قلق البحث عن البعد الإنساني في العمارة
إن المشروع، في اللغة العربية، هو ما يسِّوغُه الشرعُ، ويجعله مباحا ومشروعا. ومن هذا المفهوم ربَّما، سُمِّيت الخطط، والبرامج المتعددة الأهداف، مشاريع.
والمشروعُ المعماري، هو الأهداف التي ستتحقق بفعل تشييد العمارة وفق المشروع. وهو المهارات المهنية، والوسائل التقنية، والمالية، والإدارية،... وغيرها، التي من شأنها أن تجعل إقامة العِمارة، فعلا ممكنا وفق المشروع.
ثم أشير إلى أن تطورا حاسما قد تمثَّل في النص الأكاديمي الأول للمشروع المعماري، صاغته الأكاديمية الملكية للفنون، التي أسسها كولبير (COLBERT) في فرنسا، مع بداية عصر النهضة في بلدان الغرب. وتلى ذلك تطورٌ استثنائيٌ للمشروع المعماري، بفعل الثورات الصناعية المتتالية في بلدان الغرب أيضا، والتي طوَّرت الحاجات، والتقنيات، ووسائلَ التشييد والبنيان، وانتجت الإيديولوجيات ومنها الحداثة، يهمُّنا منها خاصة، الحداثة في العمارة. كما انتجت في الوقت ذاته، الكولونيالية، والأمبريالية، وبعد ذلك العولمة، أو الكولونيالية الجديدة. إذ إن العولمة كمصطلح، ليست سوى الشكل الراهن، لسيطرة رأس المال على العالم.
أما المشروع المعماري المعاصر، فيمكن تحديده، بكونه عملية معَّقدة قائمة على مكوِّنات عدّة منها:
الموقعُ، موقع المشروع الجغرافي في مناخه، وطبيعته، وتضاريسه، وتوجيهه، وعلاقته بمحيطه. أي تعريفُ الموقع بحيثُ نجيب عن سؤال هامٍّ هو، أين نحن؟ ثم موقع المشروع في التاريخ، بحيث نجيب عن سؤال هام آخر هو، من نحن؟
ثم البعد الوظيفي للمشروع، وطرق انتفاع الناس به، بعد تنفيذه.
ثم البعد التقني، من الهيكل الإنشائي، إلى التجهيزات الخدماتية، إلى الشبكات المعقدة المختلفة، التي ازدادت تعقيدا بفعل ثورة الاتصالات والمعلوماتية، أو الثورة الرقمية.
ثم البعد الاقتصادي، إذ إن المال الذي يُنفق في البنيان، هو مالُ الغير.
ثم البُعد الإنساني للمشروع، الإنسان الكوني الشمولي، والإنسان المحدَّد في مكان المشروع وزمانه. إذ إننا في كل ما نبني، إنما نقيم مؤسسات للإنسان، كما يقول المعمار المبدع لويس كان.
وأخيرا البعد الاجتماعي والإيديولوجي، إذ إن لكل ما ذكرنا، علاقة وثيقة بالبنية الاجتماعية حيث سينفذ المشروع. بجذور المجتمع، برقيِّه، بثقافته، وبالقوانين المرعية الإجراء فيه.
المشروع المعماري موضوع التعليم
وحول المشروع المعماري موضوع التعليم أقول ثانيا، إن موضوع الشيء في اللغة العربية، هو مادتُه، والعناصرُ التي تشكِّل المسألة الرئيسة فيه. ويُصبح المشروع المعماري كما عرَّفته، موضوع تعليم العمارة، عندما نعتمده مادة التعليم الأولى، فتتم صياغته انطلاقا من معطيات محددة. مختزلة أحيانا لضرورات تربوية معيَّنة، ومحوَّرة أحيانا أخرى، لضرورات تربوية مختلفة. على أن تبقى هذه الصياغة متدرِّجة، مترابطة، متواصلة، على امتداد سنوات التعليم بكاملها، بهدف إعداد المعمار المحترف، الذي يستطيعُ السيطرة على المشروع المعماري الواقعي بكل تعقيداته.
فالمشروع المعماري إذاً هو مادة تعليم العِمارة. والسيطرة عليه، هي هدفُ تعليم العِمارة الأساسي.
... وهو وسيلة التعليم الرئيسة
والمشروع المعماري هو وسيلة التعليم ثالثا، هو أداته. أي كما في اللغة العربية مرة أخرى، هو السبيل الذي يتحقق به غرضٌ معين، أو الطريقة التي يُلجأ إليها، للوصول إلى نتيجة مطلوبة. فهو كاللقاح في الطب الوقائي، يعزِّز المناعة، ويعالج المرض بالمرض ذاته. أو كالتشريح في تعليم الطب العام، أو في تعليم الطب الجراحي تحديدا، الذي يساهم في إعداد الأطباء والجرَّاحين. إنه كالعزف الضروري وصولا إلى التأليف، في تعليم الموسيقى. أو كالنحت بالمواد السهلة المطواعة، وصولا إلى تعليم النحت الاحترافي.
فالمشروع المعماري التعليمي إذاً، هو أداة، والسيطرة على المشروع المعماري الواقعي بكل تعقيداته هو هدفٌ، فيصبح الموضوع في الوقت ذاته وسيلة. أي تصبح الفِكرة الأساسية، أداة.
إن تعليم العمارة اليوم، في ضوء التعريف المعاصر للمشروع المعماري:
يفترضُ اختيارا اجتماعيا، أو فهما واضحا متماسكا للمجال الاجتماعي حيث ستقوم العمارة، يُحدِّد موقع العمارة في المجتمع، ودورها فيه. كما يحدِّدُ أيضا حقلَ التدخُّل للمعماري المحترف، ووُجَهة هذا التدخل.
كما يفترض أيضا سيطرة كافية، على إطار نظريٍّ وعمليٍّ لتعليم المشروع المعماري.
ويفترض أخيرا منهجا تربويا ينمِّي طاقات الإبداع، والمبادرة، والإنجاز عند الطالب، <<معمار المستقبل>>. إن إعداد المعمار الفرد المحترف، والمُبدع، هو هدفُ التعليم.
الاختيار الاجتماعي
حول مفهوم الاختيار الاجتماعي في تعليم العمارة، أبدأ بالقول، إن الناس يعيشون في مجالات اجتماعية مختلفة، تحوِّلها مجتمعاتهم باستمرار. وعلى المشروع المعماري في التعليم، وفي الممارسة المهنية، أن يعالج المجال الاجتماعي المتحوِّل هذا، والمحدَّد في المكان وفي الزمان.
وينقسم عالم اليوم كما أراه، بشكل فاقع، إلى مركز مسيطر، وإن بعدَّة أقطاب متفاوتة القدرات والدور، يحتكر القوة، والثروة، والإنتاج، والتكنولوجيا، والإعلام. وإلى أطراف، لا تملك سوى الإفقار والاستهلاك، والإلحاق، والتبعية، وإن بدرجات مختلفة.
وربما صحَّت في إطار هذا الانقسام، فرضية يختارُها معماريّو بلدان المركز في عملهم تعليما وممارسة. فرضية ترى أن من الممكن تصوّر الإشكالية المعمارية عندهم بكاملها، ومهما تنوعت المشاريع، داخل مُميِّزات المجال الحديث المسيطر في بلدانهم، وهو مجال المجتمعات الصناعية المعاصرة، أو مجال مجتمعات ما بعد الصناعة كما يعرِّفونها اليوم، أو مجال مجتمعات التكنولوجيا المتقدمة العالية، أو المجتمعات الرقمية.
ويُصبحُ دورَ العمارة، إنطلاقا من فرضية العمل هذه، تعريفُ الجزء المرئيِّ من هذا المجال المحدّد، أو توصيفه. ولا تتجلىَّ قدرة العمارة على إظهار تكامُل المعطيات البرنامجية، والاقتصادية، والتقنية، والاجتماعية، ومعطيات الظروف المحيطة، في المُنتَج المعماري، إلا عندما تتمُّ السيطرة الكاملة على المشروع. عندها، وعندها فقط، يمكن للعمارة أن تصبحَ قيمة ثقافية دائمة.
وهذه العمارة المفترضة، يُنتِجُها اليوم في بلدان المركز، بعضُ المعماريين العالميين <<النجوم>>، (نورمان فوستر، ريتشارد رودجرز، جان نوفل، رنزوبيانو، فرنك غري، رافاييل مونيو، وغيرهم كثر).
