بين الاستشراق الجمالي واستشراق الإرهاب

12-11-2006

بين الاستشراق الجمالي واستشراق الإرهاب

في «بيت المواعيد» لمارتن ايميس الصادر أخيراً عن «جوناثان كيب» الأميركية ثلاث قطع قصصية متفرقة يجمع بينها الموضوع – الثيمة، لا الشخصيات ولا الأزمنة، ناهيك عن اختلاف الأمكنة. القصة الأولى مثلث غرامي لأخوين وفتاة يهودية على امتداد أربع حقب في روسيا ما بعد الحرب العالمية الثانية. ستالين الطاغية يلقي بظله على الأحداث. لكن الحكاية لا تعدو كونها محاولة تصحيحية لفشل رواية سابقة بعنوان «كوبا الرهيب» صدرت لأيميس عام 2002 تناول فيها ما طالما اعتبره «هوس مثقفي الغرب بتجربة الاتحاد السوفياتي». لسوء حظه جاءت «كوبا...» حافلة برفع الأثقال اللفظي والخلل الايقاعي والأسلوب الباهظ، ما جعل النقاد يمزقونها إرباً وأكثر قرّاء إيميس اخلاصاً يعزفون عنها. لكن في «بيت المواعيد» يجهد مارتن الابن للإصغاء أخيراً الى صوت والده الراحل كينغسلي الذي وبّخه علناً غير مرّة على غروره وغلوائه في إظهار براعته اللغوية على حساب البناء الروائي واثراء الشخصيات بمادة الحياة فـ «ليس باللغة وحدها تحيا الرواية».

النتيجة مقبولة على صعيد الأسلوب، بل قد تمرّ صفحة أو صفحتان من دون أن تبرز من خلال السطور عضلات الفتى النحيل إيميس. وبما انها الرواية الأساس في الكتاب يحاول المؤلف توطيد الخط العريض للقطعتين التاليتين: واحدة عن بديل صدام حسين، والأخرى عن محمد عطا، أشهر ارهابيي 11 أيلول. ويهدف ايميس الى تأطير الحكايات الثلاث في صورة الذكورية المستبدة، والذكورية المتأثرة حتى الانسحاق بالاستبداد، متحولة بالتالي الى أداة قتل ضريرة كما هي الحال مع عطا.

في «قصر النهاية» يتخيّل مارتن ايميس، في متعة سادية فاضحة، مجون البديل الذي «يقسم نهاره بين التعذيب الملحميّ والجنس الملحمي مع فتيات يلتقطهن (بالقوة) ويصوّر حيثيات معاشرتهن تمهيداً لعرضها على الديكتاتور، ولديه أيضاً واجب ثالث هو نسخ الجراح التي مني بها الطاغية جرّاء محاولات اغتياله». علماً أن أحداً لم يتعرف الى أيّ من «بدائل» صدّام بعد انهيار حكمه!

انطلق مارتن ايميس في تجربته لتصوير شخصية محمد عطا من تقرير اللجنة التي عيّنته الإدارة الأميركية لدراسة أحداث 11/9 وفيها ان اللجنة لم تجد أدلّة حسية أو مادية أو تحليلية مقنعة لما دفع بعطا ورفيقه عبدالعزيز العمري لارتكاب فعلتهما الرهيبة. اذاً، فالباب مفتوح أمام التخييل على مصراعيه ولا شيء يمنع ايميس أو غيره من تصوّر وقائع اليوم الأخير لرجل «بلا ماضٍ ولا دوافع» يدعى محمد عطا، وها هو، بحسب ايميس، يستيقظ في الرابعة صباحاً في بورتلاند يوم الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 – «ما كان مشهد يقظته؟ غرفة فندق توفيرية مما يجده المرء في الكتيبات السياحية، أفضل قليلاً من العادي، ضمن سلسلة فنادق «ريبوز إن» مع انها تختلف عمّا سبقها نسبة الى النظافة والحدة، اذ كانت مضجرة وملتبسة مثل معظم زبائنها المسنّين. وكانت رخيصة». هنا يتلهى مارتن ايميس بوصف فراش النيلون والغطاء الثقيل كسترة واقية من الرصاص والتلفزيون القديم العهد والثلاجة الصدئة... خالصاً الى ان التقشف الذي عاشته المجموعة قبيل العملية كان قاسياً حتى انها أعادت 26 ألف دولار من مخصصاتها الى مصدرها في دبي. ويستطرد الكاتب في تخيلاته متصدّياً لتفاصيل وحده الله يعلم فوائدها ان لم تكن إمعاناً في تطريز لوحة لا معنى لها إلاّ في ذهن راسمها: «وطأ داخل حوض الحمّام مستسلماً لملمس الستار المطاطي البارد على كاحله وفخذيه. ثم أمضى وقتاً متمادياً في الطول يحاول استخلاص شعرة من قطعة الصابون، جسمها الغريب كان يغيّر شكله باستمرار، بل بقي في مكانه وقطعة الصابون التي لا يتجاوز حجمها حجم علبة كبريت سرعان ما ذابت بعد انتهائه من الحمّام». ثم يصف ايميس حركة الماء في الأنابيب وكيف انزلق عطا على حاوية شامبو مثقوبة وهو يخرج من المغطس وسقط بقوة على أسفل ظهره، وكان عليه أن يرفس نفسه ليقف ضارباً رأسه بمرشة الدش. بعد ذلك تمادى الوحي في النزول على ايميس فتخيّل ان عطا جلس على المرحاض مؤكداً ان الرجل لم يتبرّز منذ شهر مايو (أيار) بسبب توتره، مما هو طبياً محال ومبالغة تتجاوز حدود المهزلة: «في صورة عامة كان جسمه نحيلاً بسبب التمارين الرياضية، لكن عضلات معدته ترهلت وانتفخ بطنه كحامل في شهرها الثالث. لم يكن ذلك كافياً، كان يعاني من حرارة وألم، ليس في أمعائه بل في أسفل ظهره، ومفصل عجيزته وباب بدنه، وكان عليه أن يرتاح من الضغط بين الفينة والأخرى ليمرّر هبة غثيان ترافقها فقاقيع الريح الجوفية المتصاعدة الى حلقة جاعلة لأنفاسه رائحة نهر راكد».

