علاء الأسواني: متى يستيقظ دون كيشوت؟
عزيزي القارئ، أقترح عليك أن تجري هذه التجربة: أدخل على موقع «فايسبوك» أو «تويتر» واكتب نقداً شديداً لمرشد «الإخوان» ثم انتظر بضع دقائق. عندئذ ستنهال عليك شتائم مقذعة من بعض المعلقين «الإخوان». سيستعملون أفحش الشتائم وسيسبون أباك وأمك بكل بذاءة. بعد ذلك أدخل على صفحات هؤلاء الشتامين، ستجد أنهم يحتفظون على صفحاتهم بآيات قرآنية وأحاديث نبوية شريفة، بل إن بعضهم قد كتب ابتهالات وأدعية يتضرع فيها الى الله بخشوع بالغ. المفارقة أن هذا الإيمان العميق لم يمنعهم أبداً من شتم الناس بكل بذاءة. هكذا فإن «الإخوان» يكذبون ويفترون ويظلمون بغير أن يتأذى إحساسهم الديني لحظة واحدة. لقد رأينا «الإخوان» في عشرات الوقائع المسجلة بالصوت والصورة، يضربون معارضيهم ويعذبونهم بوحشية ويسحلون البنات ويعتدون عليهن. الغريب أنهم يرتكبون كل هذه الجرائم وهم يهتفون ويكبّرون كأنهم يحاربون جيش الكفار. في تفسير هذا التناقض الغريب بين العقيدة والسلوك هناك احتمالان: إما أن يكون «الإخوان» جميعاً أوغاداً معدومي الضمير ومنافقين، يرتكبون هذه الشرور بوعي كامل ويتظاهرون بالتدين. الاحتمال الآخر أن يكون «الإخوان» متدينين مخلصين للعقيدة فعلاً لكن خللاً جسيماً في إدراكهم يدفعهم الى السلوك الإجرامي يبرره لهم، فيرتكبون الجرائم وهم يعتبرون أنهم يحسنون صنعاً. الحق اني أميل للتفسير الثاني. «الإخوان» ليسوا أشراراً بطبيعتهم وليسوا أفاقين ونصابين بالمعنى الشائع، لكنهم يحتفظون في أذهانهم بصورة مغلوطة عن أنفسهم ويعانون من خلل حقيقي في الإدراك، يدفعهم الى ارتكاب أبشع الجرائم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ويقومون بواجبهم الديني. إنهم لا ينظرون الى أنفسهم باعتبارهم مواطنين عاديين يمارسون السياسة وفقاً لأفكارهم، بالتالي قد يصيبون وقد يخطئون، لكنهم يعتبرون أنفسهم حماة الدين وفرسانه الذين كرسوا حياتهم وقرروا التضحية بكل غال حتى يرفعوا لواء الإسلام ويستعيدوا مجده. إنهم في نظر أنفسهم نذروا حياتهم من أجل أداء مهمة مقدسة. من هنا، فهم ينظرون الى غير «الإخوان» على أنهم أقل إيماناً وأقل التزاماً بالدين. هذا التوحد بين «الإخوان» والدين في أذهانهم ربما يساعدنا على تفسير كل ما يفعلونه. «الإخوان» يعتبرون أنفسهم هم الاسلام ولا وجود للاسلام خارجهم. الناس من غير «الاخوان» في رأيهم إما غافلون عن قضية الدين وإما علمانيون كفار أعداء الاسلام عملاء للغرب، يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم. أما غير المسلمين فليسوا في نظرهم سوى كفار ضلوا الطريق الى الله. ولأنهم لا يعتبرون الآخرين مساوين لهم في الدين، فمن الطبيعي أن لا يعترفوا لهؤلاء الخارجين عن صحيح الدين بالحقوق التي يتمتع بها «الاخوان». إن فكرة المساواة بين الناس لا تتحقق الا بافتراض الندية بينهم، فاذا اقتنعت مجموعة من البشر أنهم أفضل من الآخرين، لا بد أن يؤدي بهم ذلك الى الاعتداء على حقوق المختلفين عنهم. من هنا يتميز «الاخوان» بنوعين متناقضين من السلوك: الولاء الكامل والتعامل الأخلاقي المستقيم في ما بينهم، أما اذا تعاملوا مع الآخرين فهم يعفون أنفسهم من أي التزام أخلاقي. «الاخوان» يتعاملون في ما بينهم بقيم الصدق والوفاء وغيرها من المعاني النبيلة، أما مع الآخرين فلا مانع عندهم من الكذب والظلم والغدر ما دام ذلك يحقق مصلحة الجماعة. يسمحون لأنفسهم، عند الضرورة، بضرب المعارضين لهم وصعقهم بالكهرباء لانتزاع الاعترافات. لا يتحرج «الاخوان» من سحل النساء وتعذيبهن وشتمهن بأقذع الصفات، لكنهم يرتكبون كل هذه الجرائم بضمير مرتاح تماماً، لأنهم يعتبرون ضحاياهم أقل منهم إخلاصاً للاسلام. يعتقدون أن الله قد اختارهم من أجل استعادة مجد الاسلام، فكل من يعارضهم إنما يعادي الله ورسوله، وبالتالي لا كرامة ولا حقوق له، بل يجب أن تفعل به الأفاعيل عقاباً له على عدائه للدين .هذه هي الفكرة الوهمية التي يعيش «الاخوان» في ظلها ويدافعون عنها باستماتة. إنهم يعيشون في عالم افتراضي، تعميهم غشاوة من الوهم يرون أنفسهم من خلالها مقاتلين من أجل دين الله وكل من يختلف معهم عدو للاسلام ذاته. يرفضون رؤية الواقع لأنه يهدد الوهم المريح الذي يعيشون في ظله. لو رأى «الاخوان» الحقيقة وأدركوا الواقع مرة واحدة، سيكتشفون عندئذ أن الفكرة التي يعيشون من أجلها مزيفة وبلا أساس. لو أدركوا ان الخلافة الإسلامية (بمعنى الحكم العادل الرشيد) لم توجد إلا 31 عاماً خلال قرون طويلة من الدول الظالمة التي قامت على المذابح والطغيان. لو أدركوا أن الاسلام دين عظيم لكنه لم يقدم نظاماً سياسياً محدداً للحكم. لو ادركوا أن الطريق الوحيد لنهضة الاسلام هو إنشاء دولة حديثة ديموقراطية يتساوى فيها المواطنون، بغض النظر عن أديانهم، لا تأسيس حكم استبدادي باسم الدين، كما حدث في السودان وأفغانستان والصومال وكل البلاد التي ابتليت بالفاشية الدينية. لو أدركوا هذه الحقائق سينهار عالمهم الافتراضي وسيفقدون إحساسهم بالتميز عن الآخرين وستنحل جماعتهم وتفقد دعوتهم جدواها ومعناها. ليس أمامهم إذاً، حتى يحتفظوا بأوهامهم، إلا إنكار الحقيقة حتى لو كانت ساطعة كالشمس. في لقاء تلفزيوني، رأيت أحد قيادات «الاخوان» يؤكد أن جماعته لم ترفع السلاح قط إلا ضد الاحتلال الإنكليزي، عندئذ اعترض أحد الضيوف قائلا:
ـ كيف تقول ذلك وأنتم قتلتم مصريين مثل القاضي الخازندار عام 1948؟
عندئذ ابتسم القيادي الاخواني وقال:
ـ الخازندار هو والإنكليز سواء.
هذه هي المغالطات التي تنفي الواقع لتحتفظ بالعالم الافتراضي.
