الإسلام العربي المفخخ
^يحتكر الإسلاميون الإسلام وينطقون باسمه. يصادرون النص ويدّعون التعددية السياسية والدولة المدنية واحترام حقوق الأقليات والمرأة، علماً ان بنيتهم الفكرية تميل إلى العنف وأحادية التفسير، ونموذج هذه الحالة، «إخوان» مصر وسكوتهم عن انتهاكات «القاعدة» والسلفيين
يطرح المشهد الإسلاموي في العالم العربي، أقله منذ انطلاق قطار حركات الاحتجاج، وما آلت إليه التحولات الدرامية في بعض الدول، لا سيما في الحالتين المصرية والسورية، أسئلة شائكة طالما شغلت الباحثين في قضايا الإسلام: هل العنف نصوصي في الإسلام أم أنه تاريخي؟ هل التشظي العنفي الراهن يعكس أزمة المجتمعات العربية؟ أي دور لفقه منظري الجهاد وفي طليعتهم سيد قطب (1906 ـ 1966) في التعبئة الإيديولوجية التكفيرية التي تتمترس خلفها الجماعات الجهادية؟ لماذا لم يتمكن الإسلام في مجالنا من الانخراط في الحداثة على نقيض الإسلامات الأخرى؟
تشي الأوضاع المضطربة والمطّردة الطاغية على دول الحراك العربي بنتجية أولية مفادها: أن الإسلام العربي في أزمة خطرة مع ذاته ومحيطه الأوسع. وبصرف النظر عن التحليلات التي تتحدث عن قوى خارجية وداخلية محرِّكة لهؤلاء الجهاديين خصوصاً في المرحلة الأخيرة، انطلاقاً من المحرك السياسي والصراعي على هوية الدول العربية وماضيها ومستقبلها، نستطيع القول وبشيء من التجاوز إن الإسلام العربي أمام انزياحات كبرى، وهو يتعرض إلى التفجير والتذرير من الداخل، ليس بسبب عنف الجهاديين فحسب، وإنما أيضاً نتيجة طغيان البنى القبلية على التمدين، والبداوة على الحضارة، والمذهبي على التشاركي، بعدما حولت كل فرقة في الإسلام نفسها إلى الفرقة الناجية، وكفرت خصومها من المذاهب الأخرى، على نقيض الحديث النبوي القائل "مَنْ رَمَى مُؤْمِناً بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ".
لم يسمح الإسلام في مجالنا العربي لأي تطور أو تجديد في سياسته وأفكاره وثقافته، إلاّ في حقبات متفاوتة، وقد اقتصرت الحداثة على النخب الفكرية، ولم تستطع اختراق المجتمعات العربية القابعة في بناها ورؤيتها الإقصائية تجاه الآخر والعالم الذي يتعملق بعلم في حين أن عالمنا العربي يتقزم بوهم؛ وهمٌ أسطوري ماضوي غير قادر على تطليق الأصل والتأسيس لإسلام متصالح مع التطورات العلمية، نتيجة مناعته الذاتية ورهاب التحديث الذي يُعتبر ردة فعل سلبية تجاه الصدامات المتكررة مع المتغيرات الحاصلة عالمياً، علمياً وثقافياً ومجتمعياً. لم يسجل المسلمون العرب لحظة وعي تاريخي تبعد عنهم هذا التطاحن والفتنة المديدة. العنف الديني الذي نعاصره اليوم، بقوالبه المذهبية والجهادية يعكس وضعية المجتمعات العربية المأزومة، والثقافة المأزومة، والإسلام العربي المأزوم.
يصور بعض التراث الديني في الإسلام الله متجهماً غضوباً منحازاً إلى جماعة مسلمة دون أخرى. هذه الصورة جزء من الثقافة وقد تركت تأثيرها العميق على نظرة المسلمين إلى بعضهم البعض، وهي لا ترتبط بالدين نفسه. كرّس القرآن قيمة الإنسان العليا، وقدم خطاباً إنسانوياً تدل عليه الروحانية القرآنية أو الأنتروبولوجيا الروحانية القرآنية، على حد تعبير محمد أركون، التي تعني الصورة المقدمة عن الانسان في القرآن، وهي صورة رفيعة ومليئة بالقيم الروحية، تؤكد منزلة الشخص البشري في الكتاب المقدس، أياً كان إنتماؤه الديني أو العقدي.