أما العمارة التي تصلنا من بلدان المركز كما عرَّفته، فهي عمارة منمَّطة كأنماط الأزياء تماما، أو كأنماط جراحة التجميل المتكاثرة، تكرِّرُ نفسها وصولا إلى درجة الاستنساخ الجاف. وهي، كما يقول المعمار الإيطالي فرنشيسكو فينيتزيا حمَّى في البناء، خالية من أي رمز أو تعبير.
ومُقارنة بهذا الفهم المفترض للمجال الاجتماعي، في بلدان المركز، ما هو الاختيار الاجتماعي الممكن، في بلدان الأطراف المتخلفة؟ كيف نفهم المجال الاجتماعي عندنا ؟ هذا الاختيار وهذا الفهم، الضروريان كما أعتقد، لتعليم العمارة ولإنتاجها؟
علينا أن نقرّ بداية، بخضوع مجتمعاتنا لسيطرة رأس المال المُعولَم. وتتجلى هذه السيطرة بالاحتلال المباشر أحيانا، وبالاعتداءات العسكرية المتكرّرة غالبا، وبالحروب الدورية المنظَّمة تُشَنّ علينا، متلطِّية بشعارات إنسانية كاذبة، بهدف تثبيت هذه السيطرة. كما تتجلى بسطوة السوق المعولمة تُغِرقنا بكل أنواع السلع، وبغزو فجٍّ لتفاهات ثقافية معمَّمة، وبُطغيان الإعلام المرئيِّ خاصة.
أغامر فأقول، إنها مواصفات التبعية المطلقة، التي لا أرى خروجا منها إلا بالمقاومة، أو بالممانعة كحد أدنى، وصولا إلى تلطيف ظروف التبعية على الأقل. والاختيار الاجتماعي المتاح لنا في مواجهة كل ذلك، هو اختيار المجتمع المقاوم أو المجتمع الممانع.
وكما افترضت، أن الإشكالية المعمارية بكاملها في بلدان المركز قد تمَّ تصوُّرها داخلَ مميِّزات المجال الحديث المسيطر في المجتمعات الصناعية أوفي المجتمعات الرقمية، فإن تصور الإشكالية المعمارية بشموليتها عندنا، عليه أن يتمَّ داخلَ خاصيَّات المجال في المجتمع المقاوم أو الممانع. وذلك كي نُنمِّي عندنا معرفة مهنية مقاومة أو ممانعة، في تعليم العمارة وفي إنتاجها، منفتحة على المعرفة وعلى العلم الذي يرقى بالناس، ولا يُسخَّر لخدمة الغطرسة والعسكرة المُعولمة، ومنفتحة على التقدم، ذي المضمون الإنساني الحقيقي، وبعيدة عن أي تزمت أو ظلامية، يرفضها معظمنا. ويؤدي ذلك عند معماريينا في بحثهم عن هذه المعرفة المهنية الممانعة، في التعليم وفي الممارسة، إلى نهج مركب، قائم على ثلاثة محاور:
في المحور الأول، دراسة جدِّية معمَّقة لتراثنا في كل مراحله. خاصة تلك التي سبقت بداية القرن التاسع عشر، أي بداية ما اصطلحَ البعضُ على تسميته عصرَ النهضة العربية. دراسة تكمِل معرفتنا له، تعمِّقها، وتوثقها، وتعمِّمها، وتجعلها جزءا هاما من برامج تعليم العمارة في كل جامعاتنا في الوطن العربي.
في المحور الثاني، دراسة منهجية لنماذج عمارة السكن في الوطن العربي. وتمتد هذه الدراسة عندنا في لبنان قرنين من الزمن، من أوائل القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا. وتطال نماذج للمساكن لا تزالُ قائمة إلى الآن في كثير من مناطقِنا، في الشمال وفي الجنوب، وفي البقاع، وفي الجبل.
لدينا الآن في لبنان محاولاتٌ جادة في هذا المجال، لجاك ليجيه بلير عن المسكن في لبنان، ولفريدريك راغيت عن العمارة في لبنان إبان الحكم العثماني، (ولراغيت كتاب جديد بعنوان، عمارة المنطقة العربية المحلية والتقليدية)، ولروبير صليبا عن عمارة زمن الانتداب أو العمارة الكولونيالية. وقد أكمل جورج عربيد الدراسة مؤخرا ووصل بها إلى عمارة الستينيات. يبقى أن نكمِل هذه الدراسة، وأن نُبوِّبها بشكل منهجي، ونتلمَّس الخيط الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي المهني، والإبداعي، الذي يربطها في كل مراحلها، وعلاقة هذا الخيط بالمكان وبناسه. ونجعَلها بعد ذلكَ جزءا من تعليم العمارة في كل جامعاتنا دون استثناء.
وفي المحور الثالث، المُقاربة العقلانية لعمارة الحداثة الأصيلة كما جاءت في أعمال روَّادها وفي كتاباتهم، وفي بعض أعمال الاقتباس الناجحة عندنا. مقاربة موضوعية بدون أفكار مسبقة وبدون انبهار أيضا. ابتداءً بمنطلقاتها الإنسانية التقدمية، وحُلمها الطوباوي بتعميم أسس واحدة لتنظيم المدينة، ومفاهيمَ واحدة رائدة، لانتاج العمارة، تتبنَّاها البشرية جمعاء، وتساهم في رفع مستوى حياة الناس. وانتهاءً بما آلت إليه في الواقع، من تعميم لعمارة الطرز الدولي التافهة، التي تُهدَم اليومَ في أكثر من مكان.
والتوقُّف عند التيارات التي سادت في الفكر المعماري في الغرب بعد تراجع الحداثة منذ بداية السبعينيات، مثل ما بعد الحداثة (تشارلز مور، روبيرت فنتوري، مايكل غرايفس، جيمس سترلنغ)، والتفكيكية (بيتر ايزنمن، برنارد تشومي، زها حديد، دانييل ليبسكند، كو_ هيمَّلبلو)، والمينيمالية (انطوان بريدوك، لويس بَّراغان، ماتياس غوريتز)، والتعبيريين الجدد (هانس شارون، بارت برنس، فيليب ستارك، رالف إرسكين، سانتياغو كالاترافا)، والعمارة الإيكولوجية، (مايكل هوبكنز، نيكولا غريمشو) والعمارة المؤقتة، والعمارة التي ستزول لتصبح قريبة من مفهوم الخدمات،... إلخ، وغير ذلك من النظريات، المتكاملة احيانا، والمتناقصة غالبا، والتي ترافق اليوم تحوُّلاتِ العمارة المعاصرة في بلدان المركز المتقدمة.
والتوقف المنهجي المطوَّل، عند بعض الأعمال النموذجية المعاصرة، كما في اليابان (تاداو أندو)، أو في المكسيك (ريكاردو ليغورتا)، وفي بعض بلدان أميركا اللاتينية (البرازيل، لوتشيو كوستا وأوسكار نيميير، وفي كوبا، وكولومبيا، والبيرو، (الإسباني الأصل خوسيه لويس سرت) أو في بعض بلدان أوروبا (فنلندا، ألفار ألتو، والبرتغال، ألفارو سيزا )، أو في الهند (تشارلز كورِّيا، وراج ريوال)، أو في سري لانكا (جيفري باوا) دون أن ننسى الوطن العربي (مصر حسن فتحي وعبد الواحد وكيل، والعراق محمد مكية ورفعة الجادرجي وقحطان عوني، والأردن راسم بدران)... وغيرهم.
وتهدف هذه المقاربة المثلَّثة، في متابعة تطوُّر العمارة في بلدان المركز المتقدمة، منذ بدء الحداثة حتى يومنا، إلى تعريف الطلاَّب على التيارات المسيطرة في عمارة اليوم، بطريقة موضوعية منظَّمة، تُبعِد عنهم سطوة الإرهاب الفكريِّ الفالت تمارسُه وسائل الإعلام، وتكرسه شبكات المعلوماتية وأدواتها، وكل المطبوعات الغربية المتخصِّصة التي تُغرقُ أسواقنا.
كما تهدفُ إلى إخراجهم من دائرة الانبهار التي تشلُّ عَمَل العقل عندهم، وتسلِّحهم بفكر النقد، وبمنهج التحليل. كما تهدفُ أخيرا إلى إرشادهم، كي يبتكرَ كلٌ منهم طريقته الخاصة، في التعامل المبدع مع الأفكار السائدة في الثقافة المعولمة، وفي الفكر المعماري المعولم بصورة خاصة.
الإطار النظري والعملي
يبقى من مقومات تعليم العمارة،بعدما عرضت تصوري لمجالنا الاجتماعي، موضوعان:
امتلاك الاطار النظري والعملي، لتعليم المشروع المعماري.
وامتلاك المنهج التربوي، القائم على الاختلاف، وعلى تنمية طاقات التعبير والإبداع، عند المعمار الفرد.
يتحدَّد الهدف الرئيس للإطار النظري والعملي في التعليم، بالسيطرة على المشروع المعماري بكل تعقيداته. والمشروع المعماري كما أراه، هو المشروعُ التعليمي بكامله، موزَّعا على كل سنوات التعليم، تحتلُّ فيه السنة الأخيرة موقعا خاصا، باعتبارها سنة الوصول إلى الهدف.
وبتوزيع التعليم على عدة سنوات، يتم بشكل مواز، توزيع تعليم السيطرة على المشروع على عدة سنوات أيضا، يكون فيها التعليمُ بالتالي بالتدرُّج. ومضمون التدرُّج، هو تدرُّج التعقيد. وفي هذا التدرُّج بإدخال التعقيدات، ربما يكون من المفيد التأكيد على منطلقات رئيسة اهمُّها:
المشروع المعماري التعليمي، هو من صنع التعليم نفسه، يُصنع، بمفاهيم تربوية محدَّدة، ولخدمة أهداف تربوية محدَّدة. ولا يجوز أن يُجابه الطالبُ معطيات الواقع بكل شموليته دفعة واحدة.
وتهدفُ كلُّ مرحلة من مراحل عملية التعليم، إلى تأمين معارف جزئية غير شاملة يستوعبها الطالب، بحيث يتحقق بتتابع المراحل وتواصلها، الهدف الرئيس، وهو السيطرة على المشروع.
المفاهيم التربوية
ومن المفاهيم التربوية التي أشرت إليها أذكر على سبيل المثال:
التعليم يتوجه دائما إلى مجموعة واسعة نسبيا لإثارة المنافسة، وتحريك الرغبة بإعطاء الأفضل عبر المقارنة، وعبر الطموح إلى التفوُّق. إذ إن الهدفَ الأساسيَّ هو تكوينُ الفرد المبدع، مصمّم العمارة، ومنتجها. ولا يصل الطالبُ إلى ذلك، إلا عبر تنمية الوعي عنده باختلافه عن زملائه، وعبر اكتشافه للبهجة في عمله، وللسرور في متابعة هذا العمل. فيُصبحُ العملُ هذا مُلكَه، والسرورُ الناجمُ عن ذلك ملكَه أيضا.
ويكتسبُ الطالبُ بالتالي دورَه كمبدع منتج للعمارة. وهذا الدور هو ثمرة عملِه، وهو ليس حقا يعود له بالضرورة. إنه قيمة يكتسبها. ويُصبح هو وحده بالتالي، ضامنا للقيمة الثقافية لمشروعِه، أي لعمِله.
الأهداف التربوية
ولا يوضع الهدف من تعليم المشروع المعماري، خارج الاختيار الاجتماعي، وخارج تعريف المجال المعماري المرتبط بهذا الاختيار. وقد غامرت، بشكل مطوَّل، في تحديد رؤيتي للمجال الاجتماعي عندنا، في بلدان الأطراف. أما الأهداف التربوية التي أشرت إليها فأهمها:
يرافق التدرُّجُ التربويُّ بالضرورة، التدرُّجَ بإدخال التعقيدات، والثاني وهو شبه آلي، ولا يتطلب جهدا. أما التدرُّج التربوي، فهو جوهرُ التعليم، إذ إن التعليمَ لا يهدفُ إلا إلى التعليم. التعليم هو هدفٌ بذاته، وإن كان للهدفِ هدفٌ، وهو تكوين المعمار المبدع. ويقوُم هذا التدرُّجُ التربوي على قناعات عملانية أورد بعضها:
التعليم ممكنٌ، إذا اكتشف الطالبُ البهجة وهو يعمل، أكرِّر، التعليم ممكن،إذا اكتشف الطالب ذاته.
ولا يمكن لشخصية الأستاذ أو المدرس أن تظهر بذاتها، إلا عبر التعليم، عبر الأداء، المتدرِّج هو الآخر.
ويُختتم هذا التدرج بالمراحل النهائية التالية:
إعطاءُ العمارة أدوات خاصة بها، كتنظيم المسَّطحات وتعريفها، (المسطحات المنتظمة وغير المنتظمة، تجانسها، تجاورها، تقاطعها، دور الفتحات ودور الضوء في تعريفها). وتنظيم المجالات وتعريفها، (متلاصقة، متكررة، إيقاعية، متداخلة، متفاعلة، مجزأة، منسابة، هرمية الدور في التأليف). وتنظيم الكتل والأحجام، (متناغمة، متماثلة، ديناميكية، مفاجئة)... إلخ
التأكيد على متعة العمل على الشكل، وإبراز الثراء المدهش لعالم الأشكال.
إكمال المشروع، بتكامل البرنامج، والتقنية، والبيئة المحيطة، والإيديولوجية.
استنباط اللغة التعبيرية الخاصة بكل طالب، فعلى المعمار قبل كل شيء أن يحسن التعبير.
والوصول في النهاية إلى عمل جادٍّ في المجال المديني حيث نبني، لأن المدينة بكلِّيتها هي هدفُ العمارة الأساسي.
لويس كان
خاتمة هذا النص، أراها بالعودة إلى لويس كان المعمار المبدع، ومعلم العمارة بامتياز. ثلاثة أهداف، يراها لويس كان في تعليم العمارة:
الهدف الأول، هو تكوين المعمار المحترف. ويتلخص الاحتراف كما يراه كان، بتملك المعمار لمعارف عديدة أهمها:
المعرفة الكافية للتقنيات التي تساهم في صنع العمارة، وأهمُّها تقنية الهيكل الإنشائي معرّف المجال المعماري الذي ينتجه المعمار.
والمعرفة الكافية للقوانين المرعية الإجراء، ومعرفة دورها في صُنع العمارة.
المعرفة الكافية لميزانية المشروع، وللإنفاق عليه، لأن المعمار لا ينفق ماله، بل مال غيره.
المعرفة الكافية لقواعد الجمال، بما يساعده على التوقُّف عند اللغة المعمارية في ما ينتج.
إلا أن أهم ما على المعمار المحترف أن يمتلكه، هو معرفته لإعادة تعريف البرنامج. لا يعطي المعمار إلى الذي يريُد أن يقيم مؤسسة للإنسان مجموعة مساحات أو مجموعة مجالات، يؤكد لويس كان. ولا يستطيع أن يستجيب إلى البرنامج كمن يكتب وصفة طبية. إن معرفة طبيعة مؤسسة الإنسان التي يُنتجها، هي موضوعُ احتراف.
والهدف الثاني، هو تكوين المعمار الذي يحسن التعبير. فعلى المعمار أن يعبِّر في عمله. ووظيفته الأولى هي التعبير. وعليه أن يَعرفَ موقعَه. المعمار فنان، (العمارة فن المكان يقول كريستيان نوربرغ شولتز أيضا) المعمار فنان يقول كان، ومحترفُ تقنيات، وعارفُ قوانين في الوقت ذاته. يرسمُ الرسَّام عربة المدفع بدواليب مربَّعةً احتجاجا على الحرب. ويجعلُ النحَّات هذه الدواليب في منحوتته، مثلثة أو مكسَّرة للسبب ذاته ربما.
أما المعمار، فعليه أن يرسُم هذه الدواليب مستديرة، لأن حقوقه في التعبير، هي في مكان آخر، إنها في صُنع المنتج الرائع.
أما الهدف الثالث والأخير، يقول لويس كان، فهو الإدراكُ بأن العمارة هي غير موجودة.عندما يصمِّم المعمار، عندما يُبدع، يقدِّم عملا معماريا رائعا. إن ما يقوم به، هو فعل العمارة. أما العِمارة ذاتها، فهي موجودة في الذهن فقط (هذا ما يقوله ماسيميليانو فوكساس اليوم).
إن المعمار الجيِّد، يقدِّم عَمَله ذبيحة، على مذبح خاص بروح العمارة.
ألا يلاقي لويس كان في هذا التعريف، ما قاله لوكوربوزييه حين كتب في العام 1924، العمارة هي من فعل الفن، إنها ظاهرة تحرِّكُ المشاعرَ خارج مسائل البنيان... إنها أبعد من ذلك. البنيانُ هو للثبات، أما العمارة فهي لتحريك المشاعر.. العمارة هي إبداعٌ ذهني خالص.
ألا تتناقض هذه المقاربات، مع المقولة التي ترى العمارة منتجا اجتماعيا بامتياز؟
لعل في هذا التناقض الظاهر، قلق البحث المتواصل، عن البعد الإنساني، في العمارة.
رهيف فياض
عن السفير
إضافة تعليق جديد