العولمة توقظ النزاعات عن سابق إصرار وتصميم
قبل قرن من الزمن وعى الدكتور عبد الرحمن شهبندر أحد رواد النهضة في سورية والعالم العربي مكمن الخطورة في حياتنا وفكرنا، وحددها بفطرة نادرة، وبأنها تتعلق بالتسامح الديني، فبغير التسامح ليس بإمكاننا أن نتقدم خطوة واحدة لمواجهة الأخطار الداهمة المحيطة بأمتنا العربية، وإن كانت الظروف التي عاشها شهبندر قاسية وتتمثل في الوجود التركي في خواتيمه، وفي نزول الاستعمار الأوروبي مكان التركي، فإن الظروف اليوم أقسى وأصعب وأكثر تعقيداً.
يتناول كثيرون مفهوم الأديان والمذاهب بالحوار وبأن الحوار هو الطريق المثلى للوصول إلى نتائج مهمة، وهذا الكلام فيه الكثير من الروح والصواب، ولكن إن كان ثمة ما يسمح بالحوار الجدي والجيد، ولكن ماذا تكون نتيجة الحوار إذا افتقدت أرضية الحوار؟!
المذهبية والطائفية خلاف لا اختلاف!
المفترض أن يكون التنوع المذهبي والطائفي مصدر غنى، ودليل تساهل وتسامح، فكل إنسان يختار الاجتهاد الذي يلبي رغباته، ولكن في مختلف الديانات تحولت هذه المذاهب والطوائف إلى أرضية دينية حقيقية يصارع من أجلها المستفيدون من وجودها، دون إعارة اهتمام إلى أن هذا الخلاف يمكن أن يكون مفيداً..
وهذا الكلام ليس ضرباً من الإنشاء، فقد حفلت كتب التاريخ الغربي والعربي على السواء بقصص صراعات وحروب طاحنة قامت من أجل الفروق التي كان من المفترض أن تكون دليل غنى، وأن تكون من أجل حياة أكثر راحة وسهولة، فكيف تحولت هذه الفروقات من سبيل للراحة إلى طريق ممهدة للصراع والاقتتال؟
وما دور المستفيدين في تكريس النظرة العدوانية؟
لم يكن لأي صراع أن يستشري بين الناس لولا وجود المستفيدين، ولكل طائفة أو مذهب مجموعة من رجال الكهنوت وعلماء الدين الذين استطاعوا بفضل هذه التقسيمات أن يحتلوا مكانة مرموقة في الحياة، وأن يعيشوا حياة رغيدة، وأن يمارسوا نوعاً فريداً من السلطة لا يشاركهم فيها نابليون أو أي حاكم في الكون مهما كان مستبداً! فهم يقولون الكلمة التي لا تُراجع، ويدلون بالرأي الذي ليس من حق أحد أن يراجعهم لأنه إن فعل استطاعوا أن يجيشوا ضده جيشاً يشبه ذلك، ذلك الجيش الذي قيل فيه (استنوق الجمل) هذه الحملة يحركها التعصب، ويسيرها رأي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه! وهل هناك أقوى ممن يدعي أنه يتحدث باسم الإله؟
وحتى يضمن هؤلاء استمراريتهم قاموا بتقسيم الغنائم القائمة على هذا المنظور، فأوجدوا أجيالاً ورتباً من المستفيدين الذين سيحرصون على استمرار هذا النهج، ما دام كل واحد يطمح أن يأخذ المكانة العليا ذات يوم، وكان لهم ما أرادوا!
وإلا بماذا نفسر هذا التفريخ المخيف لرجال الكهنوت وعلماء الدين في المسيحية والإسلام؟! بل قد أذهب أبعد من ذلك من خلال معرفتي بهم من الجانبين فأسأل: ما المستقبل الذي ينتظرنا ونحن نجد أن أغلب الذين يذهبون في هذه الطريق هم من المتواضعين علمياً وحياتياً؟!
سنجد حتماً المزيد من التشدد، وسنجد ابتعاداً عن المحاكمة العقلية التي تستدعي نوعاً محدداً من الناس..