الحاصل أن العنف الإسلاموي في العالم العربي لا تتعلق أسبابه وانشطاراته بالأبعاد الدينية والتفسيرات الفقهية الأحادية والتوهيم الديني بدعوى الإطلاقية فقط. ثمة تراكم تاريخي للفشل، والفشل المقصود هنا، فشل التحديث المجتمعي والثقافي والسياسي، والدين بهذا المعنى جزء من كل. لا ريب أن الأنظمة العربية الناشئة منذ مرحلة الاستقلالات لم ترد تطوير مجتمعاتها، واكتفت باحتكار السلطة ونهب الثروات بدل استثمارها في الإنسان والأوطان، وقارعت السوسيولوجي بالإيديولوجي وتعاطت مع الأزمات الدورية بالمعالجات القطعية عوض إرساء التمدين.
إن العنف الديني الراهن في المجتمعات العربية وما ينتج عنه من أحداث غير مسبوقة تحاصرنا، يحتاج بالضرورة إلى تفسير علمي يأخذ بالاعتبار مجمل المشاكل المتراكمة في أبعادها الاجتماعية والسياسية والثقافية. لعل الطرح الذي تقدم به الإسلام الجهادي والسياسي، كما يذهب إلى ذلك أستاذ علم النفس العلاجي فتحي بن سلامة، محاولة القول إن مآسي المسلمين ليست سوى جزاء عادل لجريمة الابتعاد عن الأصل أو البدايات، أي أصل الإسلام ومنابعه. إن التبعات المترتبة على هذا المتخيل الذي يدرجه الإسلامويون في إطار احتكار الإسلام والنطق به ومصادرته، يحيل هو الآخر على العجز الذي يتخبط به الجهاديون ودعاة الإسلام السياسي نتيجة جفاف أفكارهم وأصوليتها، وإن ادّعى الإسلامويون السياسيون النقيض وتشدقوا بالتعددية السياسية والدولة المدنية واحترام حقوق الأقليات والمرأة، فهم ما زالوا في بنيتهم وأفكارهم يميلون إلى العنف وأحادية التفسير، وإلاّ كيف تفسر حساسيتهم المفرطة تجاه الحداثة السياسية، وهذا التلاحم الوظيفي الملحوظ بينهما الذي اتضح بشكل فجّ في الأنموذج المصري بعد سقوط نظام «الإخوان» المسلمين وتدرجهم الدفاعي نحو القطبية وكذلك سكوتهم عن انتهاكات القاعديين والسلفيين بدلاً من إجراء مراجعات نقدية جوهرية.
يتعرض الإسلام العربي الى تفجر داخلي غير معهود ولا تكمن مخاطر هذا الانفجار العنفي في الحال التي وصل إليها الإسلامويون تحديداً الطرف الجهادي/ التكفيري منهم فحسب، هناك لوثة مذهبية جماعية عربية عميقة الجذور، كشفت عن نفسها وعن أمراضها في مرحلة التحولات الهائلة التي نمر بها، فالمستور التاريخي خرج إلى العلن، وعمل الفقه الإقصائي/ المذهبي على تأطيره طوال عقود، فمن ينقذ الإسلام القرآني/ التسالمي من أهله؟
يمثل الإسلام العربي اليوم صورة ملحمية لجهاد المذاهب المسلح، وأصبح أرضاً جاذبة للعنفيات المجتمعية والسياسية. وكي لا نُتهم بالإجحاف فكثير من المسلمين العرب يريدون العيش بسلام خارج الإيديولوجيات الدينية ويهدفون إلى تشكيل هويتهم المتصالحة مع العالم. من الممكن الرهان على هذه الشريحة التي بدأت إرهاصاتها، لكن ذلك لا بد أن يترافق مع تنقية التراث الإسلامي من كل الشوائب العنفية والمذهبية، ومع بناء دول حديثة، وتحديث فهمنا للدين خصوصاً أن الإصلاح الديني الحقيقي بات أمراً ملحاً وضرورياً لا بد أن تنهض به كل المؤسسات المعنية. عسى أن يتمخض عن هذا الانفجار صدمة إيجابية قابلة إلى تجفيف منابع العنف في النفوس والنصوص عبر تكثيف التلاقي والتصالح مع التاريخ ومساءلته وطيّ صفحاته المؤلمة.
ريتا فرج
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد