(النيوليبراليه)... تضعف دور الدولة
د.منير الحمش*: ارتبط ظهور (الدولة) تاريخياً في شكلها الحديث، بالتطور الحاصل في النظام السياسي في أوروبا، منذ القرن السادس عشر، عندما فرضت الدولة سلطانها على أمراء الإقطاع و قلصت نفوذهم، ثم أنهته كما فصلت الكنيسة على الدولة، وساعدت على التراكم الرأسمالي ونشوء الرأسمالية وتطورها، وكان تدخلها في الشأن الاقتصادي واضحاً، حتى تحقق تكامل النظام الرأسمالي في ظل اقتصاد السوق، فظهرت المناداة بتقليص دور الدولة وحصره في وظائف معينة كالأمن و الدفاع والقضاء وبعض الخدمات، حيث تبلور ما دُعي نموذج الدولة الحارسة في مقابل نموذج الدولة التدخلية. إلا أنه حتى في ظل الدولة الحارسة كانت الدولة تتدخل في النشاط الاقتصادي، بهدف تشجيع الصناعة المحلية و حماية الإنتاج الوطني.
وعندما حدث (الكساد العظيم) في الثلاثينات من القرن العشرين في الولايات المتحدة، وانتقل بعد ذلك إلى باقي أنحاء العالم، ظهرت مجددا الدعوة إلى تدخل الدولة في الشأنين الاقتصادي و الاجتماعي. وقدم الاقتصادي الإنكليزي المشهور (كينز) نظريته القائمة على تنشيط الطلب التي استطاعت إنقاذ الاقتصاد الرأسمالي، عن طريق خلق الوظائف من قبل الدولة.
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، ظهرت ثلاثة نماذج للدولة:
النموذج الأول:(دولة الرفاه) التي قامت في الدولة الصناعية، وقد دعيت (الدولة الكينزية) نسبة إلى كينز، وكان تدخل الدولة في الاقتصاد بارزاً تحت وطأة أعباء تعمير ما خربته الحرب، والمنافسة مع الاتحاد السوفياتي، وبسبب تنامي قوة نقابات العمال والأحزاب الاشتراكية.
النموذج الثاني:(الدولة الاشتراكية) وكان نموذجها البارز هو الاتحاد السوفياتي وفيها أمكن تحقيق مستويات عالية من النمو الاقتصادي والتقدم ورفع مستويات المعيشة. وتمكن الاتحاد السوفياتي (والدول الاشتراكية الأخرى) من إقامة صرح اقتصادي هام رفعه إلى مستوى النّدية مع الولايات المتحدة.
النموذج الثالث:(الدولة التنموية) وهو الذي قام في الدولة النامية حديثة الاستقلال، وكانت هذه الدول تطمح إلى تحقيق التنمية، فكان تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي الاجتماعي بارزاً... ولكن دون أن يصل إلى مستوى النموذج الاشتراكي.
و في مطلع السبعينات من القرن الماضي، ومع التطورات الحاصلة في الاقتصادات الرأسمالية، ومع الأزمة التي بدأت الدول الرأسمالية تتعرض لها، بدأت (دولة الرفاه) في الغرب والولايات المتحدة، تواجه العديد من المتاعب والأزمات التي لم يستطع الكينزيون أن يجدوا لها الحلول المناسبة، مما جعل الليبراليون الجدد، يندفعون لقيادة الاقتصاد، باتجاه تقليص دور الدولة على الصعيد الاقتصادي، وتحميل تدخلها في الاقتصاد مسؤولية المتاعب والأزمات. وكان نجاح تاتشر في رئاسة وزارة بريطانيا (1979) ونجاح ريغان في رئاسة الولايات المتحدة (1980) إيذانا بانتهاء مرحلة الدولة الكينزية، وتراجع دور الدولة الاقتصادي بالمفهوم الكينزي.
وإن بقي لها تأثير على سير العملية الاقتصادية عن طريق سياستها المالية والنقدية خاصة، كما أنها لم تستطع إنهاء الدور الاجتماعي كلياً.
ثم جاء انهيار الاتحاد السوفياتي، وفشل تجربته الاشتراكية، وكأنه انتصاراً للاتجاه الليبرالي الجديد وللرأسمالية وللولايات المتحدة على وجه الخصوص.
ومع معاناة الدول النامية لمتاعب وأزمات اقتصادية، واضطرار بعضها اللجوء إلى البنك الدولي بعد أن غرقت بالديون، واشتراط الحصول على (حُسن سلوك) من صندوق النقد الدولي للحصول على المزيد من القروض، فرض على هذه الدول جدول أعمال اقتصادي معين، يهدف إلى إجراء تحويل في سياساتها الاقتصادية باتجاه اقتصاد حرية السوق و الانفتاح، حيث اضطرت هذه الدول تحت ضغط الوصفات الجاهزة المقدمة إليها بموجب (وفاق واشنطن)، إلى تقليص تدخل الدولة إلى الحد الأدنى، فقد أصبح المطلوب هو حكومة حد أدنى، تنفذ التوصيات الخاصة باندراج اقتصاد الدول المعنية بالاقتصاد العالمي، تحت ظل العولمة الاقتصادية.
رافق ذلك عدد من العوامل الأخرى، تمثلت في:
ـ تصاعد دور الشركات متعدية الجنسية.
ـ التقدم الحاصل في مجال المعلوماتية والاتصالات.
ـ بروز دور رأس المال المالي في حركته السريعة بين مختلف أنحاء العالم متخطياً الحدود.
ـ قيام منظمة التجارة العالمية.
وجميع هذه العوامل أدت إلى تزايد الاتجاه نحو ( تهميش) دور الدولة الوطنية، والتركيز على انسحابها من دائرة التدخل في الشأن الاقتصادي واقتصاد دورها على الوظائف التقليدية، وقد تدعم هذا الاتجاه ببروز دور أقوى لمنظمات المجتمع المدني. وأصبحت قضايا مثل حقوق الإنسان والحكم الصالح من القضايا ذات الأبعاد الدولية.
وارتبط ذلك كله، بالجدل الدائر حول (العولمة) وفي المنطقة العربية ارتبط ذلك بمشروع الإصلاح الديمقراطي في إطار مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي طرحته الولايات المتحدة لإعادة ترتيب المنطقة، والذي تم اعتماده من قبل الدول الصناعية الثمان، بعد إدخال بعض التعديلات المحسنة عليه.
هذه التطورات التي أدت عموماً إلى التغير الحاصل على الصعيدين الإقليمي والدولي، أثارت نقاشات جديدة حول دور الدولة في الشأن الاقتصادي والاجتماعي، خاصة بعد أن أدى الإمعان في تطبيق السياسات (النيوـ ليبرالية) إلى إضعاف الدولة وتراجع دور مؤسساتها. مما قاد إلى ما دعاه عالم الاجتماع السويدي ميردال (الدولة الرخوة).
وهذا ما تريده الليبرالية الاقتصادية الجديدة إذ أنها تريد، كما يفترض (وفاق واشنطن) حكومة الحد الأدنى. التي وصفها ميردال أنها الدولة الرخوة، و هي دولة ضعيفة، وهي( سر البلاء الأعظم وسبب أساسي من أسباب استمرار الفقر والتخلف في الداخل، والمهانة وعدم الاعتبار في الخارج. وفي مثل هذا النموذج من الدول، يعم الفساد، إذ أن (رخاوة) الدولة تشجع على الفساد، كما أن انتشار الفساد يزيد الدولة ضعفاً ورخاوة).
ويربط جلال أمين بين التخاذل في الاقتصاد والتخاذل في السياسة وبين التراخي في السياسة الخارجية والتراخي في السياسة الداخلية. وإذ يسقط على هذه الحالة على ما يحدث في مصر منذ السبعينات يقول:
(إن ما يجري مجرد انفتاح يوحي بموقف الدولة المصرية من إسرائيل أو من الولايات المتحدة، بل إن ما يصلح لوصف هذه الحالة هو وصف (الدولة الرخوة).)
ومعروف لدى المتابعين ما أصاب الاقتصاد المصري والمواطن من جراء انتهاج سياسة اقتصاد حرية السوق والخصخصة والانفتاح.
وتعتبر المشكلات الاقتصادية في البلدان النامية التي اضطرت إلى انتهاج سياسة اقتصاد حرية السوق، من أهم عوامل ضعف تلك البلدان، وعدم قدرتها على مواجهة تلك المشكلات، والانجراف في دوامة الاضطرابات الاجتماعية الناجمة عن اتساع دائرة الفقر والبطالة.
إن الوصفة الليبرالية الجديدة، لم تكن وبالاً على البلدان النامية. فقط، بل إن الدولة الرأسمالية الكبرى، عانت منها أيضاً، ففي الولايات المتحدة، أدت السياسات الاقتصادية للمحافظين الجدد إلى بروز ظواهر وفضائح وانحرافات مالية كبرى مثل فضيحة شركة (انرون) للطاقة والممارسات التي رافقت عمليات خصخصة السكك الحديدية في بريطانيا وشبكات الكهرباء في كاليفورنيا. الأمر الذي جعل الكاتب الأميركي من أصل ياباني (فوكوياما) صاحب نظرية (نهاية التاريخ) وهو من أشد أنصار الليبرالية الاقتصادية الجديدة يكتب مجدداً حول (استرداد دور الدولة) فقد رأى أن جانباً كبيراً من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والصحية في الدول النامية الضعيفة يعود إلى إضعاف الدولة وترهلها.
وأكثر من ذلك يرى (فوكوياما) أن ظاهرة الإرهاب تعود بجذورها في المناطق والبلدان ذات الدول الضعيفة أو الغائبة العاجزة عن تسيير مجريات الأمور الاقتصادية والسياسية وحل المشكلات الاجتماعية المزمنة.
ويفرق (فوكوياما) بين اتساع نشاط الدولة، وبين مدى فعالية هذا النشاط. فالعبرة هي بكفاءة الدولة وأجهزتها في حل المشكلات التي تواجهها، وليس في غياب وتقليص دورها إلى حدودها (الدولة الحارسة) التي يقتصر دورها على وظائف الحد الأدنى.
ولم يكن عسيراً على شخص مثل (فوكوياما) أن يلاحظ بأن انتهاج السياسات الليبرالية الجديدة، أدى بالدول المعنية إلى مزيد من المشكلات الاقتصادية و الاجتماعية.
وهو يلتقي بذلك مع ما توصل إليه (جوزيف استيجلتز) نائب رئيس البنك الدولي السابق، وهو الاقتصادي البارز الحائز على جائزة نوبل.
وإذ تشترط الشراكة الأوروبية انتهاج سياسة اقتصادية تنسجم مع التحول إلى اقتصاد السوق، بما في ذلك إعطاء الدور الأساسي في النشاط الاقتصادي للقطاع الخاص. وإذ يُطرح على نطاق واسع من قبل الولايات المتحدة (مشروع الشرق الأوسط الأكبر) الذي يعتبر في الأساس جزءاً رئيسياً في الاستراتيجية الأمريكية. الهادفة إلى السيطرة والهيمنة على العالم، وعلى هذه المنطقة بوجه خاص. فإن ممانعة هذه المشروع تزداد وضوحاً وقوة، خاصة بعد ما حصل في العراق من تدمير وتفكيك للدولة.