ستجدها في كل تصرفات «الاخوان». إنهم ينكرون الواقع حتى يحموا عالمهم الافتراضي ويحتفظوا بفكرتهم الايجابية عن أنفسهم. مصر تدهورت الى الحضيض في كل المجالات ومحمد مرسي نموذج للرئيس العاجز الفاشل، لكن «الاخوان» لن يعترفوا بذلك أبداً وقد طبعوا خلال أسبوع كتابين للحديث عن الإنجازات العظيمة التي حققها مرسي، وهي إنجازات بالطبع لا يراها أحد إلا «الاخوان». بل إن مرسي ذاته في كل أحاديثه يقول كلاماً إنشائياً ويرفض الاعتراف بفشله كرئيس، فيبدو وكأنه منفصل عن الواقع يعيش في عالم افتراضي باعتباره زعيماً عظيماً، أما الأوضاع المأساوية التي يعاني منها المصريون فلا يراها مرسي سوى نتيجة لمؤامرات يقوم بها فلول نظام مبارك وأعداء الدين. في الأدب العالمي رواية شهيرة اسمها دون كيشوت، كتبها الكاتب الأسباني الكبير ميغيل دي سرفانتس، (1547 ـ 1616). بطل الرواية رجل ولد بعد انقضاء عصر الفرسان، لكنه عكف على قراءة الكتب القديمة التي تصف بطولات الفرسان، وظل يحلم بأن يكون فارساً حتى تحول الحلم في لحظة ما الى وهم تملكه. فقرر أن يعيش حياة الفارس بعد أن انقضى عصر الفروسية. عندئذ ارتدى درعاً قديمة وأمسك برمح مهترئ وتورط في معارك وهمية، فإذا رأى غباراً تثيره مجموعة من الأغنام يتخيل أنهم جنود الأعداء ويندفع فوراً الى قتلهم، فيوسعه رعاة الأغنام قذفاً بالحجارة حتى تنكسر أضراسه. مرة أخرى يرى دون كيشوت لأول مرة طاحونة هواء فيتخيل أنها شيطان له أذرع عملاقة، ويندفع ليضرب برمحه طاحونة الهواء التي تدور وتقلبه فيسقط على الأرض وقد تحطمت عظامه. تتكرر هذه الحوادث المؤلمة لدون كيشوت لأنه يعيش في وهمه ويعجز عن رؤية الواقع، حتى يفيق في النهاية ويعترف بالحقيقة. عندئذ يدرك استحالة أن يكون فارساً لأن عصر الفرسان مضى بلا رجعة، ويعترف بأن أشباح الجهل السوداء، على حد تعبيره، قد تملكته من كثرة قراءة كتب عفا عليها الزمن. أظن دون كيشوت أقرب نموذج أدبي لـ«الاخوان المسلمين»، فهم مثله يريدون استعادة ماض لن يعود أبداً. هم مثله يعتبرون أنفسهم في مهمة مقدسة لا وجود لها ولا يحتاج اليها أحد، وهم مثله عاجزون تماماً عن رؤية الواقع مما يدفعهم الى ارتكاب أبشع الجرائم، وهم يعتقدون أنهم يؤدون مهمة جليلة. الدرس المستفاد من هذه الرواية العظيمة، أن ضغط الواقع وليس قوة المنطق هو ما جعل دون كيشوت يفيق من أوهامه. لا أمل اذاً في الحوار مع «الاخوان»، فهم لا يستمعون إلا لتعليمات قادتهم الذين يتوهمون، مثل دون كيشوت، أنهم يؤدون رسالة نبيلة بينما هم يرتكبون جرائم مخزية. إن مصر الآن تمر بلحظة فارقة بمعنى الكلمة، لحظة مواجهة مع الفاشية الدينية تحتاج الى استقامة الثوريين وليس الى مواءمات السياسيين. مطلبنا إجراء انتخابات رئاسية مبكرة. هذا حق ديموقراطي للشعب.
علاء الأسواني
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد