الفن الاسلامي لم يقتصر على الزخارف وتجريد العناصر النباتية
وقف الوزير الفاطمي اليازوردي الملقب بسيد الوزراء منتشياً وهو يشاهد المباراة الفنية التي جرت امام عينيه. . لقد كان كل ما يريده الوزير في تلك اللحظة كسر أنف ذلك المتفاخر بفنه، المغالي في تقدير أعماله.
«القصير» وهذا هو اسمه الذي عرف به - وكان القصير تجاوز حقاً كل حد في تقديره لفنه، كما أرهق الوزير بمغالاته في أجرته - ولم لا يفعل ذلك، وهو يدرك جيداً أن لا منافس له على الإطلاق، كما أنه كان يستشعر أيضاً ولا بد افتتان الوزير وغيره من رجالات الدولة الفاطمية بأعماله الفنية وجدارياته المبهرة، وهو الأمر الذي ربما أصابه ببعض الغرور. لذا فقد عمل اليازوردي على استقدام من ينافسه في هذا المجال، ويستطيع بأعماله كسر شوكته. ومن أقدر على كسر شوكة ذلك المغرور غير ابن عزيز أشهر فناني العراق في ذلك الوقت.
كان المشهد مشحوناً بالمنافسة، إذ اتفق الطرفان على الموضوع، وحانت لحظة التنفيذ. وأقسم ابن عزيز أن يرسم لوحة سوف يخال الناظر إليها، أنها تطلع عليه من قلب الحائط، بينما أقسم قصير أن يرسمها على نحو سيخال الناظر إليها أنها تنخرط في الحائط، وتتداخل فيه. ثم شرع كل منهما في وضع تصميم للوحة تمثل فتاة راقصة، وهو الموضوع الذي اتفقا عليه وأراده الوزير، وبدءا العمل بينما ذهب الوزير متشوقاً لرؤية ما أنجزاه في الصباح.
كان كل من «القصير» وابن عزيز مستلقيين على الأرض من الإرهاق، وهما على هيئة مضحكة بملابسهما الملطخة بالألوان والأصباغ حين توجه إليهما الوزير في اليوم التالي، فلقد سهرا طوال الليل حتى أتمّا العمل الذي اتفقا عليه، وها هما يعرضان أمام الوزير لوحتين كبيرتين لراقصة، بدت في اللوحة الأولى وكأنها تشق طريقها في الحائط دخولاً، أما في الأخرى فبدت وكأنها تشق طريقها في الحائط خروجاً. لقد وفى كل منهما بوعده، وأنست روعة العملين رغبة الوزير في الشماتة من ابن قصير، فأغدق على كل منهما ما يستحقه من أموال.
من هما هذان الفنانان البارعان في التصوير، خصوصاً التصوير الجداري؟ وعلى يد من تتلمذا؟ وماذا كانا يفعلان قبل الشروع في تنفيذ أعمالهما التي اقتصرت في ما يبدو على جدران القصور والحمامات، وأجنحة الحريم. وما هي المواد التي كانا يستخدمانها في هذه الرسوم؟ وإذا كانا من المحترفين كما نفهم من الرواية، فلا بد أنه لم يكن لهما عمل آخر غير هذه المهنة التي تفرغا لها، ومارساها لسنوات طويلة، وإلا لما أصبحا على هذه الدرجة من المهارة التي جعلتهما من أصحاب الحظوة لدى الوزراء والسلاطين. فإذا كان الأمر على هذا النحو فأين كل هذه الأعمال الجدرانية التي أنجزاها؟ هل ضاعت؟ هل تم طمسها؟ هل تهدمت ضمن ما تهدم من قصور وحمامات، وإنشاءات أخرى؟ أسئلة كثيرة، لا يوجد في الحقيقة إجابات شافية على معظمها، إذ لا يوجد أي أثر أو حتى شواهد لأثر من أعمال هذين الفنانين، اللذين لم يأت ذكرهما سوى في هذه الرواية التي ذكرناها بتصرف عن كتاب «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار» المعروف بخطط المقريزي، وذلك في سياق حديثه عن براعة مصوري الخلافة الفاطمية، وينوه المقريزي معقباً، أنه تناول هذه الحكاية، بشيء من التفصيل في احد كتبه، ويقول: «لقد سبق لي أن عرضت للموضوع تقييماً مفصلاً في كتاب صرفت فيه القول إلى هذا الأمر، وأعني به كتاب «طبقات المصورين» في فصل بعنوان، ضوء المصباح والمستمتع بصحبته، ويخص سجلات الفنانين».
نحن هنا أمام أقدم كتاب معروف عن تاريخ المصورين، وأساليبهم الفنية، ولكن، أين هو هذا الكتاب أيضاً؟ من المؤسف أن هذا الكتاب الذي ذكره المقريزي لم يصلنا، ولن نستطيع التعرف إلى ما جاء فيه، لأنه بكل بساطة قد فقد ضمن ما فقد من كتب التراث العربي، وكان ذلك الكتاب ولا شك جامعاً لأسماء المصورين والمبدعين في ذلك العصر، شارحاً بالتفصيل طرائق عملهم، وآيات فنهم، وهو أمر كان من شأنه أن يزيل بعض اللبس والغموض اللذين يحيطان بهذه المهنة التي مارسها الكثيرون في ذلك العصر، وإلا لما كان المقريزي أفرد لها كتاباً مستقلاً تناولها فيه بالشرح والتفصيل.