فهل من قيمة للحوار بعد كل هذا التقوقع؟
وهل هذا الواقع يعني اختلافاً؟
إن الحوار يفقد ضرورته، ولا قيمة له بعد أن يتمترس كل واحد في خندقه لا يبرحه، ولا يقبل أن يشاركه الفضل أحد.
إذا أردنا أن نكون منطقيين، لنصل إلى حلول لمشكلاتنا المستعصية في باب الإثنيات، علينا أن نعترف أولاً بوجودها، وبعمقها، وتجذرها.. وبعد الاعتراف نقوم بتحديد هذه الفروق.. ولن نجد خلافاً جوهرياً بين الديانات والمذاهب والطوائف، فكلها تتحدث عن الله الواحد، والخير والشر، بل إن هذه التعاليم لا تختلف كثيراً عن الفلسفات الوضعية من حمورابي إلى زرادشت وبوذا من حيث تنظيم المجتمعات والعلاقات، ولكن الخطورة التي نجدها في ثنايا هذه الديانات والفلسفات الوضعية والتي لا وجود لها في الأصل، وإنما تطوع أحد الأتباع بإضافتها لتصبح صفة ملازمة لهذا المذهب أو تلك الطائفة.. وتلك التي تتمثل في نفي الآخر ورفضه رفضاً مطلقاً.. وأنت إن ناقشت أحدهم سينفي وجود هذا الرفض، ولكن ما معنى أن تعقد المؤتمرات والندوات ضمن الجانب الواحد دون الجوانب الأخرى؟ وما معنى أن يفسر أحدهم النصوص الأصلية ليظهر من خلال تفسيره أن من ينتمي إليه على جادة الصواب، وغيره في الضلال؟ وما معنى أن نلصق التهم بالآخر ونهدده بالنار التي أعدها الله للكفار؟ وكيف يمكننا أن نحدد الكافر؟
فهذه اليهودية الديانة الأقدم لا تعترف بالمسيحية، بل عاشت معها صراعاً طويلاً ومريراً، وصل إلى السيد المسيح عليه السلام، وبطبيعة الحال لا تعترف بالإسلام، والمسيحية تعترف باليهودية الأسبق لتكتسب منها الاعتراف ولا تعترف بالإسلام، والإسلام يعترف بالديانتين السابقتين لاكتساب الاعتراف أيضاً، وهذه الحقيقة يحاول الكثيرون نفيها والمكابرة في وجودها، لكنها أمر واقع في الجوهر ولدى الأتباع، وإن كان ما يعلن للآخر أو على الملأ غير ذلك!
وضمن الشريعة الواحدة نجد من يرى نفسه الوحيد الذي يملك الحقيقة، أما غيره فهو ضال! وقد شهدت وقرأت الكثير عن تفسير الفئة الضالة في الإسلام والفئة الناجية، والطريف المؤلم أن كل طائفة أقنعت أتباعها بأنهم الناجون من النار، وسواهم في النار، لأنهم هم الفئة الناجية الوحيدة من النار، ولم يخطر ببال أحدهم أن يسأل: من ذاك الذي وضع نفسه مكان الإله ليحدد ويقسم الجنة والنار؟!
وفي كتب أحد الاتجاهات قرأت أن من ينتمي إلى طينتهم هو المؤمن فقط، أما غيرهم أو غير هذه الطينة فليس مؤمناً!
فإن كانت الكتب والتفاسير والتعاليم بهذه الحدود الضيقة، وتخالف كل ما يعلن على الملأ أثناء الحوار فما الفائدة من الحوار؟ إن كل ما نشهده من حوار ومجاملات ليس إلا في إطار ضم الآخر وإلغائه ليصبح تابعاً، وفي أسوأ الأحوال مجاملاً ساكتاً!
إن أهم أساس من أسس الحوار بين العقائد مفتقد وهو الذي يقول بالاعتراف بالآخر، وهذا لا يعني الاعتراف بوجوده فقط، وإنما الاعتراف بأنه موجود وعلى صواب، ويعبد الله كما يرى وهو محق فيما يفعله من وجهة نظره، وأن يقر الإنسان بأن كل إنسان له الحق في اختيار طريقة الوصول إلى عبادته.. فما دامت نقطة النهاية واحدة عند الجميع وهي الإيمان بالله، فماذا يعني اختلاف طرائق التعبير بين هذا وذاك؟
فما معنى أن يعبد أحدهم الله جالساً، والآخر واقفاً ما دامت العبادة هي الهدف الأساسي؟
وما معنى أن يحب أحدهم هذا القديس أو ذاك؟ أو يحب هذا الإمام أو ذاك، ما دام كل منهما طريقاً للوصول؟
ولكن بقدرة قادر وتخطيط جهنمي تحولت طرائق الوصول إلى شرائع، وصار الهدف النهائي (الإيمان) ثانوياً، فصار من ينتمي إليّ وإن قصر تجاه الهدف النهائي مقبولاً، والآخر غير مقبول لمجرد أنه لا يشاركني في طرائق الوصول!!
يحاول أحدهم وهو يقرأ هذا الكلام أو ما يشبهه أن ينكره مع أنه في قرارة نفسه يراه ويطبقه ويعيشه ويتأثر به ولكن إن أراد أحدهم أن ينكره فلينظر عبر التاريخ الماضي والقريب وعبر الأحداث التي تجري، فإنه سيجد أن القوة تفضح كل شيء وتجعل الصورة مكشوفة.
فما يجري اليوم من حروب على أرضنا العربية، أحد أطرافها خارجي لا ينتمي إلينا، وكل حربه ضدنا تقوم على مبدأ إلغاء الآخر، فهو يرى أنه الخير وأننا الشر، لذلك من الواجب الديني عليه أن يقوم بإفنائنا، وكلما قتل منا أكثر وصل إليه الإيمان ووصل هو إلى الله، ومن لم يصدق فليقرأ دراسات برنارد لويس وغيره من المفكرين الذين يحركون السياسة العالمية، ومن أراد أن يقرأ بصورة أكثر وضوحاً دون أن يكلف نفسه عناء تقليب صفحة واحدة، فليقرأ تقسيمات الإدارة الأميركية: محور الخير ومحور الشر.. المسالمون والإرهابيون، وهل هذه التقسيمات سوى فكر ديني يعني إلغاء الآخر، حتى ولو كان منهم ما دام متعايشاً مع الأشرار؟!
هذا هو التفسير الحقيقي لموقف الدول الغربية من منطقتنا والذي فسر بأنه زلة لسان، على لسان الرئيس الأميركي يوم ألقى خطابه المشهور الأول في مواجهة الإرهاب، وأي تفسير آخر يعد سخرية من قدرة الآخر على القراءة.. وهنا أفترق في القراءة في نقطة واحدة وهي قضية الحروب الصليبية، فما تتعرض له المنطقة اليوم لا علاقة له بفكرة الحروب الصليبية، لأن فكرة الصليبية فكرة أعم وأشمل، تستوعب صراعاً مفترضاً بين أتباع شريعتين تحت ضغوط ظروف اقتصادية واجتماعية أما ما يجري اليوم فهو سعي للسيطرة اقتصادياً واجتماعياً وعالمياً على العالم أجمع، وهذا السعي سيطول بنتائجه المسيحيين المقيمين في مناطق غير قوية سلاحاً واقتصاداً!
وحتى تكون هذه الحروب مقنعة للآخر وقادرة على اجتذاب أكبر قدر من المشجعين حملت اللبوس الطائفي الصغير وضمن طقوس غير خافية، فالله هو الذي أراد لهذه الحرب أن تكون!
والله هو الذي كلف القوي بإنهاء الشرير مقلم الأظافر!
وفي الوقت نفسه الله نفسه هو الذي كلف الآخر بالقتال واعتبار الآخر رمزاً للشر!
وفي كلا الجانبين استغل كل واحد الوتر الديني، لإيمانه بأنه لا يمكن أن يصل إلى أهدافه، ومواصلة قتاله إلا إذا جيّش البسطاء الذين لا يعرفون شيئاً عن جوهر الدين أو الطائفة أو المذهب!!
وتستعر الحروب بين هذا الجانب و ذاك دون توقف، يحددها الإيمان المزعوم من كل جانب.