وإذا كانت مسألة الإصلاح الديمقراطي والاقتصادي التي يطالب بها من خلال المشروعات القادمة إلينا من الخارج (وهي بالأساس مسألة داخلية) تستوجب النظر في دور الدولة، فإن من الضروري البحث في تحديد هذا الدور من حيث طبيعته، ونطاقه. ومن ثم فإن السير باتجاه حرية السوق والاندراج تحت مظلة العولمة، يطرح مجدداً مسألة سيادة الدولة، بصرف النظر عما يُطرح في المشروعات المشبوهة.
ومن الواضح أن هناك وجهتا نظر:
الأولى: تقول بالإسراع في الاندماج بالاقتصاد العالمي المعولم، وانتهاج سياسة اقتصادية تقوم على الانفتاح والخصخصة وحرية التبادل التجاري وبالتالي انحسار دور الدولة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. وإعطاء القطاع الخاص الدور القيادي في المجال الاقتصادي، وقصر الدولة على الوظائف التقليدية.
إن هذا يعني أن يتلاشى دور الدولة والقوى الإمبريالية، حيث تلعب الشركات متعدية الجنسية دوراً بارزاً في عملية (العولمة) من خلال الاستثمار الأجنبي المباشر وتفكيك العملية الإنتاجية داخلياً وتكاملها دولياً، إضافة إلى إشاعة نمط استهلاك محدد وثقافة استهلاكية متماثلة على صعيد العالم من خلال سيطرتها على الفروع الرئيسية للتوزيع والإعلان والاتصالات.بينما تلعب المؤسسات الدولية دوراً أساسياً في رسم السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية عن طريق صياغة النصائح والتوصيات وفرضها على البلدان التي ارتضت التحول إلى اقتصاد حرية السوق، في تكامل وتنسيق مع المراكز الرأسمالية العالمية. وبالخضوع للمصالح الإمبريالية.
إن من أهم النتائج هذه السياسات، تآكل قدرة الدولة على إدارة اقتصادها، وإضعافها إلى الحد الذي يجعل بالإمكان السيطرة على قراراتها، وتوجيهها لخدمة مصالح الشركات متعدية الجنسية والرأسمال العالمي.
إن جوهر منطق مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي يتوافق مع العولمة ومقتضياتها، هو الليبرالية الاقتصادية الجديدة، وهو منطق يعطي الأولوية لمقتضيات الإدارة المعولمة للاقتصاد على حساب وظائف الدولة الوطنية، وينعكس ذلك في العمل الجاد لإضعاف الدولة، وإنهاء تدخلها في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والدعوة إلى الخصخصة وسيادة الخطاب النيوليبرالي وإعلاء شأن القطاع الخاص.
وهذا يعني على صعيد العلاقات الدولية، إن الدولة الضعيفة، أكثر استجابة للضغوط الخارجية.
وفي الحالة العربية، مع وجود إسرائيل، فإن الحاجة تبدو أكثر أهمية لوجود دولة قوية، سواء كان ذلك في زمن الحرب أم في زمن السلم، أم في حالة التفاوض مع العدو.
كما أن القطاع الخاص أثبت أنه غير قادر لوحده على تحقيق التنمية والارتفاع في مستويات المعيشة والقضاء على البطالة والفقر. كما أنه أثبت عدم قدرته القيام بمشروعات البنية التحتية، وهو يعاني من أمراض مزمنة، تحد من قدرته على الأداء الاقتصادي المطلوب، والمناسب لتحقيق التنمية المنشودة.
أما فعل قانون آليات السوق، فهو أقرب إلى الطوباوية، ذلك أنه يعتمد على قيام المنافسة الكاملة، في حين أن ما أدى إليه اقتصاد السوق، هو قيام اقتصاد الاحتكار.
ومن الواضح أن تخلي الدولة عن دورها لصالح قوى السوق داخلياً سوف يترافق مع تخليها عن مكانها خارجياً لصالح مؤسسات وشراكات ومشروعات وقوى لا تهتم بقضايا ومصالح البلاد، سواء في مجال تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، أم في مجال المصالح الوطنية والقومية.
أما وجهة النظر الثانية: فإنها تؤكد على دور تدخلي اقتصادي واجتماعي أساسي للدولة، وهنا يتراوح هذا الدور من حيث المدى والعمق وفق الظروف والشروط الاقتصادية وبمصالح البلاد العليا. لهذا فإننا عندما نقول بتدخل الدولة، فإن المقصود هنا أن يكون التدخل لصالح الفئات الشعبية الواسعة، بمعنى أن يكون منحازاً لصالح التنمية الشاملة والمستدامة.
إلا أن نجاح الدولة في هذا الدور التدخلي يرتبط بمجموعة من الشروط أولها أن تستطيع بناء دولة قوية.
والدولة القوية، ليست قوية بما تمتلكه من جيوش وأسلحة. (وهي ضرورية في جميع الحالات) إنما الدولة القوية هي التي تستطيع إقامة نظام حكم يلبي تطلعات ورغبات الشعب، ويستطع تحقيق هذه التطلعات والرغبات، ويخلق وحدة وطنية حقيقية تستطيع مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
فعلى الصعيد الداخلي فإن الدولة تصبح مسؤولة بحكم تدخلها في الشأن الاقتصادي والاجتماعي، عن تحقيق نسب النمو المناسبة لتحقيق الارتقاء بمستوى معيشة السكان وسلامة توزيع الثروة والدخول وتقديم الخدمات الاجتماعية وتحقيق العدالة الاجتماعية.
أما على الصعيد الخارجي، فإن الدولة القوية، تستطيع أن تعقد الاتفاقات وتدخل المفاوضات مع العالم الخارجي بكثير من الثقة مما يعزز تحقيق مصالحها الوطنية. حيث يحسب الآخرون لها حساباً، ويأخذونها باعتبارهم، ولا يستطيعون تجاوزها.
والفرق كبير بين الدخول في مفاوضات مع الجهات الأجنبية من موقع تفاوضي ضعيف، أو موقع تفاوضي قوي مستنداً إلى قوة الدولة القادرة على إدارة مفاوضاتها مع الآخرين من منطلق الندية والمساواة تحقيقاً لعدالة العلاقات المتبادلة. وتكون الدولة القوية خارجياً بمقدار تعبيرها عن تطلعات شعبها وقدرتها على التعبير عن مصالحه، وبمقدار قوة اقتصادها، ولا يدخل هنا حجم الاقتصاد إلا كعنصر إضافي أما الأصل فهو سلامة العناصر التي يقوم عليها الاقتصاد، وسلامة توازناته الاقتصادية، ووضوح سياساته ومرتكزاته.
وتثير الطروحات المتطرفة للعولمة مسألة (سيادة الدولة) على نحو متزايد، إن( سيادة الدولة) في شكلها الحديث تبلورت تاريخياً، في تعزيز الحق في السيطرة على رقعة جغرافية محددة، وكان للاتفاقات الدولية (أو الاتفاقات بين الدول) الدور الرئيسي في عدم تدخل هذه الدول في الشؤون الداخلية لبعضها البعض، وكان لهذه الاتفاقات دور في بسط سلطة الدولة على المجتمع.
ولسيادة الدولة، وجه داخلي وآخر خارجي. ففي الداخل تتمثل هذه السيادة في السلطات المكلفة لفرض القوانين وإلزام تطبيقها على شعبها في داخل إقليمها الوطني، أما الوجه الخارجي لسيادة الدولة فيتمثل في صيانة الاستقلال الكامل والحيلولة دون تدخل خارجي، وبالطبع فإن كلا الوجهين مرتبطان ببعضهما البعض ارتباطاً وثيقاً.
وبهذا المعنى فالسيادة ترتبط بعنصرين آخرين هما: الشعب والإقليم. فسيادة الدولة تباشر على مواطنيها فقط، كما أنها محدودة بحدودها السياسية المعترف بها.
ومع تطور النظم الديمقراطية، بدأت تظهر فكرة الشرعية كعنصر آخر من عناصر السيادة. والمقصود بالشرعية هنا، هو مدى قبول الأفراد لهذه السلطة أو السيادة.
فلا يكفي هذه السيادة في الواقع، بل لابد أن يرافقها نوع من القبول أو الاتفاق العام حولها لتتوفر الشرعية لها.
واستناداً لفكرة السيادة، فإن الدولة (ودورها في المجتمع) تعرضت للعديد من التطورات.
ففي حين يرى البعض أن فكرة السيادة مقيدة بالقانون الطبيعي والقانون الدستوري وحقوق الملكية. وهي يمكن أن تمارس سيادتها ضمن هذه المفاهيم، فإن البعض الأخر، يرى إدخال قيود أخرى على سلطة الدولة. ويرجعون هذه القيود إلى:
ـ تزايد الوعي بالحدود الدستورية.
ـ حقوق الإنسان.
ـ الاعتبارات الاقتصادية والتكنولوجية.
ـ ظهور الترابط الاقتصادي العالمي.
ـ ظهور جماعات الضغط.
إلا أن هذا يجب ألا ينسينا أن علاقات القوى بين الدول قد زالت، فها هي الولايات المتحدة تشهر سلام القوة، وتخترق سيادات الدول والشعوب تحقيقاً لاستراتيجية أمنها القومي.
كما أن منظمة الأمم المتحدة من خلال مجلس الأمن، أصبحت تعطي لنفسها الحق في التدخل في الدول، مما يعتبر انتهاكاً لسيادتها، والمثل الصارخ لذلك إصدار مجلس الأمن القرار 1559 الخاص بالعلاقة بين سورية ولبنان.
كما أن الأمم المتحدة أعطت لنفسها الحق في التدخل عندما تنتهك حقوق الإنسان في بلد ما.
إلا أنه رغم خطاب العولمة، فإن الدول ستظل محتفظة بسلطتها على الشعوب، كما أن غالبية سكان العالم تعيش في عوالم مغلقة أو شبه مغلقة. لكن من المهم أن نعرف أنه لم يعد بالإمكان لأي دولة أن تتجاهل القرارات الدولية. ويظل الحكم الأخير في هذه المسألة هو قوة الدولة، والحق الذي يفرض بالقوة.
إن كل هذا يثير إشكالية، أكثر مما يقدم حلولاً وتصورات ناجزة، وخاصة في الإجابة على التساؤلات التالية:
1. ما هو المناخ الدولي الذي تغير، خاصة بانهيار الاتحاد السوفياتي وفشل تجربته الاشتراكية وتداعيات أحداث أيلول 2001 في الولايات المتحدة؟.
2. ما هو الدور الذي يمكن أن تقوم الدولة به من خلال المناخ الدولي الجديد وخاصة بعد إعلان الحرب ضد الإرهاب، ومن خلال الإجراءات التي بدأت باتخاذها الولايات المتحدة وغيرها من الدول في إطار محاربة الإرهاب؟
3. كيف يمكن أن يكون دور الدولة في إطار تدويل العلاقات الاقتصادية ومحاربة الإرهاب؟
4. ما هي حدود وطبيعة دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي؟
5. ما هي العلاقة بين اقتصاد السوق ودور الدولة؟
6. في ظل الظروف القائمة في البلدان العربية، ما هو الدور المنتظر للدولة الوطنية؟
7. ما هي العلاقة بين الدول والطموح إلى تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة؟
آملين أن نستطيع بلورة مفهوم للدولة يحقق، في ظل الظروف والتطورات الحاصلة على الصعد الداخلية والإقليمية والدولية، الدور المنتظر من أجل التقدم و الازدهار والسيادة الوطنية.
* رئيس المركز العربي للدراسات الاستراتيجية
عن مجلة المال
إضافة تعليق جديد