رسائل واشنطن ولندن لدمشق: كل شيء مقابل لا شيء

21-11-2006

رسائل واشنطن ولندن لدمشق: كل شيء مقابل لا شيء

الجمل- سعاد جروس:  ركز الإعلام خلال الأسابيع الأخيرة على دعوات دولية وأميركية لفتح حوار مباشر مع سوريا وإيران, لإيجاد مخرج للأزمة في الشرق الأوسط. وبدا كأن الحل بات وشيكاً حيث ذهبت التوقعات باتجاه حدوث تغيير جذري في السياسة الأميركية بعد انتخابات الكونغرس التي جاءت على عكس ما تشتهي إدارة بوش. إلا أن تصريحات بلير ­ بوش الثلاثاء الماضي أعادت التوقعات الى المربع الأول. فهل يعتبر ذلك رفعاً لسقف شروط فتح حوار مباشر مع سوريا, أم هو تصعيد لمداراة عمق التورط في العراق؟

بعد دعوات ونصائح وجهها مستشارون وسياسيون مقربون من مراكز صناعة القرار في كل من أميركا وبريطانيا, تفاءلت التوقعات بقرب عقد صفقة أميركية مع سوريا, بلغت ذروتها الاثنين الماضي قبيل إلقاء بلير كلمته السنوية عن السياسة البريطانية الخارجية, وقبيل انعقاد لقاء بوش ­ أولمرت. بدت الأمور وكأنها حسمت نهائياً لمصلحة التسوية في الشرق الأوسط. بيد أن خطاب طوني بلير جاء ليخفض سقف التوقعات التي أشارت الناطقة باسم الخارجية البريطانية إلى أن بلير سيدعو إلى إشراك دمشق وطهران في الجهود الرامية إلى تحقيق السلام. وفعلاً وجه بلير الدعوة, لكن بالصيغة الأميركية المكرورة, الحاملة قدراً من التهديد, مخيراً سوريا بين «الشراكة الجديدة» في الحل أو «العزلة الدولية», وهو ما قرأه السوريون على الدوام على أنه اشتراط تقديم كل شيء مقابل لا شيء. إذاً لا تحمل دعوة بلير جديداً سوى كلمة «شراكة جديدة».
وقد اعتبر المحللون دعوة بلير لسوريا هذه, نتيجة للقاء أجراه مبعوثه نايغل شينوالد مع الرئيس الأسد في دمشق منذ أكثر من أسبوعين. وكان هدف اللقاء بحسب مصادر بريطانية, حث السوريين على «الاختيار بين تبني موقف بناء أكثر في المنطقة, أو الاستمرار في دعم الإرهاب وتحدي الأسرة الدولية». ولقد شجع المبعوث البريطاني قيام وزير الخارجية السوري وليد المعلم بزيارة إلى بغداد, من المتوقع أن تتم في المدى المنظور. وقد قال المعلم للصحفيين خلال الملتقى الإعلامي الأول الذي أقيم في القنيطرة منذ أسبوعين, بأن زيارته الى بغداد لا تزال قائمة وستتم قريباً, من دون تحديده موعداً معيناً. وبالمقابل ذكرت مجلة «ذي ايكونوميست» البريطانية, ان الأسد وضع عدة مطالب شرطاً للقبول بالعرض البريطاني, تتعلق بالوضع في لبنان, والكف عن تهديد سوريا, واستعادة الجولان.
أميركياً, وقبيل وصول رئيس الحكومة الإسرائيلية ايهود أولمرت إلى واشنطن للقاء الرئيس بوش, اتجهت تصريحات المسؤولين الأميركيين نحو تشجيع فتح حوار مباشر مع سوريا وإيران. بينما كان أولمرت يقول للصحفيين وهو على متن الطائرة, إن إيران لن ترضخ إذا لم يكن هناك ما يخيفها. ما فهم منه أنه سيركز في مباحثاته على انتزاع ضمانات أميركية, تشترط ألا يأتي الحوار مع إيران على حساب إسرائيل. وقد تمحورت مباحثاته مع بوش حول الملف النووي الإيراني, وتمكن من الحصول على طمأنة, بأن السياسة الأميركية تجاه إيران لن تتغير. كذلك حذر أولمرت من أن الانسحاب الأميركي من العراق سيهدد أمن دول الجوار «المعتدلة». وبذلك سجل بوش بتصريحاته التي تلت لقاءه بأولمرت تراجعاً في ما يخص فتح حوار جدي ومباشر مع إيران وسوريا, سبق وأعلن عنه البيت الأبيض. وقد قال بوش, إن سياسته نحو سوريا «واضحة», و«ينبغي على سوريا الخروج من لبنان والتوقف عن رعاية الإرهابيين ودعم الراديكاليين الذين يسعون الى إعاقة الديمقراطية في الشرق الأوسط. وأن يساعدوا الديمقراطية الناشئة في العراق على النجاح». وأضاف مشدداً: «نريد حدوث تقدم نحو السلام من قبل السوريين». بوش كالعادة, لم يذكر شيئاً عن المقابل الذي سيمنح لسوريا لقاء تلك المطالب, أي أن عرض بوش مثل دعوة بلير, عبارة عن مطالب للحصول على كل شيء مقابل لا شيء.
تزامنت زيارة أولمرت للولايات المتحدة الأميركية مع التقاء كل من بلير وبوش مع لجنة بيكر للإدلاء بشهادتيهما بخصوص إعادة تقويم الوضع في العراق. وقد حرص رئيس الحكومة الإسرائيلي على تذكير بوش بالمصالح الإسرائيلية, وانعكاس أي تغيير في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط عليها, وأي حل مرتقب لا يجب أن يهملها, خصوصا بعد فوز الديمقراطيين بانتخابات الكونغرس ما ينذر بحدوث تحول في هذه السياسة. وتشير التكهنات الى أن بوش الذي أضعفته الخسائر الانتخابية في الداخل والانتكاسات في العراق, قد يحاول تتويج رئاسته بإحراز تقدم على صعيد الصراع العربي ­ الإسرائيلي؛ وهو الملف الثاني بعد العراق والذي ستحتاج فيه الإدارة الأميركية الى اجراء حوار مع سوريا بخصوصه. ولكن إلى أي حد يمكن أن تنجح مساعي إسرائيل في إعاقة أي فرصة لمعالجة قضايا الشرق الأوسط ضمن ملف واحد تشارك فيه دول الجوار؟
لا شك في أن ذلك يتوقف على النتائج والتوصيات التي ستخرج بها لجنة بيكر المتوقع تقديمها قبل نهاية العام الحالي, ونتائج الاتصال الدبلوماسي ما بين لندن وواشنطن من جانب وبين واشنطن وتل أبيب من جانب آخر, وتقديم كل من بوش وبلير شهاداتهما للجنة بيكر المكلفة. وبناء عليه سيتم رسم مخرج للإدارة الأميركية من ورطة الملف العراقي وبقية الملفات الشرق أوسطية الأخرى. ويرى معظم المحللين الأميركيين أن لا حل ممكن للأزمة في العراق من دون مشاركة سوريا وإيران ودول الجوار. وتوقعت صحيفة «الديلي ستار» أن لجنة بيكر سوف توصي بتقسيم العراق إلى ثلاث مناطق تتمتع بالصلاحيات الفيدرالية والاستقلال الذاتي الكبير, وذلك على نحو يقلص دور الحكومة المركزية العراقية, بحيث يكون مقتصراً حصراً على العلاقات الخارجية وبعض الأمور السيادية الأخرى, وإلقاء مسؤولية الأمن على عاتق الكيانات الإقليمية على أن تكون كل مجموعة مسؤولة عن منطقتها بما يخفف عن الحكومة المركزية القيام بتحمل المسؤولية كاملة. كما سيوصي تقرير اللجنة برعاية أميركية لمؤتمر دستوري بين الأطراف العراقية لتقاسم السلطة بين الحكومة العراقية المركزية والكيانات العراقية الإقليمية الثلاثة, بالإضافة الى عقد مؤتمر دولي حول العراق للضغط على سوريا وإيران لكي تقوما بدعم المخطط الأميركي الجديد حول العراق. ويعتقد المحلل السياسي والمفكر ميشيل خوسودوفيسكي, بأن الاستراتيجية الأميركية الجديدة التي ستتمخض عن تقرير لجنة بيكر, ستؤدي على خلفية خطوط التقسيمات الاثنية والثقافية والطائفية والدينية في منطقة الشرق الأوسط ­ قياساً على تجربة تقسيم يوغوسلافيا­ بألا تكون حصراً ضمن العراق, بل سوف تمتد تداعياتها وتأثيراتها في سوريا وإيران, وهو ما يريده ويهدف إليه البنتاغون ضمن مشروع €الشرق الأوسط الجديد€.
