ماريو فارغاس يوسا: الرواية مملكة الكذب والشعر ضمير العالم
• الإنسان إله عندما يحلم وشحّاذ عندما يفكّر
• دون كيشوت، عندي قصة مثيرة للاهتمام حوله: لقد حاولت قراءة هذا الكتاب عندما كنت في المدرسة الثانوية، ولم افلح. اتعبتني لغته القديمة وجمله
• نحتت امرأة قوية عنيدة مبدعة، فضّلت النضال على الشكوى والمثابرة على الإستسلام، وعرفت كيف تحوّل نقماتها نعماً بفضل صلابة شخصيتها وشساعة خيالها
الرسالة الأولى التي تلقيتها من الكاتب ماريو فارغاس يوسا كانت في شهر تشرين الأول من العام الماضي. "سيسعدني إجراء الحوار"، كتب يقول، "ولكن أين ومتى؟". عشرة أشهر ونحن نحاول ان نحلّ معضلة الأين والمتى، بلا جدوى. عشرة اشهر من المراسلات والمفاوضات الالكترونية المتواصلة مع سكرتيرته روزاريو: هي تكتب الي لتعلمني بمخططات سفره، وأنا اكتب اليها كلما لاحت رحلة جديدة في الأفق، الى أن التقى الخطان المتوازيان، البيروفي واللبناني، داخل دائرة الصيف اللندني.
"أخيرا"، قال لي مبتسما وهو ينزل درج شقته الدوبلكس الفخمة في ذلك الحيّ الراقي والهادىء. "أخيرا"، أجبته مبتسمة وأنا أراقبه يمشي نحوي بمتعة صيّادةٍ ألقت القبض على "فريسة" كمنت لها طويلا.
ولد يوسا في 28 آذار من عام 1936 في مدينة اريكيبا في البيرو، لكنه عاش الأعوام العشرة الأولى من حياته في بوليفيا، قبل أن يعود مع العائلة الى بلاده عام 1946. تابع في الجامعة دراسات في الادب والحقوق، وتزوج في سن التاسعة عشرة بإحدى قريباته، جوليا اوركيدي، التي كانت تكبره بثمانية عشر عاما، والتي استوحى منها رائعته "الخالة جوليا والكاتب" (1977). الا أن زواجهما لم يستمر طويلاً، فتطلقا عام 1964 والتقى في العام التالي بباتريسيا، "امرأة حياته" التي لم تزل زوجته حتى اليوم، والتي أنجب منها ثلاثة اولاد: الفارو وغونزالو ومورغانا. عاش طويلا في اوروبا، وخصوصا في باريس ولندن ومدريد، حيث مارس مهنا عديدة، فعمل مترجما وصحافيا واستاذا في اللغة. وقد مُنح الجنسية الاسبانية عام 1994 بعدما حاز جائزة ثرفانتس للآداب في العام نفسه.
من أعمال ماريو فارغاس يوسا في الرواية "الفردوس، أبعد قليلاً" (2003)، "حفلة التيس" (2000)، "حرب نهاية العالم" (1981)، "محادثة في الكاتدرائية" (1969)، "البيت الأخضر" (1965)، "المدينة والكلاب" (1963)؛ وفي البحث "لغة الشغف (2001)، رسائل الى روائي شاب (1997)، "السمكة في الماء" (1993)، "الحقيقة من الأكاذيب" (1990)، "بين سارتر وكامو" (1981)؛ وفي المسرح "مجنون الشرفات" (1993) و"المزحة" (1986). وقد تُرجمت معظم هذه الأعمال الى عشرات اللغات منها الفرنسية والايطالية والبرتغالية والانكليزية والالمانية والروسية والفنلندية والتركية واليابانية والصينية والتشيكية، والعربية طبعا. وهو نال جوائز ادبية لا تحصى، علما انه مرشح دائم لنوبل. وقد كان الروائي الكولومبي الكبير غبرييل غارثيا ماركيث من أعز اصدقائه، إلا انهما تخاصما عام 2003 عندما تهجّم يوسا على ماركيث في معرض بوغوتا للكتاب، واصفا إياه بـ"ممالق كوبا" بسبب علاقة الكولومبي الحميمة والمتينة مع الديكتاتور فيديل كاسترو. وقد اضطر يوسا يومذاك الى الخروج من الباب الخلفي للمعرض بسبب ردود فعل الجمهور العنيفة على انتقاداته لـ"بطلهم" الوطني ماركيث.
بدأت شهرة يوسا منذ روايته الأولى "المدينة والكلاب"، التي روى فيها تجربته القسرية في المؤسسة العسكرية، وادرك العالمية سريعا نتيجة فترة ازدهار أدب أميركا اللاتينية، التي عرفت باسم الـ Boom في الخمسينات والستينات من القرن الفائت، والتي جذبت انظار العالم الى هذه القارة وآدابها، إلى جانب كتّاب آخرين أبرزهم ماركيث وفوينتس وكورتاثار. ولكن في حين كان ثمة جامع مشترك بين كتّاب الـ"بوم"، هو تمحور السرد حول عالم سكّان القارة الأصليين، والقاء الضوء على الظلم اللاحق بهم، وهذا ما قام به يوسا في "حرب نهاية العالم" مثلا، إلا أن كتابة يوسا لا تنتمي الى تيار الواقعية السحرية التي غالبا ما يخلط الناس بينها وبين الـ"بوم"، فيعممونها على كل كتّاب أميركا اللاتينية الذين برزوا في تلك المرحلة. ذلك أن يوسا لا يمزج الواقع بالفانتازيا على طريقة ماركيث مثلا، وهو وإن يخترع ويتخيّل، الا أن خياله "واقعي" كما يصفه. لا بل غالبا ما يعتمد على شخصيات حقيقية لبناء قصصه، على نحو تندمج فيه عبقرية الروائي مع دقّة كاتب السيرة. ويتكل على العمل الاستقصائي والتوثيقي بقدر ما يتكل على خياله الروائي الخصب، فيصهر الواقع والمخترَع ويعيد خلق الماضي على طريقته ويستخدم الأزمنة ببراعة ويعيث الفوضى و"الفساد" في الذاكرة، لأن الكتابة كما يصفها هي "رذيلة" والكاتب "ساحر ومشعوذ". والرواية لدى يوسا لا تـنفصل عن البحث بل هي شكل من أشكاله، وحوادثها تُروى عبر تأملات نابعة من مجاهل الوعي مما يمنحها ميزتها الإستبطانية، فيجتاح فيها الأسلوب العرْضي الأسلوب السردي أو يتقاطع معه. ولهذا السبب يصفه النقاد بانه من الكتّاب القلائل في العالم الذين يثيرون فضولا فكريا وتاريخياً وسياسيا وادبيا على حد سواء. لكنّه لا يقدّم البحث في نقاء عذريته بل ينتهكه بفن "الكذب" الذي يشكل في رأيه أفضل دليل على انتصار الخيال الروائي. هكذا يتحاذى في اعماله التاريخ والخيال، بل غالبا ما ينصهران الى حدّ امحاء الحدود بينهما في اسلوب يشبه ألف ليلة وليلة، فيتخلى فيها البحث عن كونه ظاهرة عقلانية بشكل صرف، ويتحول بين يديه إلى ظاهرة وجدانية و"ذاتية".
لطالما سحرت يوسا فكرة اليوتوبيا، التي تمثّل على قوله اكبر طموح للإنسان منذ فجر التاريخ. ولطالما دافع كذلك عن الأدب الملتزم وأصر على ضرورة أن يقوم المثقف بدور الفضّاح. وكان كتابه "حفلة التيس" أثار جدلا كبيراً بسبب تناوله حياة الديكتاتور الدومينيكاني رافاييل ليونيداس تروخييو، اذ كشف الأديب من خلال صورة هذا "الوحش" فساد كل الزعماء الديكتاتوريين ودمويتهم وهوسهم الإستعراضي النرجسي، عبر تصويره المحطات المختلفة في عملية تحول إنسان عادي طاغيةً. وليست هذه الجدلية والإستفزازية بالغريبتين أو الدخيلتين على عالم يوسا، وهو الذي يعتبر أن الكلمات ألغام مرصودة لكي تنفجر في ضمير القارىء او سلوكه او ذاكرته. ويعكس أدبه صورة تلك القارة اللاتينية الممزقة والغامضة التي ينتمي اليها، كما يعكس مبادئه السياسية والاجتماعية.
في الحديث عن المبادىء السياسية، صعب أن نصدّق أن يوسا انجذب في أولى مراحل شبابه الى شخصية فيديل كاسترو والى الثورة الكوبية، ولكن هذا ما حصل. إلا أن اوهامه الغيفارية سرعان ما تبخّرت، ولم يتردد في وقت لاحق في اعلان قطيعة كاملة مع حركات اليسار المتطرف، والى شن حملات عنيفة ضد كاسترو تحديدا. وقد شارك عام 1988 في تأسيس "حركة الحريات" القائمة على تحالف عدد من الأحزاب اليمينية، وترشّح لرئاسة جمهورية البيرو عام 1990. لكنه خسر أمام البرتو فوخيموري، فتخلّى عن طموحاته السياسية خائبا، رغم انه تعلم الكثير خلال اعوام نشاطه السياسي، بحسب قوله، عن "فساد السلطة وتحريضها الناس على التضحية بكل شيء في سبيلها". وقد تعرّض مرارا لانتقادات شرسة بسبب دعمه الولايات المتحدة، وبسبب مقالاته المناصرة لأميركا التي دأب على نشرها في صحيفة "الباييس" اثناء حرب العراق، عندما سافر الى مسرح الحرب مع ابنته المصوّرة مورغانا وقاما بعمل مشترك حول تلك التجربة في عنوان "يوميات العراق". وصحيح ان يوسا حاول استدراك مواقفه عام 2004، واصفا الحرب الاميركية على العراق بأنها "انتهاك للشرعية الدولية"، وبأنه يجهل سبب دعم اثنار لها، لكنه سرعان ما استدرك "استدراكه" عند صدور قرار سحب القوات الاسبانية من العراق، فهاجم القرار ووصفه بأنه انتصار للارهابيين.
قريبٌ يوسا، ودود ومحبّ، كأنه، لفرط دفئه وحنانه وبساطته، ذلك العمّ البعيد الذي هاجر الى اميركا اللاتينية عندما كنا أطفالا، وعدنا لنلتقي به الآن. يتمتع بحس فكاهة رائع، ولكم ضحكتُ عندما شرعت في عملية تفريغ الحوار على الورق، ورحت استمع الى رنين قهقهاتنا في الشريط كل خمس دقائق. بدا حريصا، على غرار معظم الكتّاب الذين قابلتهم، على حسن سير آلة التسجيل: "جربي الآلة قبل أن نبدأ، فالماكينات غادرة وغالبا ما تحبّ أن تخدع الناس". قرأ لنجيب محفوظ وأمين معلوف، وحضر للأخير اوبرا "الحب من بعيد" التي سحرته. سألني عن الكتّاب الشباب اللبنانيين، وعن حضور الفرنكوفونية في أدبنا، ثم عن طرق عمل جهاز الكومبيوتر بالعربية.
يتكلم يوسا بصوت عال جدا، كخطيب على منبر، وبالطريقة نفسها يتحدث في أسرار الأدب وفي احتمالات القهوة: "هل تريدين السكّر او الحليب مع فنجانك؟" سألني فجأة في منتصف لقائنا، بين جملتين في موضوع الايروتيكية، وذلك من دون اي تغيير في النبرة، حد انني ظننت لوهلةٍ ان استفهام روحه المضيافة هو جزء "سوريالي" من جوابه عن دور الجنس في الآداب والفنون. "ليعتن بك الكولومبيون جيدا"، قال، عندما اخبرته اني مسافرة في اليوم التالي الى ميديين، واني متحمسة الى اكتشاف بقعةٍ من قارة أشعر بانتماء صاعق اليها. "انهم شعب رائع وفرح ويعيش حياة ثقافية غنية رغم كثرة مشكلاته. ولكن يجب ان تزوري البيرو أيضا. بلادنا جميلة جدا. ربما ليس العاصمة ليما، ولكن الداخل ساحر وسيعجبك حتما".
دعي يوسا مرارا الى زيارة بيروت من جانب معهد ثرفانتس الثقافي الاسباني، وهو يأمل أن يتمكن قريبا من تلبية الدعوة، اذ لديه علاقات كثيرة بلبنان. فابنته مورغانا أغرمت بشاب من اصول لبنانية: "كانت عائلته تدعونا الى مأدبات لبنانية شهية. لكنهم انفصلا الآن للأسف". أما ابنه غونزالو فمتزوج بدوره بامرأة من اصل لبناني اسمها جوزفينا سعيد، ويعمل في إحدى الهيئات التابعة للأمم المتحدة التي تعنى بشؤون اللاجئين، ومن المحتمل ان يجيء قريبا للعمل والاستقرار في بيروت.
يصافحني ماريو بقوة اذ يودّعني عند باب شقتّه: "إسمعي، خطرت لي فكرة للتو: يجب ان نجد لك حبيبا بيروفيا، لكي يصبح انتماؤك الى قارتنا كاملا، فما رأيكِ؟"
لنبدأ من النبع: هل كان ماريو الصغير يحلم بأن يكون كاتبا عندما يكبر؟
- ماريو الصغير كان قبل كل شيء قارئا نهما، على غرار جميع الكتّاب على ما اعتقد. تعلّم القراءة بالنسبة لي هو أجمل واثمن هدية تلقيتها في حياتي. اذكر اني كنت يومذاك في الخامسة من عمري، وقد غيّر هذا الامر العالم كله من حولي في شكل جذري، حد اني اعتقد ان "دعوتي" أو موهبتي الأدبية ولدت في تلك اللحظة المنعطف. وشرارتها المولّدة كانت السعادة التي منحني اياها التهام الكتب في مرحلة طفولتي، مرحلة الاكتشافات الكبرى. وبدأتُ فعلا في الكتابة في شكل شبه تلقائي في مرحلة لاحقة، وكنت بعد فتى. لكني لم ادرك في شكل "واع" ان الادب هو ما اريد فعله في حياتي الا عندما اصبحت في الجامعة. فعندما كنت مراهقا، لم يكن ممكنا في بلاد كبلادي، البيرو، ان يحلم المرء ان يكون كاتبا فحسب، بل كان ينبغي له ان يفكر خصوصا كيف سيجني عيشه، لأن الكتابة "لا تطعم خبزا". ولذلك درست الأدب والمحاماة في الوقت نفسه. لكني في السابعة عشرة او الثامنة عشرة كنت قد عقدت عزمي، وعلمت ان الكتابة حياتي.
وهذه السعادة التي منحتك اياها الكتب طفلا، أي كتّاب تحديدا كانوا مستفزيها الأساسيين؟ أعرف أن أكبرهم بورخيس، لأني قرأت كتابك الجميل عنه في عنوان "نصف قرن مع بورخيس"، الصادر فقط بالفرنسية...
- لم يخيّب بورخيس يوما ظني، وعلاقتي به عجيبة، فقد خطفني أو على الأصح "شفطني" كالإعصار منذ اكتشفته، ولكن على العكس مما حدث لي مع عدد كبير من الكتّاب الذين طبعوا مراهقتي، افتتاني بكتبه ينقض فكرة أننا نعجب خصوصا بالكتّاب القريبين منّا والذين يشبهوننا، أي اولئك الذين يعطون جسدا وصوتا للفانتاسمات والرغبات التي نهجس بها. فكتابة بورخيس بعيدة كل البعد عن كتابتي، وشياطينه غريبة الى اقصى الحدود عن شياطيني، كوني روائيا "مسمّما" بالواقع ومتـيّما بالتاريخ. فرغم اني أستخدم تقنيات روائية غريبة احيانا وأمزج الواقع بالخيال، الا أني لا أمزج هذين كما يفعل كتّاب الواقعية السحرية. خيالي هو خيال "واقعي"، اي قابل للتصديق، وليس سحريا أو متجذرا في الفانتازيا. ولذلك ربما اعيد قراءة بورخيس دائما بنوع من الحنين والمالنخوليا، لأن ما اعطي له وصنع انسحاري به، ليس معطى لي ولن يكون.
ومن فرسانك الآخرون؟
- حسنا تفعلين باستخدام عبارة الفرسان، اذ ان الكاتب الأول الذي أسرني في شكل كبير عندما كنت طفلا هو الكساندر دوما، صاحب "الفرسان الثلاثة"، وأذكر اني عشت طويلا في عالمه الرائع. ثم في الجامعة قرأت الكثير من الاوروبيين والاميركيين، خصوصا الجيل الملعون الضائع: همنغواي، فيتزجيرالد، وفوكنر الذي ما زلت أعود اليه بشغف كبير بسبب تعقيدات متاهاته وطريقة بنائه للقصص ولعبه مع الزمن. انه الكاتب الأول الذي قرأته والقلم في يدي، اكتب الملاحظات على الهامش محاولا تفكيك هيكلياته... لكني نسيت اسما مهما جدا من هذه المجموعة. انه "على رأس لساني". (يصفن قليلا). لعنة على الزمن، لقد بدأت الشيخوخة فعلا تفعل فعلها (يضحك)... انه كاتب تلك الثلاثية المهمة عن الولايات المتحدة...
دوس باسوس؟
- بالضبط، دوس باسوس! هذا كاتب رائع قرأته واحببته كثيرا، واعتقد ان كان له تأثيرا جوهريا علي وعلى كتابتي. ثم "تفرنستُ" في مرحلة لاحقة. لطالما كنت معجبا كبيرا بكتّاب القرن التاسع عشر الفرنسيين، وخصوصا منهم فلوبير.
لقد كتبت عن "مدام بوفاري" بحثا في عنوان "العربدة المستمرة"...
- نعم نعم! يا للعار، اليس كذلك؟! (يضحك). "مدام بوفاري" حالة استثنائية واعتقد ان ليس ثمة ما يشبهها في تاريخ الأدب: اذ يمكننا ان نتابع يوما بيوم مراحل تكوينها نتيجة العلاقة الغريبة التي كانت قائمة بين فلوبير وعشيقته، هذه العشيقة التي لم يكن يراها اكثر من مرة في الشهر، ولكنه كان يخبرها في رسائله اليومية المفصّلة مراحل عمله، والمشكلات التي واجهها، والتعديلات التي قام بها، والاضافات التي خطرت له. تلك لم تكن رسائل حب بقدر ما كانت يوميات تكوين "مدام بوفاري"، وذلك مذهل، خصوصا ان علاقتهما دامت خمس سنوات، أي المدّة نفسها التي تطلبتها كتابة الرواية... ثم انغمستُ بعد فلوبير في سارتر وكامو ومالرو. كتاب "الشرط الانساني" لمالرو طبعني في شكل لا يمحى، ومثله سارتر ونظريته حول التزام المثقف والادب الذي يجب ان يعكس زمنه ومشكلات هذا الزمن. كتبي الاولى، على غرار "المدينة والكلاب" مثلا، متجذرة هناك، واعتقد اني ما كنت لأكتب هذه الرواية مثلما كتبتها لولا تأثير سارتر، وإن قمتُ في ما بعد بوضع مسافة بيني وبينه.
المحلي والاجنبي
لكنك تذكر كل هذه الاسماء، علما ان ليس بينها كاتب اميركي لاتيني واحد باستثناء بورخيس! غالبا ما يلام الكاتب عندما يُسأل عن تأثيراته وتكون هذه خارجية، فيكاد يُنظر اليه كـ"خائن" أو كعميل: "ماذا؟ اليس ثمة ما يرضيك في ارث بلادك لكي تذكر كل هؤلاء "الأجانب"؟ فماذا عنك كاتبا ينتمي الى قارة وثقافة بهذا الغنى الأدبي، وضعت بصماتها على كتابات العالم اجمع ولغاته، ولا يذكر من تأثيراته الا "الأجانب"؟
- أحسنت! ولكن هؤلاء الذين يوجهون اصابع الاتهام في هذه المسألة سطحيون، اذ أجد الأمر طبيعيا أن يتاثر الكاتب بما هو غريب عنه، بما لا ينتمي الى ثقافته، بدرجة أكبر مما يتأثر بإرث بلاده ولغته و"فطرته". تصوري اني لم اكتشف كتّاب اميركا اللاتينية الا عندما سافرت الى اوروبا، وخصوصا عندما جئت الى باريس! آنذاك اكتشفت خوليو كورتاثار واليخو كاربنتييه وآخرين. في البيرو لم اكن اقرأ لكتّاب اميركا اللاتينية. أعرف ان ذلك يبدو غريبا، ولكن هذا ما حصل. في اوروبا بدأت في قراءتهم، وفي اوروبا تحديدا بدأت اشعر أني "أميركي لاتيني"، واكتشفت هذه البقعة من العالم كثقافة وبيئة وآداب وفنون لها قواسم مشتركة متكاملة. قبلا لم يكن هذا الانتماء أو هذه الهوية بارزين فيّ. ففي البيرو لم اكن اشعر اني اميركي لاتيني، بل اني بيروفي فحسب. وعلى غرار عدد كبير من كتّاب جيلي، كنتُ أقرأ في شكل خاص "الاجانب".
اعتقد ان هذا يحصل غالبا مع الكتاب الذين يغادرون بلادهم. آنذاك تحضر فيهم أرضهم في شكل اقوى، كأنه رد فعل عضوي على الانسلاخ الجسدي عن المسقط. في اي حال نحن نرى الى أميركا اللاتينية كجو عام، فنقول غالبا: كتّاب اميركا اللاتينية، شعوب اميركا اللاتينية، الخ... والشيء نفسه ينطبق على العالم العربي، الذي يؤخذ بشموليته غالبا من دون الدخول في تفاصيل كل بلد وخصوصياته الأكيدة. ربما هي "لعنة" البلدان التي تتشارك جغرافيا واحدة ولغة واحدة وتاريخ واحد...
- صحيح. في ايام شبابي لم يكن لدينا، نحن كشعوب لاتينية منفردة، هذا الشعور بالانتماء الى "قارة" ككل، بل الى بلداننا فحسب. اما اليوم فقد تغير هذا الامر كثيرا، اذ اصابتنا عدوى الرؤية الاوروبية الشاملة لنا. ولن تجدي الآن شابا من التشيلي او الارجنتين او المكسيك، او شابة من كوبا او كولومبيا او فنزويلا، لا يشعرون منذ صغرهم بأنهم "جزء" من عالم اميركا اللاتينية، ولا يعون انهم يتشاركون حضارة ولغة وتاريخا وثقافة ومجتمعا وتقاليدا مع اقرانهم في البلدان المجاورة. قبلا كان ثمة تعتيم على الخارج القريب في بلداننا، حدّ ان الاكوادورياني لم يكن يعرف ماذا يجري في البيرو، والعكس بالعكس.
حسبي ان سبب ذلك يعود أيضا الى الانظمة الديكتاتورية التي كانت حاكمة آنذاك. أخبرني بعص الأصدقاء عن عمليات "تهريب" للكتب كانت تجري في تلك الأيام، كتب ممنوعة يتناقلها الناس يدا بيد...
- طبعا، فالكاتب الارجنتيني الذي ينشر في بوينس ايرس لم يكن يحلم بأن تُوزَّع كتبه خارج الارجنتين مثلا، وهكذا دواليك في الدول الاخرى. كان من الاسهل ان تدخل بلدنا كتب اوروبية واميركية، من ان تدخلها كتب كولومبية او ارجنتينية او فنزويلية. اما اليوم فقد بات الوضع مختلفا، ليس فقط بسبب السياسة والانفتاح، بل ايضا بسبب دور النشر الضخمة السائدة، والتي تملك فروعا في كل بلدان اميركا اللاتينية كما في اسبانيا، والتي هي ثمرة عمليات دمج كبيرة تُعقد بين عدة دور نشر محلية لها شبكات توزيع خاصة: اي انها حين تصدر كتابا تعمل على توزيعه اوتوماتيكيا في باقي البلدان لكي يطلع عليه قراء الدول الاخرى ايضا، ويتم ذلك في شكل فوري بما ان اللغة واحدة، اي لا ضرورة لانتظار الترجمة. وعلي ان اقول ان مركز النشر الرئيسي في عالمنا الاسبانوفوني هو اسبانيا، التي اصبحت محورا حيويا خلال الاعوام الاخيرة، والتي تمتد غصون دور نشرها الى كل بلدان العالم اللاتيني. إنه لتطوّر رائع، وفيه فائدة للدار وللكاتب وللقارىء على السواء: الدار تربح اكثر، والكاتب يصل اكثر، والقارىء يطّلع أكثر، فضلا عن الانعكاس الايجابي لذلك التوسّع على اللغة نفسها وآدابها، اذ انه يمتنها ويحصنها ويعززها. اعتقد ان هذا ما يجري في عالمكم العربي ولغتكم العربية ايضا، اليس كذلك؟
لا، للأسف، نحن لم نتجاوز بعد هذه العقبة...
- حقا؟ يا للغرابة! انها عقبة عبثية فعلا، واكاد اقول سخيفة، خصوصا بين بلدان تتشارك لغة واحدة. هذه ايام تواصل وتفاعل سهلة على المستوى الثقافي، ويجب الافادة من التطورات الحاصلة على هذا المستوى. هل تقصدين ان شاعرا جزائريا معاصرا مثلا، لن يجد كتابا لشاعر لبناني معاصر في مكتبات عاصمته؟
لكي أكذب افضل
سأجازف واقول ان ذلك مستحيل. طبعا ثمة مستجد على هذا المستوى هو النشر على الانترنت، الذي كسر الى حد بعيد حواجز التوزيع، رغم ان الطالح والصالح ينشر هناك... ولكن في العودة الى موضوع الفرسان الذين رافقوا طفولتك، ماذا عن الفارس الأكبر دون كيشوت، الذي شاركت في احتفالات المئوية الرابعة لولادته هذه السنة؟
- تعرفين، احيانا لا يسع المرء ان يحدد في شكل دقيق كيف تأثر بهذا الكاتب او ذاك، فالتأثيرات غالبا ما تكون غائمة. في ما يتعلق بدون كيشوت، عندي قصة مثيرة للاهتمام حوله: لقد حاولت قراءة هذا الكتاب عندما كنت في المدرسة الثانوية، ولم افلح. اتعبتني لغته القديمة وجمله الطويلة، ولم يشدّني، فلم استطع اكماله وصرفت النظر عنه. لكني عدت اليه ايام الجامعة، وقرأته بفضل الكاتب الاسباني مارتينيث أثورين، الذي كتب عام 1905 كتابا صغيرا جميلا في عنوان "طريق دون كيشوت"، هو ريبورتاج عن الاماكن التي جال فيها بطل ثرفانتس. هذا الكتاب بالذات حرضني على المحاولة مرة ثانية، فعدت الى دون كيشوت، وقرأته كاملا، وبلذة واهتمام وحماسة كبيرة. هذه التحفة صنعت الرواية واللغة الحديثتين، وليس ما اقوله سوى امر بديهي. كل ما يكتب في الاسبانية فيه رائحة ثرفانتس، مثلما كل ما يكتب في الانكليزية فيه رائحة شكسبير في رأيي. وأكثر ما اعشق فيه سخريته، فالسخرية اذا استخدمت بذكاء تكون غالبا بصمة الروائي الناجح، لأنها تضمن المسافة اللازمة بينه وبين نصه.
كتابتك ايضا تتمتع بهذا النفس الساخر، وان بأسلوب اخر...
- لا بد ان مصدره دون كيشوت! لقد قرأت هذا الكتاب مرات عديدة وعلمته ايضا، وتعليم كتاب ما تجربة خاصة وجميلة جدا، اذ ينحفر في الروح والذاكرة واللاوعي والباطن، ولكن من جهة ثانية تولد تلقائيا مسافة بينك وبينه، لأنك اذا كنت تريدين شرح نص ما يجب أن "تخرجي" منه وتغتربي عنه.
ولكن ألا يخفت السحر ايضا مع الشرح؟ تعليم كتاب ما مرارا وتكرارا يشبه في رأيي مؤسسة الزواج لدى البشر: الارتباط الروتيني نفسه = المفاعيل نفسها...
- (يضحك) بلى، انت على حق، يخفت السحر غالبا، فالمغالاة في التفنيد والتحليل والتفسير تفقدنا "الوهم" الذي "يبيعنا" اياه النص، اكان رواية ام قصيدة ام قصة. يصبح آنذاك كل شيء باردا وعقلانيا. حتى البلدان الغريبة التي نمعن في زيارتها والتجوال فيها تفقد وهجها مع الوقت.
في الحديث عن التجوال، أخبرتنا عن تأثير كتاب "طريق دون كيشوت" عليك، واذكر أنك فعلت الشيء نفسه مع "الفردوس، ابعد قليلا"، اذ قمت بنوع من الحجّ بحثا عن اسرار بطليك بول غوغان وفلورا تريستان.
- صحيح، قمت بأسفار إستقصائية كثيرة من لندن الى باريس الى اريكيبا الى جزر الماركيز الى تاهيتي وآرل وليما، بغية اقتفاء آثارهما، وقد رافقتني في رحلتي ابنتي المصوّرة مورغانا، التي أقامت معرضا في ما بعد حول الموضوع. كانت تجربة خاصة وجميلة. لكن لم تكن تلك المرة الأولى، فأنا غالبا ما اتحرّى عن شخصياتي. أحب أن أمزج الخيال بالحقيقة لكي "أكذب" أفضل.
ولكن لماذا اخترت شخصية فلورا تريستان تحديدا؟
- لأني عندما اطلعت على قصتها اعجبت بها وبنضالها الشجاع في زمن كانت المرأة فيه مرصودة للأدوار الثانوية فحسب. تريستان، المولودة من ام فرنسية وأب بيروفي، والتي هي من بلدتي اريكيبا تحديداً، كافحت من اجل مجتمع اكثر عدلا، مجتمع مثالي يحترم حقوق المرأة، وكانت حياتها سلسلة من المغامرات والأسفار والمآسي والتحديات والحرمان. إلا أن تلك الأعوام الحافلة بالصعوبات والتجارب المؤلمة نحتت امرأة قوية عنيدة مبدعة، فضّلت النضال على الشكوى والمثابرة على الإستسلام، وعرفت كيف تحوّل نقماتها نعماً بفضل صلابة شخصيتها وشساعة خيالها وايمانها بضرورة تحرير المرأة من القيود المفروضة عليها. وهذا امر جدير بالاعجاب الى اقصى الحدود. لقد كانت فلورا تريستان شخصية روائية حقيقية من دون "جميلي".
إله عندما يحلم
في فلك الكتاب نفسه ثمة رؤيتان متناقضتان عن الجنس: رؤية تريستان التي ترى فيه محض اداة للسيطرة الذكورية، ورؤية غوغان الذي يعتبره قوة عظيمة موضوعة في خدمة ابداعه. فأين تجد نفسك بين هاتين الرؤيتين المتطرفتين، وأنت الغارف باستمرار وبكثافة من بحر الايروتيكية في رواياتك؟
- لست على أي من النقيضين، فرؤيتي أكثر طبيعية و"صحّية" اذا شئت: الايروتيكية عنصر جوهري من عناصر الحياة عموما، ومن عناصر حياتي وكتابتي خصوصا. الايروتيكية تعني نزع صفة الحيوانية عن الفعل الجنسي، وتحويله عملا فنيا يجتمع فيه الخيال والحساسية والفانتازيا والثقافة. إنها عامل مغن ومنتج حضاري. في المجتمعات البدائية لم يكن ثمة ايروتيكية، وكان الفعل الجنسي فعلا شبه حيواني جل ما يؤدي اليه هو الانجاب. ولم تشرع الايروتيكية في الظهور الا مع تطور المجتمع وتحرره وتثقفه. آنذاك احاطت بفعل الحب طقوس واحتفالات واخراجات ومسرحات، واغتنى هذا بالصور والاستعدادات والغرائز "الذكية" والرغبات السرية المرتبطة ارتباطا وثيقا بالفن.
ذلك هو موضوع كتابك "دفاتر دون ريغوبرتو" في اي حال، الذي تجتمع فيه الايروتيكية مع حس الفكاهة ومع عالم الفن والأدب والفلسفة، كما فعلت قبلا في "امتداح الخالة".
- نعم، ذلك ان الايروتيكية اذا انعزلت عن الخيال، وعن باقي عناصر الحياة والعالم تصبح روتينية وتافهة. وقد استخدمتُ في شخصية دون ريغوبرتو الكثير من هواجسي واستيهاماتي الخاصة. دون ريغوبرتو يحاول باستمرار اغناء علاقته بالمرأة التي يحبّ، والتي هي زوجته، والتي هي البطلة الحقيقية لكل احلامه الجنسية ورغباته السرّية. هو ليس رجلا يبحث عن اللذة خارج علاقته بزوجته، بل يعتبر ان الزواج عالم شديد الغنى يمكن ان يستوعب كل الفانتاسمات وان يجتنب الروتين، شرط ان يكون الخيال موجودا. تلك هي رؤيتي انا ايضا عن العلاقة الزوجية. الخيال هو سلاحنا الحقيقي نحن البشر.
ولذلك تقول ان الانسان إله عندما يحلم وشحّاذ عندما يفكّر، مستشهدا بهولدرلين.
- تماما، لأن هذا الخيال الايروتيكي لم يكن فقط منبع لذات هائلة، بل أيضا منبع ادب رائع ورسم رائع وسينما رائعة ونحت رائع وموسيقى رائعة. لقد زاد في شكل استثنائي قدرة المبدع على الخلق. طبعا له وجه معتم وتافه وسطحي، هو ايروتيكية البلاي بوي والفاشون تيفي والعارضات ذات الكمال المصطنع و"المصنوع" بالمبضع وذات الجمال المبرمج الذي غالبا ما يحاذي الكاريكاتور لفرط بلاستيكيته المبالغة.
أضحكني انك تقول في الكتاب نفسه إن الحب يمارس في شكل افضل في البلدان الكاثوليكية منه في البلدان البروتستانتية. فكّرتُ يومذاك ان البلدان الكاثوليكية لا بد ستشهد موجة نزوح كثيفة!
- (يضحك) هي طريقة أخرى لأقول إن الايروتيكية تزدهر في البيئة القامعة، حيث الممنوعات والتابو والاحكام المسبقة المتعلقة بالحب والجنس تثير رد فعل معاكس.
جورج باتاي بدوره دافع عن هذه الفكرة، اذ كان يقول ان المجتمعات المتساهلة والمتسامحة سوف تقتل الايروتيكية. ولكن الا ترى معي ان المجتمعات القمعية "تسيّس" الجنس اذ تحصره في دوره كرد فعل وتعبير عن تمرد، في حين ان الحرية تخدم الايروتيكية اكثر، بعيدا عن اغلال العقد؟
- لا شك في ان الايروتيكية في حاجة الى الحرية لكي تتغذى، ولكن ليس الى جرعات زائدة منها، والا سيصبح الجنس محض رياضة مملّة. واعتقد ان هذا ما هو حاصل في بعض المجتمعات المنفتحة اكثر من اللازم.
عرفت أنها هي
في العودة الى رؤيتك عن العلاقة الزوجية، اعتقد ان المثل القائل بأن وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة ينطبق عليك وعلى زوجتك باتريسيا، فهلا حدثتنا عن هذه العلاقة الجميلة؟
- انا وباتريسيا معا منذ ما يزيد على اربعين عاما. منذ رأيتها للمرة الأولى عرفت انها امرأة حياتي. أحيانا يعطى للانسان في بعض اللحظات النادرة ان يكون نبيا، ولقائي بباتريسيا كان لحظة نبوّتي. عرفت فورا وفي شكل صاعق انها "هي"، وانها ستكون "هي" حتى آخر رمق من حياتي. ثم انها شريكتي المطلقة عدا عن كونها حبيبتي، واستشيرها في كل شيء. ودعينا لا ننسى انها تنظّم اسفارنا الكثيرة.
فعلا، لقد جلتما العالم في حياتكما، ولم تزالا مسافرين كبيرين. فكيف تجد الوقت لتسافر كل ما تسافر، ولتكتب في الوقت نفسه كل ما تكتب؟
- انا وباتريسيا نعشق السفر. احاول الا اسافر إلا عندما اكون قد انهيت فصلا من كتاب او رواية، لا خلال كتابته، لأني اذا قطعت فصلا في منتصفه، اعجز عن استئنافه من جديد وافقد الخيط تماما وتعم الفوضى في المواد. أقول دائما: أنا من البيرو، حيث ولدت، ومن اسبانيا وانكلترا وفرنسا على حد سواء. أشعر بأنني في بيتي في كلّ من هذه البلدان الأربعة حيث اعيش بالتناوب. لكني ايضا في الحقيقة مواطن من العالم. أنتمي الى عائلة اولئك الذين لا يكفّون عن البحث. وقد رفضتُ أن أُحتجز في بلد واحد، وظرف واحد، ولغة واحدة، ومشهد واحد. قررتُ الخروج من سجن القبيلة، من هذه الإدانة التي تفرضها علينا ظروف ولادتنا بأن نظل كما نحن. والسفر أيضا جزء جوهري من مراحل تكوين كتابتي.
حدثنا قليلا عن هذه المراحل.
- أترك الأفكار والصور تتخمّر ثم أشرع في الهذيان، أي في إدخال بعض الشخصيات على الفكرة - البذرة. وفي أحد الأيام أكتشف، على نحو شبه عرضي، ان فكرتي تلك أصبحت مشروعاً. آنذاك أبدأ في تدوين الملاحظات، واذا تحوّل المشروع هاجساً، يعني ذلك ان القصّة جديرة باهتمامي. أكره الاحساس بالفراغ. بل ان فكرتي عن الموت في الحياة هي ألا يكون عندي مشاريع كتابية، ولذلك عندما أنهي كتاباً، أسعى على الفور الى البدء بآخر. اكتب المقالات على الكومبيوتر، اما الروايات او الدراسات فانا عاجز عن كتابتها على الجهاز فورا. أحتاج الى كتابتها بيدي، ثم تطبعها مساعدتي على الكومبيوتر لكي اقوم بتصحيحها. ما يعجبني في الكومبيوتر ايضا هو انه يمنح الكاتب مسافة مع نصه، يعطيه رؤية افضل واوسع عنه، وآنذاك يمكنه التجريب والتغيير، وذلك ممتاز. قبلا كان الكاتب يحتاج الى ساعات وايام ليفعل ذلك، اما الآن فلا يحتاج الى اكثر من دقائق او حتى ثوان. وفي رأيي أن هذه هي الثورة الكبرى الحقيقية في زمننا. الكومبيوتر بالنسبة لي هو آلة كاتبة متطورة فحسب. ولكن كما قلت النسخة الاولى أكتبها دائما على دفاتر، اذ اعتدت على ايقاع اليد وعلى العلاقة الحميمة بين يدي ونصي. وهي علاقة اعيشها الان بلذة مع روايتي الجديدة.
هل تعطينا لمحة عنها؟
- حسنا، ليست رواية كبيرة، وقد باتت في مرحلة متقدمة. ستكون في عنوان "شيطنات فتاة سيئة"، وهي قصة حب رومنطيقية، مسرحها مدن عشت فيها، أي ليما في الخمسينات وباريس في الستينات ولندن في السبعينات وفي مدريد في الثمانينات: انها تروي اربعين سنة من حياة ثنائي. ولكن ذلك هو العنصر الوحيد المعاش او الاوتوبيوغرافي فيها، اما الباقي فمخترع.
بما انك ميزت المعاش عن المخترع في كتابتك، تحضرني الآن جملة من مقدمتك لـ"الخالة جوليا والكاتب"، تقول فيها ان الادب عملية كذب، وهي فكرة تحضر ايضا في بحثك "الحقيقة من الاكاذيب"...
- اسمعي، انا شخصيا عاجز تماما عن كتابة قصة لا تملك كنقطة انطلاق ذاكرتي، اي اشخاصا او مواقف او صورا من التجربة. الذاكرة عندي هي نقطة انطلاق الخيال، ابني فوقها او انسج حولها فيبدأ "الكذب". لذلك هناك دائما مواد ذاتية من سيرتي في اعمالي، وهي النواة مهما كان حجمها ضئيلا. حوافز الكتابة امر ساحر، وفي الوقت نفسه غامض جدا. لا احد يعرف لماذا يكتب حول اشياء معينة، ولماذا تتركه أشياء اخرى لامباليا.
الخوف نفسه
يسود الاعتقاد بأن الخيال يؤمن مساحة حرية أكبر من الواقع، ولكن الا تظن ان الكاتب يكون احيانا اكثر حرية عندما يكون "يتذكر"، منه عندما يكون يتخيّل؟
- سؤال مثير للاهتمام. فعلا، الاختراع نشاط مشروط جدا، والمرء "يخترع" ما يخترع لا مدفوعا بحريته كما يتوهم، بل لأن امورا معينة حصلت معه ودفعت لاوعيه الى كتابة ما يكتب. الدافع الى الكتابة يأتي من الداخل، من القاع المعتم والغامض، وهو الذي يوجهنا في اتجاهات محددة دون اخرى. انا المس ذلك خصوصا عندما اقرأ كتب غيري، لأني أرى آنذاك الهواجس، هواجس الكاتب، تتكرر من كتاب الى آخر تحت أقنعة مختلفة، لكنها تظل هي نفسها.
كأن خيط اريان يربط اعماله من اولها الى آخرها...
- بالضبط. انه الشرط الذي تفرضه التجربة: اختيار الشخصيات والموضوع، كأنه قدر لا يمكن المرء الفرار منه. في اي حال لم تزل مسألة الكتابة عندي لغزا رغم اني امارسها منذ عقود. وخيط اريان هذا ضروري حتى داخل الكتاب الواحد. أنا ارسم مخططا، او مسارا، او مشروعا عريضا، قبل ان ابدأ في الكتابة الفعلية. لا يعني ذلك اني احترم هذا المخطط حرفيا، بل غالبا ما يتغير ويتحول مع الوقت، لكني في حاجة اليه ليمسكني ويضبطني، والا سأذهب في نفق لن اعود قادرا على الخروج منه. هو يمنحني إذا نوعا من "الأمان" المبدأي او الأولي. أذكر جيدا اني عندما كنت اعيش في باريس في الستينات، كنت على علاقة صداقة متينة مع خوليو كورتاثار، وكنا نلتقي في شكل مكثف في المرحلة التي كان يكتب فيها روايته الشهيرة "رايويلا" ("حجلة")، وهي رواية ذات تركيبة معقدة للغاية. تصوّري أن هذا الكاتب كان يجلس صباحا أمام آلته الكاتبة، غير عارف ما سوف يكتبه في ذلك اليوم! لكن النتيجة جاءت كتابا منظما جدا وله هيكيلية صارمة، أي أن البنية كانت في لاوعيه وان لم يكن يرسم مخططات.
تلك هي البنية المتاهية البورخيسية ايضا، وان على نطاق اكثر كثافة في قصصه.
- أجل. أن نتعلم السيطرة على نسيج اللغة ودفقها يعني أن نتعلّم كيف نفكّر، وهي أيضاً وسيلة لكي نطوّر حساسيتنا وخيالنا وفكرنا النقدي. ولكن أتعرفين، عندما افكر في بداياتي، ارى ان التجربة لم تنفعني في شيء. ما يحصل معنا لا يشبه ما يحصل مع الاطباء او المهندسين او المحامين مثلا، الذين يزدادون ثقة وشعورا بالامان حيال مهنتهم مع الوقت بسبب المراس والتجربة. العمل الابداعي لا يؤدي الى ذلك الشعور بالامان، حتى لو كنت قد ادركت كتابك السبعين: انه الارتباك نفسه، الخوف نفسه، اكاد اقول الجزع، امام الورقة البيضاء الارهابية، وتهديد الخواء.
ولكن هناك "مبدعون" يشعرون بهذا الاطمئنان منذ كتابهم الأول.
- (يبتسم) اعرف، اعرف هذا النوع جيدا، لكني لا اتكلم على الطواويس، التي تحوّل نفسها اصناما من فرط غرورها التافه، بل على المبدع الحقيقي. لا مفر من ان يظل هذا قلقا، بل هو كلما تقدم اكثر في العمر وازدادت تجاربه، ازداد خوفا وشعورا بالمسؤولية لأنه يحدد لنفسه اهدافا اصعب ويغدو اكثر وعيا لحدوده. الطمأنينة شعور غريب على المبدع. المبدع كل مرة مبتدىء، كل مرة يقول في سرّه: ربما لم يعد عندي شيء اقوله. لكنه يحفر. ويحفر. ويجد ما يقوله. هكذا يصبح اكثر قساوة حيال نفسه مع الوقت، واكثر انتقادا لنصه، واكثر ادراكا لما عجز عن تحقيقه، والا فلن يعيش. أنا لم اخف عندما اصدرت روايتي الأولى مثلما اخاف الآن. ثم هناك خطورة ان يكرر نفسه: هذا التهديد يجب ان يكون حاضرا في ذهنه دائما، مع ما يحرضه عليه من تجارب جديدة ومختلفة قد لا تكون بالضرورة ناجحة. اينما التفت المبدع هناك الغام، فكيف يشعر بالطمأنينة؟ المبدع بطل راسيني درامي بامتياز.
في الحديث عن المسرح، أنت كتبت هذا النوع كما كتبت في البحث والقصة والمقال الخ... أي كتابة هي "محظية" قلمك؟
- اذا وجهوا مسدسا الى رأسي واجبروني على اختيار واحدة، سأقول الرواية بالتاكيد، (يضحك)، ولكن لكل نوع سحره ولذته، وأنا لا أحب فكرة "التخصص"، بل أميل الى التنويع. الانتقال من نوع الى آخر منعش ومجدد. في الحقيقة المسرح هو حبي الأول. لو كان في ليما حركة مسرحية حقيقية وفاعلة ومهمة عندما بدأت الكتابة، لكنت ربما كتبت خصوصا في المسرح. اذكر اني عندما كنت تلميذا في الثانوية شاهدت عرضا رائعا لـ"موت مسافر" لآرثر ميلر، قدمته فرقة ارجنتينة كانت مارة في ليما. هذه المسرحية سحرتني، ويومذاك بدأت في كتابة المسرح. لكن كتابة المسرح كانت قامعة للغاية، لأنه كان شبه مستحيل عرض ما نكتب. ولهذا شرعت ابني علاقة مع القارىء من خلال الروايات.
سينمائي فاشل
وكيف تصف هذه العلاقة؟
- هي بدايةً علاقة مع نفسي، فأنا عندما اكتب اضاعف نفسي، اصير اثنين، كاتبا وقارئا في آن واحد، اذ اضع ذاتي دائما في موقع القارىء لألمس ما هو جيد وما هو سيء. أحاول ان أقرأ نفسي بعينين اخريتين، ومن منظار آخر، كما لو اني لا اعرف ما ينتظرني، رغم صعوبة ذلك اذ يجب المرء ان يبذل جهدا كبيرا لينزع عنه شخصانيته ويصير موضوعيا حيال نصه وتقنياته. ذلك هو الفرق الرئيسي بين الرواية والفيلم: "قارىء" الفيلم مجبر على تلقي القصة وقبولها مثلما يفرضها عليه المخرج، أما قارىء الكتاب فلديه فسحة حرية يمكن خياله ان يسرح فيها ويضيف بعض التفاصيل، كما ان عليه ان يترجم القصة "صوريا". القارىء مشاهد خلاق، لأنه يشتغل الصور بنفسه. فحتى عندما تقرأين وصفا لوجه ما في رواية، يظل هذا الوجه مبهما وضبابيا مهما كان الوصف دقيقا، وما تتخيلينه انت عنه مختلف بالتأكيد عما يراه قارىء آخر. اما في الفيلم فالوجه هو هو. ليس ثمة بدائل ممكنة ولا نستطيع ان نغير فيه شيئا. ذلك لأقول أن الأدب يولد قرّاء أكثر ابداعية وخيالا من "قرّاء" السينما. قراء السينما سلبيون، محض متلقين. تغمرهم الصور كأنهم في مغطس. انا احب السينما كثيرا، ولكن يجب ان نعرف ان الفرق لا يكمن فقط بين لغة السيناريو ولغة الكتاب، كما يقال غالبا، بل ايضا وخصوصا في نوعية المتلقي الذي تنتجه كل فئة.
انت اشتغلت في السينما، فقد كتبت سيناريو فيلم مقتبسا من احدى رواياتك، وشاركت في اخراجه في السبعينات...
- آه يا الهي! هل يجب ان نتذكر هذه الفضيحة؟ طمئنيني: هل شاهدت الفيلم؟
لا، لم اشاهده للأسف.
- للأسف؟! بل قولي لحسن حظك! (يضحك) إياك ان تشاهديه... اتمنى لو تُمحى هذه التجربة من ذاكرتي وذاكرة الناس على السواء. لنقل اني جنيت منها فائدة واحدة: اكتشفت من جرّائها فشلي التام كسينمائي. وافكر في كتابة قصتي المخزية مع السينما يوما، لأنها تظهر الى اي حد هي عالم عبثي وشديد الاختلاف عن الأدب. سأخبرك كيف حصل ذلك: في احد الايام، كنت في المكسيك اكتب ريبورتاجا. رن جرس الهاتف، وكان المتصل احد مدراء شركة باراماونت، وهو فرنسي مسؤول عن شراء حقوق القصص في العالم الاسبانوفوني. قال لي ان الباراماونت اشترت حقوق تحويل احد كتبي، "بانتاليون والزائرات"، فيلما. وقد اشترته لأن شخصا روى لأحد اصحاب الشركة، اثناء رحلة جوية، قصة الكتاب، ففكر صاحب الأسهم أنها ستكون فيلما جميلا ومسليا. حتى الآن لا مشكلة. لكن المدير للأسف قال لي جملة ثانية: "اعتقد ان هذا يجب ان يكون فيلم كاتب، اي ان مخرجها يجب ان يكون الكاتب نفسه، وعليك ان تتولى الاخراج". وهنا وقعت الفجيعة. فمحسوبك لم يكن يعرف شيئا عن السينما، وعلاقتي الوحيدة قبل ذلك مع الصورة كانت محاولة متواضعة، كي لا اقول كارثية، كمصور فوتوغرافي، اذ طلبت مني يوما احدى المجلات مجموعة من الصور لمصارعة ثيران، وفعلت، والنتيجة كانت ان الصور كلها احترقت، ولم ينج منها الا صورة واحدة فقط، هي لمصارع ثيران - يا للاثارة - يشرب كوبا من الماء! (يقهقه)، وتلك كانت مؤهلاتي الوحيدة لصناعة فيلم! لكنهم أصروا واكدوا ان سيكون لي مساعدون محترفون، فقبلت. وكان ما كان من عار...
انا متأكدة انك تبالغ يا سيد يوسا...
- لا لا، صدقيني، لا مبالغة على الاطلاق: اذا قطع هذا الفيلم طريقكِ ذات يوم، غيّري اتجاهك سريعا واجتنبيه. اهربي منه ولا تنظري الى الوراء... لست موهوبا في السينما، هذه واقعة وليست احتمالا.
في الزيادة نقصان
بما أنك تتكلم على الموهبة، انت ذكرت انك معجب كبير بفلوبير علما انه نموذج الكاتب "المجتهد" لا الفطري.
- فلوبير علمني الانضباط، اي الجلوس والعمل في شكل منهجي ومنظم. اعتقد انه اذا لم يكن الكاتب يملك حظ ولادته موهوبا، عليه ان "يصنع" موهبته بالكد والعمل والانتقاد الذاتي، مثل فلوبير. طبعا ثمة حالات استثنائية ونادرة، هي حالات العبقرية الفطرية الصاعقة، اكاد اقول الجينية، لكتّاب يكتبون منذ شبابهم اشياء رائعة. ولكن ليس هذا المعيار. عندما يقرأ المرء الاشياء الاولى التي كتبها فلوبير، لا يستطيع ان يتخيل ان هذا سيكتب تحفا في ما بعد. لكنه كان صاحب روح مثابرة ويهجس بفكرة الكتابة، فعمل وعمل وعمل حتى انفجرت عبقريته اخيرا. المساعدة الافضل التي جاءتني عندما شرعت في الكتابة هي قراءة مراسلات فلوبير حول عمله على مدام بوفاري. انه عمل متقن ودقيق على كل كلمة وعلى كل جملة بغية الوصول الى الجملة الكاملة وتاليا الى الرواية الكاملة، وقد حرضني ذلك كثيرا.
أذكر شخصية في رواية كامو، "الطاعون"، هي شخصية جوزيف غران، الذي يريد أن يكون كاتبا، وان يكتب تحفة ادبية، لكنه لا يستطيع ان يتجاوز الجملة الاولى من فرط ما يريدها ان تكون كاملة. البحث عن الكمال يشل أحيانا وقد يؤدي الى العقم...
- من دون شك، وهذا وقوع في التطرف، فالجملة الاولى يمكن تصحيحها الى ما لا نهاية، ولكن لا يعني ذلك الاستسهال، اذ ينبغي للمرء ان ينحني على نصّه وان يجهد ويتعب كثيرا لكي تكون النتيجة عملا كبيرا. يجب الا يكون قنوعا، بل ان يطالب ذاته بما هو افضل.
لكن فاليري يقول ان النص "ورشة" دائمة، اي انه لا ينجز ابدا، بل جل ما يحصل هو انه يتم التخلي عنه في لحظة ما. فألا تعتقد انه اذا غالى المرء في العمل على نصه، ثمة ايضا خطر ان يشوهه بدلا من ان يحسنه؟ هذا ما حصل مثلا مع فلوبير نفسه في "تجربة سان انطوان"، حيث النسخة الاولى، التي كتبها قبل مدام بوفاري، كانت اغنى بكثير من النسخة الثانية التي راجعها ونقحها ونشرها في ما بعد، مثلما اظهر لنا لويس برتران عندما نشر الأولى. ثمة ما هو أهم من الكمال، وهو "حيوية" النص، اليس كذلك؟
- بالتأكيد، وهذا خطر وارد ومحدق. المبالغة في التطهير والتقشف الحقت الاذى بذاك العمل. لذلك اعتقد ان على الكاتب ان يعمل كثيرا، ولكن عليه ايضا ان يعرف ان يتوقف في الوقت المناسب.
وكيف يعرف ماريو فارغاس يوسا متى "يتوقف"؟
- انه امر غريزي يجب ان تطيعيه. في لحظة ما اعرف اني ادركت نقطة التشبع، واني ما بعد هذه النقطة لن اجني شيئا مفيدا بل سأشوّه. ثمة بوصلة، او جرس انذار يقول لي "توقف"، فأتوقف. كتّاب القرن التاسع عشر كانوا بمعظمهم بارعين على هذا المستوى. واعتقد ان اللحظة المثالية للأدب كانت القرن التاسع عشر. فيه كان الكاتب نجما ذا جمهور عريض، من دون ان يكون ذلك منعكسا سلبا على نوعية نصه. كان الكاتب الحقيقي الكبير آنذاك هو صاحب الكتب الأكثر مبيعا، لا الكاتب التجاري، اي النموذج السائد اليوم.
كان ثمة نوع من التوازن او العلاقة العادلة بين نوعية النص ودرجة شعبيته.
- بالضبط، وانطلاقا من تلك المرحلة حصل طلاق او انفصام بين النوعية والكمية. بات للادب الجيد جمهور محدود، يوصف بالنخبوي، وللادب التجاري جمهور عريض هو الاستهلاكي، ما عدا بعض الاسثناءات. ولكن اذا اردت رأيي، أفضل ان يقرأ الناس بست سيللر على الا يقرأوا ابدا او على ان يشاهدوا التلفزيون فقط. ليقرأوا "شيفرة دافنشي" ويتسلوا اذا شاؤوا، لا بأس، ولكن ليقرأوا.
ولكنها قراءة "تتفّه" و"تبذّل" الذوق الأدبي، ومن يعتاد قراءة هذه الاشياء يصبح عاجزا في ما بعد عن قراءة ادب حقيقي، كبروست او بورخيس او كافكا او جويس، لأن هذه ستتطلب منه جهودا ما عاد مستعدا او جاهزا لبذلها فكريا.
- صحيح، ولكن كل هذه السلبيات تظل أقل ضررا من طغيان الصورة. فضلا عن انه يقع جزء من اللوم على بعض الكتاب الذي ينتجون أدبا مستحيلا يبدو مكتوبا لتيئيس الناس وارباكهم في شكل مجاني: وليست هذه بالطريقة الناجعة ليربح الادب الجيد. فمثلما السياسي الفاسد يسيء الى صورة السياسي النزيه، كذلك الكاتب السيىء يسيء الى صورة الكاتب الجيد.
يوسا رئيساً
آه، وصلنا الى السياسة، وغالبا ما يشكل الأدب والسياسة كوكتيلا قاتلا ومتفجرا... فهلا حدثتنا عن تجربتك كمرشح رئاسي عام 1990؟
- كانت تجربة فظيعة، خصوصا ان المرحلة التي تعيشها بلادي كانت صعبة جدا، بين ارهاب وتطرف وشبه حرب اهلية. ولكن السياسة تجربة في غاية الجحود. وهي كما قلتِ متناقضة للغاية مع الأدب، خصوصا على مستوى اللغة: الطريقة التي يدير فيها السياسيون لغتهم مختلفة كثيرا عن طريقة الكتّاب.
ولكن الفئتان على السواء يجب الا ينقصهما الخيال...
- لم ينفعني خيالي هناك صدّقيني. كانت تلك التجربة خيبة أمل كبيرة ولا يمكن أن أكررها، وقد تعرّضت لحملات تشهير مرعبة وظالمة. بعد سقوط جدار برلين عام 1989، كثرا كنّا نحن الذين آمننا بقرب حلول ثقافة شمولية متسامحة وديموقراطية. كانت تلك يوتوبيا فحسب. ولكن لا يعني ذلك ان يدير الادب ظهره للسياسة، بل ما زلتُ مؤمناً بالأدب الملتزم، وبواجبنا الأخلاقي ككتّاب في وضع الاصبع على الجرح والمشاركة في الحياة المدنية، وان من غير سبيل المشاركة المباشرة. يقول البعض ان أفضل ما يستطيع الكتّاب فعله هو الإحجام عن إبداء الرأي في السياسة، وإن الناس لا يأبهون بآراء هؤلاء. لكني سأظل أدافع عن فكرة المثقف الملتزم، المسؤول أخلاقيا. ومن الضروري ايجاد منبر في سبيل الدفاع عن الحرية وحقوق الانسان التي لم تزل تعاني نواقص كثيرة فيها بلدان العالم الثالث. اميركا اللاتينية مثلا تعيش حتى اليوم وضعا في غاية الصعوبة، وهي تحوي اطول ديكتاتورية في التاريخ: 46 عاما للديكتاتور الكوبي كاسترو.
انت كتبت عن الديكتاتور البيروفي اودريا في "محادثة في الكاتدرائية" وعن الديكتاتور الدومينيكاني تروخييو في حفلة التيس.
- أجل، هي طريقتي للفضح، للنضال. عنف الانظمة الديكتاتورية يستقر في كل طبقات المجتمع والحياة ويشوهها، لا على مستوى السياسة فحسب، بل ايضا داخل العائلة والمهنة والجامعة. الديكتاتوريات تفسد.
ليس الديكاتوريات فحسب. هناك ديموقراطيات فاسدة ومفسدة أيضا، وأبلغ مثال عليها ما يعيشه العالم اليوم.
- طبعا، هذا بديهي (يرتبك). لكنّ الفرق هو ان الديموقراطيات مرنة الى حد ما، ويمكن تغييرها من الداخل. اما الديكتاتوريات فمن شبه المستحيل تغييرها من الداخل.
لكن التغيير المفروض من الخارج يؤدي بدوره الى كوارث، وليس هو الحلّ. نحن نرى ما يحصل في العراق مثلا.
- أنتِ على حق، فحين حاولت الديموقراطيات ان تفرض نفسها فرضا خلقت جهنّمات كثيرة، لكنّ هذا لا يلغي واقع ان بعض عناصرها هي التي نجحت شيئا فشيئا في تغيير العالم. ويؤسفني أن يكون معظم الكتّاب المنتمين الى المجتمعات الديموقراطية المتطورة قد عدلوا عن التدخل في مسائل الرأي العام بحجة أن خطوة كهذه هي في غاية الطموح أو في أقصى السذاجة.
أغلاط الشباب
لماذا؟ ماذا تستطيع الكتابة؟
- الكتابة تغيّر الحياة، تروّس الوعي، تدفع الى التأمل. الكتب الجيدة التي قرأتها جعلت حياتي افضل من دون شك. ولكن رغم اللذة الهائلة التي تمنحها القراءة، هي لا تجعل الانسان أكثر "سعادة"، بل ربما أكثر عرضة للحزن والهشاشة في رأيي، لأنها تحوله اكثر حساسية. ان مجتمعا مشبعا بالادب هو مجتمع اكثر غنى وابداعا وحياة. ومن الصعب ان تتلاعب اي سلطة بمجتمع قارىء وان تخدعه، اذ يصبح الفكر النقدي فيه متطورا للغاية. الرواية وسيلة تغيير فاعلة، شرط الا تكون اداة ترويج ايديولوجية او سياسية او دينية، بل ان تستخدم بجدية ونزاهة.
انت تقول ايضا انها "اسلوب رائع للهو".
- صحيح، هي ذلك ايضا، اذ انها تتيح لنا استكشاف أسرار العالم واللغة بألذ طريقة ممكنة. الرواية تمنح الحياة بعدا استثنائيا. إنها إما تعبير عن حياة لا نملكها ونحلم بها، أو عن الزاوية الأشدّ حلكة ودناءة ومأتمية من التجربة الإنسانية. الرواية لا تروي الحقيقة، وإن أوهمت بذلك، فهي مملكة الخيال والفانتازيا والكذب.
وأين ترى الشعر؟
- الشعر ضمير العالم. به نسبر طبقات غامضة من الحياة ليست في متناول المعرفة العقلانية والذكاء المنطقي، أي هاويات التجربة التي لا يمكن أحدا الانحناء عليها من دون أن يعرّض نفسه لأخطار جدية. لا يمكن الوصول الى الشعر عن طريق العقل، وإنما عن طريق الحدس والباطن.
في المناسبة، أنت كتبت الشعر...
- اجل، لكن لا تقولي ذلك لأحد ارجوك! كانت غلطة شباب مريعة (يضحك).
هذه المرة الثانية تطلب مني التكتم على "اغلاطك"! ونظرا الى مهنتي وميولي، لا استطيع ان اضمن لك ذلك. ثم لم تكن غلطة شباب فحسب، كما تزعم، فأنت كررتها حديثا، اذ ثمة في مدريد منذ عام 2004 منحوتات للفنان مانولو فالديس تحمل على ما يبدو "قصائد" لك.
- يا للهول، انت خطيرة فعلا، شرلوك هولمز حقيقي. اريد ان اعرف من اين نبشتِ كل هذه الأسرار القاتمة عني؟
لكل منا اسراره وطرقه...
(يغمزني) أحسنتِ
حوار: جمانة حداد
عن النهار
إضافة تعليق جديد