كل هذا لم يشف غليل إيميس، فإذا به يضع وجه عطا أمام المـــــرآة مستحـــــلماً: «الحلاقة أسوأ الأمور لأنها تعني بالضرورة تورّطه مع وجهه. أحنى نظره وهو يصوبن وجنتيه لكن جاء دور الذقن وانعكس في المستطيل الزجاجي: وجه محمــــد عطا. منذ عاميـــن ودّع لحيـته بعد أفغانستان، لحيته المشتبكة والمائلة والتي خففت من وطأة أمائر القرف المرافقة لفمــــه، كما موّهت ضراوة حنكه (...) انـه المقت، مقـــــت كل شيء محفور على وجهه من الداخل. وتعجّب كيف ما زالوا يسمحون له بالتجوّل في الطرق، ناهيك عن دخول مبنى وركوب طائرة». ويذهب ايميس الى جعل وجه محمد عطا اخطر وجه بشري وأكثر الوجوه تنفيراً على الإطلاق. بل يستمرّ في الترسيم والتهشيم على هذا النحو فخوراً بابتكاراته السطحية ذات التذاكي البرّاق الى ان يحاول التطرّق للدوافع والدواخل: «لم يكن عقل محمد عطا وجسمه منفصلين: تلك كانت الصعوبة، مشكلة الجسم –العقل. ففي حالته كان مختلفاً عن الآخرين لأنه كان يقوم بالمهمة مدفوعاً بأساسيات ثابتة. الآخرون أيضاً، لكنهم كانوا قطعوا شوط التكريس عبر حرارة الجهاد، وكانت أجسامهم مقتنعة بالمهمة ومستسلمة لها. أكلوا، شربوا، دخنوا، ابتسموا، شخروا وتسلقوا الأدراج اثنين اثنين، أما جسد محمد عطا فلم يكن مستسلماً الى هذا الحدّ، عقله وحده كان مقتنعاً بالأساسيات الثابتة». لا أحد يعرف من أين، أو على ماذا بنى إيميس تلك الفرضية العجيبة التي استكملها بقوله ان عطا لم يكن «متديناً بصورة خاصة ولا حتى سياسياً، بل تبع المجاهدين لأن الجهاد، في مجمل التجاذبات، كان الأكثر إغواء نسبة الى جيله. ان يجمع الضراوة والاستقامة في كلمة واحدة: لا شيء يفوق ذلك». وتصوّر ايميس ان عطا لعب اللعبة كي يحصل على إعجاب رفاقه، وكان يجمع الأقوال المأثورة، ويعطي المكرمات، والحج، ونظريات المؤامرة، الى ما هناك، مثلما يجمع الآخرون التواقيع أو جرار الجعة. وكان ذلك مناسباً لشخصيته».

وهكذا يمضي ايميس في تهميش وتحوير الدوافع التاريخية والمنطلقات الجوهرية التي آلت الى ولادة التشدد وبالتالي ولّدت إرهاباً عالمياً تلفّع برداء الإسلام، لكنه في الواقع نتيجة ركم هائل من سياسات القمع والإحباط والإهانة لحقت بالفلسطينيين منذ أكثر من نصف قرن، ثم طاولت بقية المنطقة العربية وامتدت الى أعمق من الجغرافيا، أي الى تشويه متعمّد لصورة العربي والمسلم في الذهن العام غرباً وشرقاً على السواء. لا شيء من هذا كله في مخيال ايميس بل يمكن القول ان مقاربته شخصية محمد عطا، وأيضاً صدام حسين، نذير ولادة استشراق جديد محوره إرساء تلك الصورة المشوهة للإنسان العربي والمسلم. فبعد الاستشراق الأكزوتيكي الجمالي الذي اتّسم بمبالغات رومنسية ونظرة فوقية لإنسان الشرق مما دفع بالراحل الكبير ادوار سعيد الى نقده وتفنيده، نحن على أبواب استشراق مادته الإرهاب والعنف وثقافة الموت. كيف نتصدّى له؟ سؤال يخيّل اليّ، سيبقى معلقاً فوق رؤوسنا لأطول مما نتصوّر.

جاد الحاج

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...