كان الأمر شائعاً في قصور الخلفاء والوزراء الذين كانوا بمثابة رعاة للفن وقتها، ولم يقتصر على تزويق الكتب بالزخارف كما هو شائع، بل انتشرت أيضاً الرسوم الحائطية التي تناولت موضوعات حياتية مختلفة، مناسبة لحياة البذخ واللهو التي كان ينعم بها حكام ذلك العصر. ولا ريب أن مثل هذا النوع من التصوير الحائطي كان يمثل نوعاً من الترف الذي كانت تنعم به الطبقات الحاكمة، ولم يكن منتشراً لدى العامة لكلفته العالية التي كان يشكو منها الوزير يازوردي كما جاء في رواية المقريزي، ونستطيع أن نجزم بأن الموضوعات التي تناولتها هذه الأعمال لم تكن دينية بالطبع، بل تطرقت إلى نواح أخرى مناسبة للأماكن التي تم رسمها بداخلها.
كان هذا يحدث في بداية القرن الحادي عشر في حين كانت أوروبا خارجة للتو من أحط عصورها، وأكثرها تدهوراً، ولا يكاد المرء يعثر من آثار هذه الفترة داخل أوروبا على عمل فني واحد يتطرق إلى موضوعات أخرى غير الموضوعات الدينية، إذ لم يكن لمثل هذه الصور مكان حتى في الكنائس.
واكتفت الكنيسة البيزنطية على سبيل المثال بصور الفسيفساء التي تتناسب مع الطابع التقشفي، واستخدمت في معظم اللوحات التي تعود إلى هذه الفترة الألوان المذهبة، مع اتباع تقليد في التلوين يفرض على الفنان، أو المصور ألا يستخدم في تلوين الملابس سوى اللونين الأزرق والأحمر، خلافاً للجمود الذي تتسم به حركة الأجسام المنتمية لذلك العصر.
فما الذي حدث بالضبط؟ ما الذي وضع تلك الرسوم الكنسية في مكانها الذي تتبوأه اليوم بينما اختفت أعمال القصير وابن عزيز من الوجود وكأنها لم تكن؟ لماذا كتب البقاء لهذه الصور الحائطية التي رسمت في أوروبا في عصور انحطاطها لتصل كما هي إلينا، بينما طمست أعمال المصورين العرب، والمسلمين، حتى ذلك الكتاب الذي كان من شأنه أن يزيل الكثير من الغموض واللبس عن بعض هؤلاء المصورين اختفى هو الآخر، كما اختفت أعمال هؤلاء وغيرهم.
وتستوقفنا هنا تلك النماذج الرائعة للجداريات المصورة التي تعود إلى عهد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك 105 - 125 هجرية، والموزعة على ثلاثة قصور مختلفة وهي قصر «خربة المفجر»، بالقرب من أريحا، والذي يتكون من قصر وحمام وجامع وفناء أمامي وبركة مزدانة بالزخارف، وتم اكتشافه في الأربعينات من القرن الماضي. أما الثاني فهو «قصر عمرة»، ويقع في الصحراء على حافة وادي «بطم»، الذي يبعد حوالي خمسين ميلاً إلى الشرق من مدينة عمان عاصمة الأردن، وهو بناء صغير يتألف من حمام ومنزل كان يستخدم كإستراحة للصيد، والاستجمام، وتم اكتشافه عام 1898. أما الأخير فهو «قصر الحير الغربي» الذي يقع في تدمر وينسب هو الآخر للخليفة هشام بن عبد الملك وتم اكتشافه في عام 1936. وتمتلئ جدران القصور الثلاثة التي ذكرناها بالكثير من الرسوم الحائطية، والصور الملونة، إذ تحتوى غرفة الاستقبال في قصر خربة المفجر - على سبيل المثال - على صورة تشبيهية رائعة التكوين، مؤلفة من شجرة تفاح ورسم لأسد ينقض على غزال بينما يبدو في الجهة اليسرى من اللوحة غزالان هادئان ينعمان بقضم بعض أوراق النباتات، والحق أن أول ما يلفت نظر المشاهد في هذه الصورة تلك الشجرة الضخمة بساقها الثابتة، والتي تمتاز بواقعيتها الشديدة، إذ روعي فيها اختلاف مقاييس الفروع والأغصان، كما روعي فيها أيضاً استخدام الدرجات المختلفة في تلوين أوراق الشجرة، وذلك حسب قربها أو بعدها من مصدر الضوء. أما الصورة الموجودة في قصر عمرة، فهي تعد من أشهر الصور التي تعود لذلك العهد وأكثرها تميزاً، وهي تشتمل على رسوم لمشاهد الصيد، وذبح الظباء، ومشاهد استحمام، وتمارين رياضية، وأوضاع مصارعة ومنازلة، وصور أخرى لنسوة عاريات في أوضاع مختلفة. ومعظم الصور هنا مرسومة بالألوان المائية على طبقة من الجص، وهو ما يعرف اليوم في تاريخ الفن بـ «الفريسكو»، كما تنحصر الألوان المستخدمة في الأزرق البراق، والبني الداكن، والأخضر المشوب بالزرقة.
ومن أكثر الصور لفتاً للانتباه، نظراً لبراعتها وغرابتها في الوقت نفسه، تلك الصورة التي تمثل ملوك الأرض المهزومين أمام الجيوش الإسلامية، وهي تتكون من ستة رجال يلبسون ثياباً حسنة، يصطف ثلاثة منهم في الأمام وقد مدوا أيديهم، ويقف الثلاثة الباقون خلفهم، ولقد استقر رأي الباحثين في التعرف إلى أربعة منهم، وهم الإمبراطور البيزنطي، وكسرى إمبراطور الفرس في الصف الأمامي، ورودريك ملك أسبانيا القوطي، والنجاشي ملك الحبشة في الصف الخلفي. أما الصور التي يضمها قصر الحير الغربي فهي تمثل في معظمها تسجيلاً لبعض مشاهد الصيد بطريقة واقعية لا تخلو من الزخارف.
ياسر سلطان
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد