المخابرات وفن الحكم

08-11-2006

المخابرات وفن الحكم

يعرض هذا الكتاب مبادئ وطبيعة عمل المخابرات، باعتبارها أحد فنون الحكم القائمة على معرفة الأصدقاء والأعداء، ويقارن بين ما أدته المخابرات الأميركية خاصة من مهام، وما قد تقوم به في المستقبل.

ويقارن ذلك بالمعايير الثابتة لهذا الفن، وبالظروف المتعلقة بالزمان والمكان، ويعرض تصورا للمخابرات في الأنظمة الديمقراطية نهاية القرن العشرين.

ويقدم أسسا جديدة لإعادة بناء المخابرات وفق التحولات الكبرى الجارية في العالم، ومنها بطبيعة الحال الحكم والإدارة.
الاستخبار أداة تجمع عدة متناقضات، ففيه الألفاظ والأرقام والصور، والتقديرات والإيماءات والتحريض، وفيه الحقائق التي قد تهدي وقد تضل، وفيه أيضا الأكاذيب الصريحة، ولأنه أداة غير مادية فهو لا يجرح، ولكنه يتسبب في إهلاك الملايين أو إنقاذ حياتهم.

والاستخبار فن مارسه الأخيار والأشرار، والطغاة والديمقراطيون، والبدائيون والمتقدمون، ولكنه في جميع الأحوال فن واحد.

وتتكون العمليات الاستخبارية من أربعة مكونات أساسية: جمع المعلومات، والاستخبار المضاد، والتحليل، والتحرك المستتر.

إن المعلومة الجيدة والضرورية قد تكون من مصدر متاح أو تجسسي خاص، وقد تسفر الدراسات والمعلومات الدقيقة حول الاقتصاد والمؤسسات العامة عن كنز ثمين لأهل البصيرة والقدرة على التحليل، وربما لو أخذ نابليون وهتلر بالاعتبار معلومات الطقس والمناخ لأمكنهما تجنب هزيمة قاسية في روسيا.

وقد تكون كثرة المعلومات سببا في التشويش والتضليل، فوكالة الأمن الوطني بالولايات المتحدة الأميركية تلتقط كل يوم آلافا لا تعد ولا تحصى من المحادثات في أغلب بقاع العالم، وبخاصة في أوقات الأزمات، فيجد صناع القرار أنفسهم أمام حشد من المعلومات لا يقدم نتائج أو تحليلات يمكن الاعتماد عليها، ويصبح الهدف مثل إبرة في كومة من القش.

وقد كانت الثورة الإسلامية في إيران مفاجئة للأميركان ربما بسبب العجز عن إدراك الدور الذي يلعبه الدين في الحياة والسياسة والتحريض.

وقد توقعت مخابرات العالم أن يأمر شاه إيران عام 1978 بإطلاق النار على المتظاهرين بسبب عجزها عن تحليل نفسيته وطريقة تفكيره، وعدم متابعتها وتحليلها للحوارات الشفوية للشاه برغم التنصت عليها.

وكذلك الأمر عام 1989 عندما وقعت الأحداث الثورية في الكتلة الشيوعية، وكذلك لم تكن المخابرات الأميركية تنقصها المعلومات عن خطط حكومة فيتنام الشمالية عام 1968 ولكنها أخطأت في تحليل المعلومات وفي استخلاص تقدير مستقبلي.

وكان لدى كل من هتلر من جهة وتشرشل وديغول من جهة أخرى المعلومات نفسها حول الولايات المتحدة، فكان هتلر يستخف بها وأعلن عليها الحرب بلا مبرر، ولكن تشرشل وديغول كانا يدركان أنها أهم قوة اقتصادية في العالم وأنها ستحسم نتيجة الحرب.

وفي الوقت الذي تسعى فيه مخابرات حكومة ما لجمع المعلومات وتحليلها حول دولة أخرى، فإن هذه الدولة تجهد في التجسس المضاد، واختراق عملياتها، وتضليل تحليلاتها.

ومن ثم لا تستطيع حكومة أن تثق بما تحصل عليه من معلومات وتحليلات استخبارية، لأن تغذيتها بمعلومات مضللة، قد يؤدي إلى إفشال مخططاتها.

وفي جميع الأحوال يجب ملاحظة أن أفضل وأقسى أنواع المخابرات لم تستطع أن تحمي أنظمتها السياسية في ألمانيا الشرقية ورومانيا.

إن أساس نظرية المعرفة في الفلسفة هو التساؤل البديهي "كيف تأتت لي هذه المعرفة؟ وكيف أثر أسلوب معرفتي على رأيي فيها؟".

وهذا ما يسمى في المخابرات "أمن العمليات"وهي مبادئ قديمة وشائعة، وثمة كتاب هندي عن "فن الحكم" اسمه "الأرثازاترا" ينصح باستخدام مراقبين سريين، وينصح أيضا باختيار المعلومات التي تجمع عن طريق المكائد.

وقد لاحظت المخابرات الألمانية في الحرب العالمية الثانية أن أحد العملاء في بريطانيا يميل إلى الإبلاغ عن الأمور التي يتوقع أن الألمان يريدون سماعها، فطلبوا منه التحري عن مصنع وهمي، وعندما قدم معلومات عن هذا المصنع ضاعت مصداقيته.

وقد أدار الحلفاء عملياتهم وهم يدركون أن الألمان يراقبونهم، ولكنهم برغم ذلك استطاعوا خداع الألمان وتضليلهم تقديرا منهم أن العملاء سينقلون هذه المعلومات المضللة.

وفي عام 1952 صاغت حكومة الولايات المتحدة مصطلح "التحرك المستتر" في دلالة على التحرك باتجاه التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وبالطبع فإنه أسلوب قديم يسبق اكتشاف القارة الأميركية عام 1492 بمئات السنين.

وفي كتاب نشر له عام 1978، يسرد فيرنون والترز وهو جنرال بالجيش الأميركي عمل فيما بعد سفيرا، تفاصيل مهمات "صامتة" كلفه بها خمسة رؤساء للولايات المتحدة، بعضها كان يتسم بالحكمة وبعضها الآخر كان مهمات حمقاء، وقد فشل بعضها، وبعضها نجح.

وهي مهمات من قبيل التهديد والإغراء والاستدراج وتوصيل المال وعقد الصفقات، بهدف التأثير على سياسات الدول ومواقفها، وتدبير المؤامرات.

أسباب عدم جدوى المخابرات الأميركية
نجحت المخابرات الأميركية في جمع قدر كبير من المعلومات من مختلف المصادر، التجسس التقني، واللاجئين والهاربين، والدبلوماسيين الأميركيين، والصحافة العالمية، والمخابرات العسكرية، والحكومات الأجنبية الصديقة وغير الصديقة.

ويشغل في كثير من الدول رجال متمرسون رئاسة محطة المخابرات، ويكون رئيس المحطة شخصية عامة تحظى بالاحترام والعلاقات لدرجة تثير أحيانا حسد السفير الأميركي، وقد شغل ثلاثة من رؤساء المحطات منصب مدير المخابرات المركزية.

ولكن المخابرات الأميركية واجهت حالات كثيرة من الفشل والقصور في التحليل والعمل التقني والتغطية البشرية الملائمة، والمشكلات القانونية والأمنية والسياسية بسب هاجس التجسس المضاد.

وقد فتح ذلك المجال لنجاحات سوفياتية في تحقيق اختراقات معلوماتية أو الحصول على تقنيات محظورة.

ولم تعد وكالة المخابرات الأميركية قادرة على الوفاء بتحولات التسعينيات وما بعدها، فقد أصبحت جميع مصادرها وأدواتها معروفة، وفتحت المجالات للاختراق أمام الأجهزة الاستخبارية الأخرى، وهي اليوم في نظر المؤلف بحاجة إلى إعادة بناء.

وقد خلفت أحداث عام 1989 وانهيار الاتحاد السوفياتي فوضى عارمة، وقد انتشرت بقايا وفلول المخابرات الشيوعية في جميع أنحاء العالم، ويبدو من الصعب اليوم تمييز عملاء الاستخبارات من بين جموع المهاجرين من الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية.

وتحدث أخطاء كثيرة في تلقي التقارير والتحليلات الاستخبارية، إذ أن ثمة فجوة كبيرة بين السياسيين والبيروقراطيين وبين الاستخبارات.

وتتناقض في كثير من الأحيان المعلومات والتقارير الاستخبارية حسب مصادرها، فوزارة الدفاع لها مخابراتها الخاصة بها (DIA) وتوجد أيضا عدة أجهزة استخبارية في كل سلاح بوزارة الدفاع، وكذلك فإن لوزارة الخارجية الأميركية جهازها الخاص لجمع المعلومات وتحليلها (INR) هذا بالإضافة إلى الجهاز الشهير وهو سي آي إيه CIA.

وهناك أيضا وكالة الأمن القومي، بل إنه مع الزمن صار لكل مؤسسة هويتها الخاصة بها ونزعتها الفكرية والتحليلية لدرجة أنه يمكن التنبؤ مسبقا بتقديرات كل مؤسسة من هذه المؤسسات.

وتصلح حرب الخليج الثانية (1990–1991) نموذجا لملاحظة القصور في المخابرات الأميركية، فقد كان الاستخبار على المستوى التكتيكي ممتازا، ولكنه على المستوى القومي أو الإستراتيجي لم يكن مرضيا.

