التجارب المسرحية السورية.. بوصلة ضائعة
تجمع جميع الدراسات العلمية والنفسية على أن الإنسان قد ابتكر ثلاث وسائل عبر مراحل تطوره التاريخية المختلفة في محاولاته تفسير العالم المحيط به، وليجعل للحياة معنى مقنعاً ولوجوده وتصرفاته وعلاقاته المختلفة مع محيطه وهي: الدين، والفن، والفلسفة. يبقى الفن الذي توسط ضمن السياق التاريخي للتطور البشري الابتكارات الثلاثة من أكثرها تأثيراً عليه، لكون الدين وطقوس العبادة المرتبطة به تمنحه الطمأنينة والراحة من أجل تجنب خطر المغيبات وقوى الطبيعة المدمرة من حوله، والفلسفة التي تحاول تفسير المجهول بأسلوب عقلي منطقي، لذا يبقى الفن الأقرب إلى روحه ونفسه في بحثه عن معنى وجوده، ويعتبر المسرح في جميع صوره وتجلياته المختلفة أعظم وأكمل أنواع الفنون المختلفة وأجلها على الإطلاق، لكونه الأب الروحي لجميع الفنون الأخرى.
ورافق تقدم الحضارة الإنسانية تطور تلقائي للفن المسرحي بمختلف عناصره المختلفة والمتداخلة فيما بينها، كان من أكثرها وضوحاً البناء المسرحي، الذي يدل على رغبة الإنسان بإنشاء مكان مخصص للعروض المسرحية وتجهيزها بكافة الوسائل والمعطيات التي تخدم العرض المسرحي، نظراً للأهمية التي كان ينظر بها لهذا الفن على أنه حالة طقسية اجتماعية للتعبير عن الرأي والطقوس الدينية والدنيوية المتنوعة.
وتشير مجمل الأبحاث التاريخية والأثرية بأن الحضارات القديمة بالمجل عرفت المسرح ومارسته بطرق وأشكال مختلفة عن بعضها البعض، لكن في الوقت نفسه لم تستطع مجمل هذه الدراسات التي تناولت المسرح تحديد الخصوصيات والشكل الدقيق لجميع النواحي الجمالية والتفصيلية أو حتى رسم معالم واضحة للعروض المسرحية وكيفية الأداء التمثيلي والإخراجي للعروض المسرحية التي كانت تقام في تلك الفترة الموغلة في القدم، ويعود السبب في ذلك إلى عدم الوصول لأدلة قطعية، لكن مجمل ما توصل إليه الباحثون والدارسون هو إشارات وشذرات تبين طبيعة هذه المسارح من الناحية الفكرية والفنية والمكانية، لكنها تجمع على أن الغالبية العظمة منها انطلق من بنية المعابد وأماكن العبادة المختلفة.
لمحة عن تطور البناء المعماري للمسرح اليوناني
لا يعود السبب وراء عرضنا لتطور البناء المسرحي عند اليونان كونهم الأقدم أو السباقين تاريخياً في تطوير وإيجاد هذه الفن، إنما لاعتبارات أخرى مردها أن البناء المسرحي عند اليونان القدماء هو من أكثر التجارب والأساليب تأثيراً واستنساخاً وتقليداً حتى يومنا هذا، حيث تشير إحدى النظريات إلى أن تطور مفهوم البناء المسرحي عندهم من العربات العروض التي كانت تقدم على عربات جوالة كما هو لحال مع ثيسبيس الذي فاز كما تشير المراجع التاريخية بأول جائزة للدراما الإغريقية عام 535 قبل الميلاد، حيث كتب هوراس عن عربة ثيسبيس التي كان يجول بها البلاد مؤدياً عليها أدواراً ومشاهد مختلفة من الملحمة الإلياذة. لكن ما الذي دفع اليونانيون القدماء مسارح كبيرة وعظيمة مثل الأكروبولس الذي ما تزال آثاره باقية إلى الآن؟ يعود السبب في ذلك إلى الطقوس الدينية وعبادة الإله ديونيسوس الذي تحول مذبحه إلى دائرة كبيرة واسعة سميت لاحقاً بحجرة الاوركسترا، بينما تحول مكان الجمهور تلقائياً إلى مدرجات حجرية كبيرة بنيت بالأحجار خلال العصر الهيلينستي، وقد يكون أفضل هذه النماذج وأكملها من ناحية السلامة هو مسرح يوربيدس الذي تم بناءه في القرن الرابع قبل الميلاد، باعتباره لا يترك مجالاً للحدس أو التخمين من حيث المدرجات وطريقة البناء والمدرجات وغيرها، فهي ما تزال محتفظة بشكلها وتوزيعها وملامحها البنائية إلى يومنا هذا. تحول البناء المسرحي إذاً إلى فضاء يلائم تقديم العروض التي كانت تقدم في أحضان الطبيعة على منحدرات التلال، والشمس هي عنصر الإضاءة الأساسي، الجمهور يؤلف المركزية الروحانية والبصرية والهندسية، إضافة إلى التشكيلات التي يقدمها الممثلون، ولم يعرف تاريخ المسرح أمكان مغلة لتقديم العروض المسرحية بمعناها الدرامي لا الديني أو الطقوسي إلا في فترة العصور الوسطى وعصر النهضة.
تطور البناء المعمار المسرحي في العصور الوسطى وعصر النهضة
أدت عوامل كثيرة إلى تغييب العروض المسرحية الدرامية في العصور الوسطى، أهمها تحريم الكنيسة للتمثيل واعتبار الممثلين أو العاملين بالفن المسرحي بشكل عام من الزنادقة أو المهرطقين، لكنها عادت مرغمة على استثمار الفن المسرحي لنشر تعاليمها، عندما قدمت بعض المشاهد التمثيلية داخل الكنسية أثناء الأعياد، التي جسدت قيامة السيد المسيح وصعدوه إلى السماء، من أشهر هذه التمثيليات هي المريمات الثلاث، هذه التغيير أدخل العرض المسرحي إلى داخل القاعات المغلقة، وبشكل تدريجي أستطاع الفن الدرامي البعيد كلياً عن المفاهيم الدينية ومعتقداتها وتعاليمها بالظهور مجدداً في عصر النهضة، حتى بات يقدم في قصور الملوك والأمراء، مما حفز بعض الأمراء والملوك على بناء مسارح كبيرة خارج قصورهم، تطورت تدريجياً مع تطور الفن المسرحي نفسه بعناصر المختلفة من كتابة نصوص مسرحية وأداء وموسيقا ورقص وفنون تشكيلية من نحت وتصوير، بينت على أثرها دور الأوبرا والمسارح الضخمة، كما قدمت بعض العروض في الشوارع والساحات العامة، لكن بقي المسرح خاضعاً لمركزية البناء المسرحي مختلف الأشكال ولأحجام، ومن أكثر نماذج البناء المسرحي سيطرة في تلك الفترة هو العلبة الإيطالية، الذي كان يحدد طبيعة مسبقة للعرض المسرحي من حيث الكتابة وأسلوب الأداء وتوزع الأدوار وحركة الممثلين على الخشبة.
العصر الحديث... كسر جميع القوالب الثابتة والتمرد على المألوف
شهد العصر الحديث العديد من الحروب والثورات والانقلابات الجذرية في المفاهيم والقيم والعلاقات بين أفراد المجتمع الواحد في جميع بلدان العالم أجمع، هذه التغييرات والتبدلات والفوضى التي عمت العالم، كان لها تأثيراً كبيراً على جميع أنواع الفنون وأشكالها المختلفة بما فيها المسرح، حيث ظهرت تجارب ومدارس مسرحية كثيرة منها ما توقف سريعاً مثل المدرسة الدادائية والسريالية، ومنها ما استمر لفترات أطول من سابقاتها مثل الرمزية والتعبيرية، ومنها ما تزال آثاره على الحركة المسرحية مستمرة إلى يومنا هذا كما هو الحال مع مسرح العبث أو الطليعي أو الا معقول، وإن اختلفت تسميات هذه الحركات أو المذاهب أو التيارات المسرحية، إلا أنها اتفقت جميعها على التغيير والثورة بهدف كسر جميع القوالب السابقة فيما يتعلق بجميع عناصر العرض المسرحي، بما فيها طبيعة التلقي لدى المشاهد، ومن أهم المسرحيين أصحاب التجربة في مضمار شكل العرض المسرحي إدخال المشاهد إلى أماكن غير اعتيادية أو مألوفة لمتابعة عرض مسرحي، هو المسرحي البولوني تادوتز كانتور«1915-1990م» الذي ينتمي لتيار ما بعد الحداثة الذي يهدف إلى تدمير المركز بمعناه الفكر والدلالي والمرجعي، ويدعو إلى الا مبالاة وإلى خيانة جميع المقولات والمفاهيم الكبرى كالإنسانية والدين والأخلاق والوطنية والحب... إلخ، وفي ما يخص المسرح دعا هذا التيار إلى كتابة نصوص مسرحية لا مرجعة تذكر لها، تدعو إلى تغيير كل ما هو سائد ومتعارف عليه من مقولات ومفاهيم وأنماط وإحلال نوع من الفوضى والعديمة الإنسانية في الوجود الإنساني بدلا عنها، هذا ما أوجد أثراً كبيراً على طبيعة العرض المسرحي وإحلال مفاهيم وتعاليم جديدة عوضاً عنها.
عمل كانتور في الرسم والفن التشكيلي والسينوغرافيا قبل انتقاله للإخراج المسرحي، حيث أوجد في بداية عمله إخراجي مسرح الهابننج happening التجريبي. أثناء الحرب العالمية الثانية أسس كانتور مسرحاً سرياً في أحد الأقبية البعيدة عن أعين الجيش النازي أطلق عليه «مسرح ما تحت الأرض» وشكلت مرحلة الاحتلال النازي فترة درس خلالها كانتور فكرة الطليعية في الفن، وعلى الرغم من إغلاق الاحتلال جميع مسارح العاصمة البولونية، استطاع كانتور أن يعمل ويقدم مسرحية «عودة أوديسيوس»في شقته الخاصة الذي تحدث عنه قائلاً:«أضفت بعض المقاطع من حياتنا اليومية في ظل الاحتلال، هذه التفصيل المزعجة والمفزعة في الوقت نفسه: أسلاك شائكة، جثث متفحمة، عجلة عربة متهالكة، حوض غسيل مكسور.. الخ» بعد انتهاء الحرب العالمية تدخلت الحكومة الجديدة بالفن وطبيعته وحددت الكثير من القوانين باسم الواقعية الاشتراكية، كما منعت السلطات كانتور من الاشتراك في الحياة الفنية كما حرمته أيضاً من درجته العلمية وعمله كأستاذ في الجامعة، ليعود إلى عمله السابق كفنان تشكيل وسينوغراف، لنتهي بذلك تجربته في البحث عن مكان مسرحي جديد خارج المكان التقليدي، لكن تجربته هذه شجعت المسرحيين من بعده على تبني فكرته وطروحاته الجيدة. ومن أهم مقولاته التي تلخص تجربته القصيرة:«إنني أشعر بالخجل وأنا جالس على مقعد مريح في صالة أتابع عرضاً مسرحياً»
التجارب المسرحية السورية.. بوصلة ضائعة
من الصعب إيجاد معلومات محددة أو موثقة عن أول عرض مسرحي سوري قدم خارج البناء التقليدي، إنما هناك العديد من المحاولات المتفرقة والتي تعود إلى مراحل زمنية مختلفة قدمها عدد من المخرجين السوريين لأهداف متباينة تخدم طبيعة عرضهم بالدرجة الأولى، لأنها لا تشكل تياراً أو مدرسة مختلفة عن السائد.