وفي التاريخ القديم حصلت حروب طاحنة لأسباب جوهرية لبست لبوس الشريعة والمذهب والطائفة!
القوة هي التي تفضح حقيقة الأهداف، فمن ملك القوة هو الذي يدعي أنه على صواب، وهو القادر على الإقناع عبر وسائل كثيرة ومنها في أيامنا وأهمها الإعلام.. ألم يستطع الإعلام أن يكرس فكرة الإرهاب، وفكرة الخير والشر؟
لقد استطاع الإعلام فعل هذا وأكثر، لذلك صرنا نردد مع المرددين أحاديث طويلة عن الإرهابيين، وهؤلاء في الحقيقة ليسوا إلا نتاجاً اختمر في الأرض المالحة من أجل هذا اليوم، ولو لا ما يجري على أرض الواقع لانتهى دون أدنى عناء، ولكن لابد من وجودهم من أجل تغذية الاقتتال الديني والمذهبي والطائفي فهذا النوع من الاقتتال هو الوحيد القادر على الاستمرار لأن وقوده تعاليم غيبية إيمانية لا يملك أي شخص في الكون أن يقف أمامها، مع أنه يراها غلطاً، لأنه إن فعل كان شيطاناً مريداً ومرتداً وجاز قتله، لأنه سيكون منكراً لوجود الله الذي فصّله القوي على مقاسه ومقاس مصالحه، والذي سيتشكل في مرحلة لاحقة حسب رغبة القوي وهكذا..!
وبعد مئات الأعوام هل يستطيع أحدهم أن يثبت ما إذا كان الزنج في قتالهم أو البرامكة أو القرامطة على حق أم لا؟
يمكن لأي باحث أن يستقرئ التاريخ وصفحاته ليصل إلى هذا الحكم، ومن منطلقه الفكري، وكل واحد مقنع في حججه وبراهينه ولكن الأهم أنه ما من أحد يستطيع أن يحدد مصير هؤلاء بعد رحيلهم عن الدنيا.
وجاءت العولمة صيغة جديدة للحياة منذ تسعينيات القرن العشرين، وتناولها الدارسون بالمدح تارة والذم تارة أخرى، وكلاهما على حق أيضاً ولكن الحقيقة التي لا مراء فيها أن العولمة صيغة لإلغاء الآخر وخصوصيته، واستطاعت أن تكون الصيغة الأكثر سوءاً من إلغاء الآخر لاعتمادها على طرفين لا يستطيع أحد مجابهتهما- الدين والقوة-، فمع أنه كان بإمكان العولمة أن تؤدي دوراً إيجابياً مهماً في تقريب الناس، وجعل الكون قرية صغيرة على وجه الحقيقة يستفيد كل إنسان من الحضارة والتقدم، إلا أن الرغبة العارمة في الهيمنة من القوى العظمى أو القوة العظمى جعلتها تستخدم القوة ولا شيء سواها لتحقيق العولمة ولفرض أنموذج واحد من الحياة على الناس، وهو أنموذج التبعية والإذلال وليس التعايش والشراكة، ولتحقيق غاياتها قامت القوة بالاستناد إلى الدين بمفهومه الإنساني لا بمفهومه الربوبي الإلهي، فعمقت الشروخ بين الناس وأيقظت عن سابق إصرار وتصميم وتمويل ما يعزز الفرقة والتشدد، وأبعدت الناس عن المفهوم الإنساني، وفرزت الناس إلى أخيار وأشرار وفق تكريس ديني غير متوازن، فنفت حق الآخر ليس في أن يكون شريكاً فقط، بل ألغت حقه في الحياة!
ونحن إن لم نعِ هذه الحقائق ستبقى صرخاتنا في البحث عن العدالة جوفاء لا قيمة لها، وسينتهي كل شيء لمصلحة القوة، ولمصلحة رؤية دينية تفصّل الدين على المقاس، وتقول على لسان الله ما لم يقله، وتتصرف بإذن منه في إلغاء وجود الآخر مهما كان هذا الآخر نبيلاً أو مالكاً للحقيقة!!
اسماعيل مروة
المصدر: الوطن السورية
إضافة تعليق جديد