ما يعني أن التغيير المتوقع سيطاول التكتيك ولن يقارب المشروع الاستراتيجي الذي سيبقى قائماً, وهو إعادة رسم خريطة المنطقة. إلا أنه وحيال تفاقم الأزمة في العراق وتصاعد العنف سيكون الطريق إلى تنفيذ المشروع أطول بكثير مما كان مرسوماً له, ويحتاج إلى تسجيل نجاح حقيقي, وهو أمر لغاية الآن يبدو صعباً للغاية, ويزداد صعوبة يوماً بعد آخر, مثلما تزداد الحاجة الى الدور السوري ­ الإيراني, والمعضلة أن كلاً من سوريا وإيران لن تقدما ما يتعارض مع مصالحهما. فالمساعدة على تحقيق نجاح المشروع الأميركي في العراق, يتناقض مع رفض سوريا المشروع الأميركي في المنطقة, والتسوية تقتضي تراجع أميركا عن مشروع الشرق الأوسط الجديد. ورغم ما حصدته أميركا من فشل ذريع في العراق ولبنان وفلسطين, لا يبدو أنها ستتراجع عن مشروعها, وبالتالي فإن أي حوار مع أميركا سيؤدي الى طريق مسدود, وأن لا مجال أيضاً للحصول على الدعم السوري سوى عبر الضغط والتهديد بالعزلة الدولية.
لو عدنا الى مناقشة الوضع في العراق من وجهة النظر الأميركية للحلول المقترحة, في ما يتعلق بالكونفيدارلية, فإن المعلومات الصادرة عن مراكز بحث أميركية, تؤكد أن الوضع على الأرض يزداد تعقيداً, والقادة العراقيون يسهمون بشكل كبير في تأجيج النزاعات الطائفية, من خلال تعمد تجاهل إعمار المناطق السنية, وإبقاء تلك المناطق بؤراً للتوتر. مما دفع الكاتب والمحلل السياسي في «النيوزويك» فريد زكريا إلى التساؤل: كيف تتجاهل الحكومة العراقية مطالب إعادة إعمار المناطق السنية التي تتعرض لعمليات عسكرية كاسحة, في حين يتم إعمار المناطق الشيعية والكردية؟! وقال معلقاً: «يلعب الكثير من القادة العراقيين لعبة قذرة, إنهم ينددون علناً بأعمال الجنود الأميركيين ليحظوا بالشعبية, ومن ثم يوافقون سراً على استمرار التدخل الأميركي. ونتيجة لذلك ارتفع عدد العراقيين الذين يؤيدون الهجمات على القوات الأميركية وبلغت نسبتهم 61€». وطالب بإجراء مصالحة وطنية تضمن للسنة حقوقهم بدل تحويل أراضيهم إلى منطقة تسيطر عليها القاعدة, مؤكداً أن استمرار تعريض السنة للتهميش سيدفعهم الى النزوح الى دول الجوار والعمل على الأخذ بالثأر. كما دعا إلى التفاهم مع سوريا وإقناعها بأنها لن تستفيد من تفكك العراق, ولا سيما وهو يؤدي إلى تدفق اللاجئين وإثارة توتر الأقليات المتململة الموجودة فيها. ومع أن كل ذلك يشير إلى إدراك الأميركيين لأهمية الدور السوري في العراق والمنطقة, إلا أنهم لا يشجعون على تلبية المطالب السورية, ويصرون على سياسة الضغط لحضها على لعب دور إيجابي دونما مقابل ولا ضمانات.
سوريا, بدورها, عكفت على دراسة السيناريوات المحتملة بعد التغييرات في الداخل الأميركي وتفاقم المأزق العراقي, وانعكاس نتائج الحرب الإسرائيلية على لبنان على الأوضاع الإقليمية, وخرجت بقناعتها السياسة ذاتها, وهي المزيد من التريث. وبحسب مصادر مطلعة قالت لـ«الكفاح العربي» ان السياسة الأميركية في المنطقة تحصد الخسارة تلو الخسارة, فقد أخفقت في تقسيم العراق, كما فشلت بزعزعة النظام في سوريا, ولم يتأثر المواطن السوري رغم الحصار والعقوبات الاقتصادية, ولم تحدث خلخلة في الداخل. ومع أن أميركا عمدت إلى انتزاع ورقة لبنان من السوريين ولعبت بورقة اغتيال الرئيس رفيق الحريري, وكان من المنتظر أن يتسبب الانسحاب العسكري السوري وسحب العمالة السورية من لبنان بكارثة اقتصادية واجتماعية, إلا أن شيئاً من هذا لم يحدث, بل أن لبنان عاد وطلب العمالة السورية. كما أظهرت الوقائع على الأرض, أن لبنان لا يمكنه المضي حتى النهاية بسياسة العداء لسوريا, وبالتالي فشل الرهان الأميركي, ثم جاءت المعركة الطاحنة التي شنتها إسرائيل بالوكالة على المقاومة اللبنانية, ولم تحصد سوى الإخفاق الذي تم رتقه بقرارات دولية. والآن يريدون فرض التعاون على سوريا في العراق من طرف واحد, وليس من الوارد أن يحصل الأميركان على نتائج مرضية ما لم تتم تلبية, أو على الأقل مراعاة المطالب السورية.
حالياً, ليس من الممكن التعويل كثيراً على نتائج الانتخابات الأميركية ولا حتى على التوصيات التي ستتمخض عنها دراسة لجنة بيكر, طالما أن أميركا تتجاهل مصالح الأطراف الأخرى, وتصر على اعتماد سياسة القوة والتهديد والعقوبات كوسيلة لتحقيق أهدافها. وتشير المصادر إلى أن كل محاولات العزل, لم تفلح في إضعاف الأوراق السورية الإقليمية, بل ازدادت قوة. وبالمقارنة بين الظروف والضغوط الدولية والداخلية التي تعرضت لها سوريا في الثمانينيات حين كان العالم مقسوماً إلى معسكرين, تبدو سوريا اليوم أكثر قوة, ولا يمكن تجاهل دورها في المنطقة, وقد بدأ المجتمع الدولي يعترف بذلك, ولن يطول الزمن حتى يعترف بمصالحها أيضاً.
لا شك في أن لعبة الزمن والانتظار دون ملل, هي اللعبة السورية المفضلة. وبعيداً عن الترويج الإعلامي المحموم لدعوات فتح حوار مباشر مع سوريا, يبدو أن زمناً طويلاً سيمر, قبل الوصول الى طاولة حوار تجمع الأطراف كافة لإيجاد تسوية مقبولة لدى الجميع.

بالاتفاق بالكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...