-من أولى هذه التجارب مسرحية «ثلاث حكايات: حكاية ضربة الشمس-حكاية صديقنا شانسو-حكاية الرجل الذي صار كلباً» للكاتب الأرجنتيني أوزاولدو دراكون الذي قدمه الراحلان المخرج فواز الساجر والكاتب سعد الله ونوس ضمن تجربتها القصيرة نسبياً مع المسرح التجريبي، حيث عمل الساجر على تقديم عرضه في المعامل المختلفة ذاهباً إلى الطبقة العاملة في أماكن عملهم، كما عمل على أيجاد معادل بصري يتلاءم مع الهدف من هذا الخروج عن المكان التقليدي عندما بنى خشبة بشكل مختلف تماماً عن السائد.
-قدم الممثل والمخرج المسرحي الأستاذ فايز قزق قبل عدة أعوام مسرحية «حلم ليلة صيف» لشكسبير مع طلبة دفعة التخرج في منطقة مهجورة من حديقة تشرين بدمشق، حيث عمل مع الطلبة أنفسهم على إعداد وتهيئة المكان ليتناسب مع طبيعة العرض، تم حفر بركة للماء، بنيت مدرجات حجرية، وضعت عناصر طبيعية مختلفة من شجيرات ونبتات...الخ، محققاً بهذه الخروج عن المكان التقليدي قراءة بصرية أخاذة ساعدت المتفرج على الدخول في عوالم النص الميتافيزيقية المختلفة والشائكة، وإيجاد حلول إخراجية متميزة، وضعت الطلبة في الدرجة الأولى أمام امتحان صعب ساعدهم على أبراز مقدراتهم الحقيقية.
-الممثل والمخرج المسرحي الشاب أسامة حلال مدير ومؤسس فرقة «كون» المسرحية فاجأ الجميع عندما اختار نفق «فارس خوري» ليكون فضاء مسرحياًَ لتقديم عرضه «جثة على الرصيف» عن نص للراحل سعد الله ونوس، حيث قدم أعداداً ناجحاً جاء متوافقاً مع القراءة الراهنة لنص كتبه ونوس في عام 1963.
-ومن أحدث التجارب المسرحية التي قدمها المسرح السوري خارج المكان التقليدي، هي تظاهرة مسرح الغرفة للأخوين ملص، وهي تجربة حديثة العهد بدأها الأخوين ملص في العام الماضي عندما قدمها عرض «ميلودراما»في غرفتهما الخاصة والضيقة، قوبلت هذه التجربة بالاستهجان في بداية الأمر لكن استمرار عرضها لأكثر من 200 متواصل أثبت أنها محاولة جريئة واستثنائية تركت بصمة واضحة في المسرح السوري أكدتها استمرار التجربة هذا العام بمشاركة 6 عروض قدمت في الغرفة الضيقة ذاتها. حيث بدأ مجموعة من الشباب المسرحي بكتابة نصوص خاصة وتقديم حلول إخراجية تنسجم مع طبيعة المكان الضيق والبعيد كل البعد عن شروط وظروف تقديم العرض المسرحي بمعناه التقليدي.
باستثناء تجربة التوأم ملص وتظاهرة مسرح الغرفة التي تقدم للعام الثاني على التوالي، لم يقدم المسرح السوري تيار أو نمط مسرحي قائم بشكل أساسي على الخروج من عباءة البناء المسرحي التقليدي، إنما ما قدم لا يتعدى تجارب شخصية وذاتية قدمها عدد من المخرجين، لم تتعد إطار العرض الواحد لكل منهم، فرضت طبيعة العرض عليهم الخروج إلى فضاءت أرحب بعيداً عن جدران البناء المسرحي التقليدي لخدمة عرضهم ليس اكثر.
أنس زرزر –النهضة السورية
إضافة تعليق جديد