رواية عطر تتحول إلى فيلم

07-11-2006

رواية عطر تتحول إلى فيلم

لماذا لا يكتب ساسكند؟ رواية «عطر» (1985) تحولت أخيراً الى فيلم. في العالم قراء يكتشفون الآن – للمرة الأولى – هذا الكاتب الألماني الغريب. لم يكتب باتريك ساسكند روايات كثيرة. «عطر» ظهرت مسلسلة في احدى صحف فرانكفورت ثم نشرت في كتاب. خلال سنة واحدة باعت بالألمانية نصف مليون نسخة وتُرجمت الى 12 لغة. بعدها لن ينشر ساسكند غير روايتين: «حمامة» سنة 1987 و «قصة السيد سومر» سنة 1991. الأخيرة ليست في مستوى «حمامة» ولا في مستوى «عطر». «مستوى» كلمة غير مناسبة ربما. الأفضل استعمال كلمة «طموح». لا تملك «قصة السيد سومر» طموح «حمامة» ولا طموح «عطر». في «عطر» – وفي «حمامة» أيضاً – نرى جملة سردية مشبعة بالقوة. نرى أسلوباً لا يضاهى. هل شعر ساسكند بهبوط في زخم أسلوبه السردي بين 1985 و 1991؟ لهذا سكت عن الكتابة؟ الجواب على هذا السؤال يرتبط بعالم ساسكند الروائي.

ماذا يكتب ساسكند في «عطر»؟ يكتب قصة رجل (العنوان الفرعي للرواية: قصة قاتل) يكتب قصة رجل يعيش في باريس القرن الثامن عشر ويملك قدرة خارقة: أنفه يستطيع أن يميز أدق الروائح وأن يفصل بينها. هذه الموهبة تؤهله لأن يتحول الى أشهر عطّار (صانع عطور) في تاريخ العالم. لكن طموح جان باتيست غرينوي يتجاوز هذه الحدود. يطلب غرينوي أن يكون محبوباً. وُلد لإمرأة فقدت وعيها وهي تلده في سوق السمك. المرأة أرادت أن تلقيه تحت أحشاء الأسماك التي تنظفها، أرادت أن تتخلص منه. حرّ الصيف الفظيع أفقدها الوعي. حرّ الصيف وألم الولادة. سمع أهل السوق زعيقاً فالتموا على بسطة السمك. بين السلال والقاذورات عثروا على الطفل يبكي. طفل بلا رائحة، قالت المرضعة عندما أخذوه الى ميتم. لن تحب المرضعة الأولى – ولا الثانية – هذا الرضيع. نهمه فظيع. والأفظع من نهمه أنه بارد البشرة وبلا رائحة. كيف يكون الطفل بلا رائحة؟ رائحة الطفل تتركز في رقبته، أسفل الرأس، أعلى الظهر، تقول المرضعة. تنحني على الطفل وتشمه. لا رائحة أبداً. ما هذا الطفل؟ يتنقل غرينوي بين مياتم ثم ينتهي عاملاً في مدبغة. يأتي يوم ويغدو مساعداً للعطّار المشهور بالديني. غرينوي سيضاعف شهرة بالديني. لكن هذا لن يعطيه التوازن.

ماذا يعطي غرينوي التوازن في باريس القرن الثامن عشر المكتظة بالروائح والبشر؟ هل قلنا قبل سطور أن غرينوي يطلب أن يكون محبوباً؟ هذا خطأ. نثر ساسكند الممتع يأخذ القراءة الى احتمالات كثيرة. ساسكند يكتب بإسلوب توراتي. الجرأة والعنف جنباً الى جنب الحكمة والإنسانية والدعابة والذكاء الحاد. ماذا عن التعاطف؟ غرينوي لا يتعاطف مع الجنس البشري. كيف؟ أيكره البشر ومع هذا يطلب أن يكون محبوباً؟ ما سرّ غرينوي؟ رجل يقتل فتيات وهنّ نائمات، يغطي أجسامهن بالزيت، وينتظر حتى تتشبّع الملاءات برائحتهن. «رائحة الأرواح»، يفكر. يريد أن يجمع هذه الروائح في رائحة واحدة كاملة. هذا العطر الكامل في قارورة زجاج سيعطيه ما يريد: يرش العطر على جسمه فتكون له رائحة. الآخرون يتنشقون هذه الرائحة فتتسع عيونهم وينظرون اليه بحبٍ لا نهائي.