فعلى الرغم من قيام الأقمار الصناعية بتغطية يومية لتحركات الجيش العراقي في الفترة التي سبقت غزو الكويت، فإنها لم تتمكن من توفير الحقائق الكافية للتغلب على التوقعات التحليلية التي أدت إلى تقديرات خاطئة للنوايا العراقية.

وقد أجمع المحللون الأميركيون -باستثناء واحد- فقط على أن تلك الحشود لن تقدم على غزو الكويت، وخاضت الولايات المتحدة الحرب كلها دون علم من المصادر البشرية بأساليب عمل النظام العراقي ونواياه الإستراتيجية أو تحالفاته.

وزعم البعض صادقين أن الاتحاد السوفياتي كان في صف العراق، ولكن لم يعلم أحد لماذا رفض صدام حسين عرضا يضمن له النصر.

ولم يكن لدى المخابرات الأميركية سوى عشرين موظفا يتحدثون العربية، ولم يكن من بينهم من يرغب في العمل المستتر في العالم العربي، ومع ذلك انتصرت الولايات المتحدة، لأنها كانت ضد خصم لا يجيد اقتناص النصر.
لا يقتضي الاستخبار الجيد من الحكومة أن تنشر جواسيس أو مقيمين في أنحاء العالم، وأن تنفق نسبة كبيرة من دخلها القومي على الأجهزة التقنية، ولكن عليها أن تعي الدروس المستفادة من تجارب النجاح والفشل، وعليها أن تبذل الجهد لتطبيق تلك الدروس بوسائلها المحدودة وهي تتعامل مع المواقف التي تتعرض لها، وأن توظف لذلك الأشخاص المناسبين.

إن فن جمع المعلومات هو فن الممكن، شأنه في ذلك شأن السياسة، ويقتضي ذلك الفن رفض الأفكار المسبقة، واستخدام السبل المتيسرة.

وتعد الصحف والمجلات المتخصصة مصادر قيمة للأحداث وأولويات القادة، وما من أمة يمكن أن تغلق نفسها تمام الإغلاق حتى في زمن الحرب، هذا بالإضافة إلى المصادر البشرية والتقنية.

ولكن تجب الإجابة عن سؤال محدد لتنظيم عمليات جمع المعلومات وتحليلها، ما الذي تريده حكومة ما من معلومات ولماذا تريدها؟ وربما يلزم قدر من الخيال لتحليل المعلومة وتقديرها.

وقد لاحظت المخابرات السورية عام 1964 أن الإذاعة الإسرائيلية كانت تذيع قرارات الحكومة السورية، كما لاحظ قبلها العسكريون السوريون أن المدافع الإسرائيلية كانت تصيب مواقع المدفعية السورية حتى قبل أن يستطلعها الطيران الإسرائيلي.

ودفع ذلك السوريين إلى محاولة تحديد موقع إشارة راديو غير قانونية كانت تصدر من مكان ما داخل البلاد على مدى فترة من الزمن، وساعدهم على ذلك أن النشرة كانت تذاع يوميا في الساعة الثامنة والنصف صباحا، وساعدهم على ذلك أيضا أن الإشارة توقفت تماما طيلة غياب أحد المطلعين على بواطن الأمور خارج البلاد.

فإذا نظرنا إلى كل واحدة من تلك الحقائق على حدة لم نصل إلى شيء، أما المخابرات السورية فقد توصلت بذلك إلى معرفة الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين الذي كان يتسمى بكمال أمين ثابت.

فلا يقيد فرص بلوغ الهدف في مجال المخابرات سوى الخيال، فأية عقلية تلك التي من شأنها أن تختار محل ميكانيكي سيارات ألماني في كولومبيا كواجهة لجمع المعلومات عن تجار المخدرات، أو لوضع أجهزة تنصت داخل ماكينات البيع في نوادي كليات الجامعة، أو استخدام شركة إصلاح للمصاعد كواجهة طويلة الأجل للتجسس في فيينا؟

لقد بدا العالم في بداية التسعينيات مختلفا عما سبق، فقد وقعت ثورة شرق أوروبا ثم انهيار الاتحاد السوفياتي وحروب البلقان وحرب الخليج الثانية لتنهى نصف قرن من الأنظمة الشمولية.

ثم تبعت ذلك سلسلة من الأحداث والتحولات الكبرى والجديدة، وتشكلت أسئلة جديدة معقدة ومحيرة، ونشأت أخطار وفرص وتحديات جديدة.

فقد توحدت ألمانيا، وبدأ مجلس الوحدة الأوروبية بالتبلور والتمأسس السريع، وصعدت الصين كقوة سياسية واقتصادية منافسة عالميا، وصار الشرق الأوسط أشد اضطرابا من قبل، وتشهد أميركا اللاتينية تحولات سياسية جذرية، وكلها حالات مختلفة عن حقبة الحرب الباردة، وتقتضي نوعا جديدا من الاستخبار والبحث والتحليل.

إبراهيم غرايبة

المصدر: الجزيرة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...