلة من الأسئلة حول ما نريده فعلاً من العالم من حولنا، علوماً واقتصاداً وسياسة، وأين وكيف يمكن لنا أن نحصل على القدر الأكبر مما نريده؟

بشير موسى نافع

المصدر: الجزيرة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...