هذا ليس حلماً. غرينوي يصنع هذا في الرواية الغريبة. ساسكند صاحب أحلام وقدراته غير عادية. ينتهي الكتاب برعاع باريس يتحلقون حول الرجل الذي يشع نوراً. أفرغ غرينوي قارورة العطر على رأسه. سال عليه النور. رعاع باريس – مجرمون وحشاشون ولصوص يجتمعون ليلاً في حديقة ويشعلون ناراً ويشربون – رعاع باريس تحلقوا حول الرجل مذهولين. امتدت الأيدي الى لباسه، امتدت الى لحمه. أكلوه بالأصابع والأسنان. التهموه ولم يتركوا فيه عظمة واحدة. خرجت السكاكين من جيوب وقطعت اللحم عن اللحم. غرينوي تبدد من هذا العالم في ساعة. أكلوه وشعروا بالخجل. في حياتهم لم يحبوا أحداً هكذا. ماذا يخبرنا ساسكند؟ كيف نقبل أو لا نقبل هذا الكتاب الغريب؟

«حمامة» أقصر من «عطر» لكن حبكتها لا تقل ادهاشاً. يعيش جوناثان نويل وحيداً في غرفة صغيرة في باريس القرن العشرين. ذات صباح – وهو خارج من غرفته الى الممر المفضي الى الحمام المشترك – يرى أمام باب الغرفة حمامة. كيف دخلت الحمامة الى البناية، لا يعلم. الحمامة تنظر اليه بعين واسعة. العرق يسيل على ظهره. يتراجع الى غرفته ويقفل الباب. معنوياته تسقط وحياته تتحول الى كابوس. يهرب من الغرفة التي جعلها منذ سنوات بيته. يهرب الى الشوارع خائفاً وتظل الحمامة تطارده بتلك النظرة الفارغة الباردة الى نهاية الكتاب. ماذا يحدث في نهاية الكتاب؟ هل يرجع الى غرفته؟ نحجب عن القارئ الجواب. هذه الكلمات لا تقول شيئاً من سحر «عطر» ولا من سحر «حمامة». سرّ روايات ساسكند في أسلوبه. الأسلوب هو الرؤية. الدقة والنبل والاقتضاب. أوسكار وايلد قال إن الأسلوب هو الشخصية. هل يستطيع قارئ ساسكند ان يفك لغز هذا الكاتب الساكت؟

لماذا سكت ساسكند عن الكتابة؟ هل ينشر بعد اليوم رواية؟ ولد في 1949. كم عمره الآن؟ يحيا بين ميونيخ وباريس. أين يحيا؟ الإنسان يعيش في رأسه. لا نقدر أن ندخل الى رأس ساسكند. هل يستطيع قارئ «عطر» أو «حمامة» أن يدخل الى رأس ساسكند. ساسكند 1985 ليس ساسكند 1987 ليس ساسكند 1991 ليس ساسكند 2006. يغيرنا الوقت من ساعة الى ساعة. نهر عظيم يجرفنا الى حيث يشاء. هل نرى ساسكند مرة أخرى؟ هل يعطينا بعد رواية مثل «عطر»، رواية مثل «حمامة»؟ العالم غامض والحياة غامضة. صلاة القارئ هي هي: أن يستمر الكاتب في الكتابة.

صلاة الكاتب في قلبه. ماذا تكون صلاة ساسكند؟ هل كفّ عن الصلاة؟ تنتهي «قصة السيد سومر» بنزول الرجل الذي يمشي الى تحت الماء. ينحدر الرجل الى البحيرة ويتابع المشي. بعد ذلك لا يراه أحد.

ساسكند مرئي وغير مرئي. نفتح «عطر» ونراه. نفتح «حمامة» ونراه. كل ليلة – والمدينة نائمة، والمكتبة نائمة، والعالم ينام – كل ليلة يكتب الكاتب روايته من جديد. صباحاً يختفي. لا يهم أين يذهب. عندنا الرواية، نفتح الرواية ونقرأ ما يكتبه.

تقرأ «حمامة» 16 مرة ولا تمل. كلما أعدنا القراءة ازددنا حياة.

ربيع جابر

المصدر: الحياة

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...