تجديد علم أصول الفقه
تستحوذ إشكالية تجديد العلوم الإسلامية بوجه عام، وإعادة طرح رؤى جديدة تتناول مناهجها ومفاهيمها وغاياتها على حيّز كبير من الكتابات العلمية والفكرية، بصرف النظر عن توجهات كتابها ودوافعهم. وبديهي أن تحتل قضية تجديد علم أصول الفقه، والذي يعدّ أحد أهم العلوم الإسلامية ووسيلتها المنهجية المعتمدة لاستنباط الأحكام والتصورات الإسلامية للنوازل والوقائع الطارئة، رتبة متميزة في سياق هذه الكتابات المتناسلة حول قضايا تجديد العلوم والمناهج الإسلامية بصرف النظر عن دوافع دعاتها ومتبنيها. ويحاول الكتاب الحواري إشكالية تجديد أصول الفقه (لأبي يعرب المرزوقي، ود. محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر، دمشق كانون الأول/ ديسمبر 2006). معالجة هذه القضية من خلال استبيان وجهتي نظر متباينتين، فإذا كان الفقه من وجهة نظر كثير من علماء الشريعة والقانون يتجدد ويتطور بحسب الزمان والمكان والحال، فهل تجدد أصوله؟ وإذا كان الاجتهاد يضع حلولاً للمستجدات، فما الجديد الذي يمكن أن يكون في الأصول، هل المطلوب تجديد الانضباط بقواعد أصول الفقه وأحكامه، أم تطوير تلك القواعد وتجاوزها إلى غيرها؟
يفتتح أبو يعرب المرزوقي بحثه حول نقاش هذه الإشكالية بكلمة لابن خلدون يحاول فيها تكثيف المآزق التي تعاني منها الأمة وعلومها الشرعية وردها إلى عنصري العسف والقهر المهيمنين على أبنائها وتاريخها وتراثها. ويشرح غايته من بحثه المطول بكونه محاولة «لفحص الأسس التي بني عليها علم الفقه الخاص والعام» سعياً وراء تحديد شروط التطوير والإصلاح المطلوبة، معتمداً على جهود ابن خلدون وابن تيمية «الثورية» على من سبقوهما، بحسب رأيه. ويعتمد المرزوقي المدخل التاريخي لتبيان أوجه القصور التي تحتاج إلى تجديد في علم أصول الفقه، معالجاً في سياق ذلك مسائل تتعلق بنشأة علم أصول الفقه، فيسخف المنطق الحاكم لعرض توالي ظهور المذاهب الفقهية، والمبني على «مبدأ الصدف» البعيد عن التحليل المنطقي، معللاً الأزمة التي تعاني منها الأمة بوقوع التناقض بين كون الإسلام ذي وحي مختوم، وسعي طبقة العلماء فيه إلى اغتصاب سلطة التشريع من خلال مبدأ «الاجتهاد السنّي» و «الإمامة الشيعي».
ويرى أن الفساد الحاصل في كل من علمي «العقيدة والأصول» سببه سيطرة المذاهب الهامشية في الإسلام (الاعتزال والخروج) على التيار العام الغالب (التسنن والتشيع)، وما حصل على المستوى النظري والعقدي، جرى مثله على المستوى التشريعي العملي، فكان للمذهبين الهامشيين في الفقه والعمل (الظاهرية بوصفه ممثلاً لتيار الخروج العقدي على المستوى العملي، والباطنية بوصفه ممثلاً لتيار الاعتزال العقدي على المستوى العلمي) اليد الطولى على المذاهب الأربعة وحتى تيار التشيع الرئيس.
ثم يشرح المرزوقي بإسهاب مطول ماهية ثورة كل من ابن خلدون وابن تيمية على ممارسات الأزمة. فقد ركز كل من العالمين جهودهما على تحطيم المسلمة القاضية باعتماد الشريعة على مقومين يختص بهما علماء الأمة: «باطن النص» و «إجماع العلماء». ولاحظ أن الفارق الوحيد بينهما «أن ابن تيمية حقق ثورة في نظرية المعرفة النظرية والوجود من منظور العقيدة لإبداع فلسفة نظرية ووجودية بديلة مما كان سائداً في الفلسفة والكلام اللذين يتأسس عليهما الفقه والتصوف» من خلال مواجهة أفكار الاعتزال والباطنية. فيما سعى لتحقيق «ثورة في نظرية المعرفة العملية والتاريخ من منظور الشريعة لإبداع فلسفة عملية وتاريخية بديلة مما كان سائداً في الفلسفة والكلام اللذين يتأسس عليهما الفقه والتصوف».
ويناقش نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، فيرى المرزوقي أن المقوم الأول لهذه النظرية هو مبدأ الاستقراء الذي ينفي حصوله في شكل تام سواء في النص الشرعي أو التجربة العمرانية أو العلاقة بينهما في تاريخ المعرفة بهما. أما المقوم الثاني فهو الترتيب القاضي بعدم جدوى المقاصد في شكلها الحالي ووجوب كون ترتيب المقاصد معكوساً حتى يمكن القبول بها «فليس حفظ الدين على الإطلاق ضرورياً بل حفظ الدين الصحيح، وإلا تساوت الأديان».
وفي محاولة منه لتأسيس بديل عن المذاهب الفقهية الحالية، يناقش المرزوقي مسألة تحديد مكونات المعادلة التشريعية ومسألة حصرها، ثم ينتقل إلى معالجة نسق الأحكام المحددة لشرعية التشريع، فيحصرها بقيم الإنسان الخمسة: «قيم الذوق وقيم الرزق وقيم النظر وقيم العمل وقيم الوجود». ويحصر مهمة التشريع في تنظيم هذه الأمور والتشريع لها.
ويفتتح الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي بحثه بتحرير محل النزاع حتى يتمكن من تحديد نطاق البحث والمراد به لدى الطرفين، فيرى ان المراد بدعوى تجديد علم أصول الفقه لا تعدو واحداً من معنيين: إما أن يكون «تجديداً للانضباط بقواعده وأحكامه، وإصلاح ما تصدع من بنيانه، وتمتين ما وَهَى من دلائله، وسدّ ما تفتح من ثغرات في مفاهيمه، ونفض ما غشى عليه غبار النسيان له والإعراض عنه، وعرض مضمونه في أسلوب أكثر جدة وأيسر فهماً»، وإما ان يكون دعوة الى استبداله وتطوير قواعده وتجاوز أحكامه الى غيرها.
فإن كان المراد بتلك الدعوة المعنى الأول، فهو أمر يتفق على ضرورته وكونه خارج مجال النقاش والخلاف، الا أنه في الوقت نفسه، ينفي ان يكون التجديد، لعلم أصول الفقه بهذا المعنى امراً جديداً عليه، بل هو في رأيه مجرد «تحصيل للحاصل، وإنكار ضمني لجهود المجددين له، المؤكدين لضرورته»، الامر الذي قام به علماء الامة في ما مضى، ولا وجه بالتالي الى التداعي اليه في ظل تحققه تاريخياً والاتفاق على أهميته.
الا انه يؤكد بعد ذلك ان مراد دعاة تجديد علم أصول الفقه ليس المعنى الاول، وإنما هو المعنى الثاني الذي يبتغي استبدال قواعد هذا العلم بأخرى ليتم تجاوز احكامه الى مدلولات جديدة من الاحكام الفقهية. ويقرر ان تبني علماء الامة لقواعد هذا المنهج منذ مئات السنين ما هو الا التزام بمنهج موجود اصلاً، وليس مبنياً على مصلحة آنية او اختراع لما هو غير موجود، حتى يحق لمن يأتي من بعدهم استبداله وتغيير قواعده. سيما ان العمود الفقري لهذا العلم متمثل في القواعد اللغوية العربية والتي لا يمكن ان يعفو عليها الزمن بالتقادم، بحسب تقديره.
ثم يناقش دعاة تجديد علم اصول الفقه من خلال الزامهم بالقول بتسلسل اللانهائي ما دام هاجسهم ومبررهم لوضع قواعد جديدة لهذا العلم هو قدم الاصل وثباته. وصولاً الى الزام خصومه بأن دعوتهم تلك تتصادم مع اليقين بصلاحية الشريعة الاسلامية لكل زمان ومكان، ويقارن بين هذه الدعوى ودعوى «القراءة المعاصرة» التي سبق أن رفضها، بكون الثانية محافظة في طرح غاياتها الخبيثة مواربة في بيانها، فيما الدعوة الى تجديد أصول الفقه تغيير للبنية التأسيسية للفقه الاسلامي الذي عجزت عنه القراءة المعاصرة.
يتلو البحثين ردود كل من المرزوقي والبوطي على بحث الآخر، ولا يتوانى المرزوقي عن اتهام البوطي بالتعامل مع كل دعاة التجديد وأفكارهم بوصفهم صنفاً واحداً من دون التمييز بين من «يدعو الى علاج ازمة أصول الفقه والتشريع في حضارتنا، وبين من يتخذ هذه الدعوة ذريعة للتخلص من الحاكمية الإلهية». ويتساءل عن امكان بقاء علم اصول الفقه بمنأى عن الازمة التي تعاني منها الأمة وعن موضوع علم أصول الفقه خارج نطاق التعريفات المدرسية، والذي يرى اضطلاعه بمهمة أكبر من مهمة استنباط الاحكام من النصوص الشرعية فقط، من وجهة نظره.
ويرفض ان يكون اعتماد هذا العلم الجليل على المنهج اللساني المنطقي فقط، وحصر مهمته في استخراج الاحكام من النصوص الشرعية، بل يضيف اليه المنهج الوجودي المعرفي المستند الى علوم ومعارف العصر وأثره في تنزيل الاحكام عن النوازل الطارئة. ويرد على تذرع البوطي بعدم تحقق التجديد لهذا العلم تاريخياً لرفض القيام به راهناً، فيرى ان المراحل التي مر بها هذا العلم هي بمثابة تجديد له في كل مرحلة من خلال اضافة مصادر واجتراح اساليب جديدة لاستنباط الحكم الشرعي. وينفي تالياً تهمة الربط بين الدعوة الى تجديد اصول الفقه والقراءة المعاصرة.
وفي معرض رده، ينفي البوطي ان يكون كل من ابن خلدون، وابن تيمية قد احدثا ثورة على المنهجية التي اتبعتها المذاهب الفقهية، بل يرى ان ما بين أيدينا من تراث كل من الرجلين حافل بالاطراء والمديح لتلك المذاهب ورجالاتها، بدليل انتماء كل منهما اليها (ابن تيمية الى الحنبلية، وابن خلدون الى المالكية).
هشام منور
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد