مفهوم «التجريب» في المسرح السوري

09-03-2010

مفهوم «التجريب» في المسرح السوري

مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بدأ مفهوم التجريب المسرحي في الظهور على خشبات المسارح في العالم أجمع، ويذهب بعض النقاد والدارسين للفن المسرحي إلى إمكانية الفصل التامة بين مفهوم الحداثة الذي ظهر بمختلف أنواع وأشكال الفنون عن التجريب المسرحي، وبشكل خاص بعد أن تلاشت جميع المدارس الجمالية والفنية التي تفرض بالضرورة قواعد ثابتة، لذلك جاء التجريب المسرحي كحركة  تهدف بشكل أساسي للبحث ومحاولة بغية إيجاد أشكال عرض وكتابة مسرحية مختلفة عن جميع القواعد المسرحية السائدة.
وهناك من يعتبر أيضاً أن صفة التجريب-كما هو الحال مع أنواع الفنون الأخرى المختلفة- لا يمكن ربطه بنوع أو تيار أو بمرحلة زمنية أو حركة مسرحية محددة، لذا يمكننا اعتبار التجريب الدافع الأساسي للإبداع في الفن المسرحي منذ ولادته إلى يومنا هذا، لم يتوقف إلا بالمراحل التي فرضت فيها بعض المدارس والتيارات أو الجهات الرسمية قواعد وأنظمة صارمة على هيكلية الكتابة المسرحية وشكل العرض وبنيته وفصوله وأسلوبه، هذا ما تسبب في إيقاف إمكانية التجديد والتجريب.
كما استطاعت بعض حركات التجريب في المسرح إيجاد مسميات وصفات عديدة تناولت النص وعناصر العرض كافة، لكن بقي القاسم المشترك فيما بينها هو رغبة أصحابها في تطوير العملية المسرحية بشكل جذري ومختلف تماماً عن جميع التقاليد والأعراف والقوانين المسرحية التي آلت إلى الجمود والركود مع تقدم الزمن، لذا يمكننا أطلاق تسمية المسرح التجريبي على كافة المحاولات المعارضة والمختلفة بطروحاتها وطرقها وشكلها لمفاهيم المسرح التقليدي «الأرسطوي»، هذا ما أكده الكاتب والمخرج المسرحي الألماني بروتولد برخت في محاضرته التي عنونها «في المسرح التجريبي» عندما قال:«كل مسرح غير أرسططالي هو مسرح تجريبي» لكن التجريب المسرحي انحصر بداية بشكل العرض الذي ساعد في تطويره وتجديده الانفتاح على باقي أنواع الفنون الأخرى من أجل خلق علاقة جديدة مع الجمهور، ليطال التجريب في وقت لاحق بنية العمل المسرحي من الناحية الأيدلوجية أيضاً بموازاة الرؤية البصرية والجمالية.
بدايات التجريب في المسرح السوري
لم تعرف الأوساط المسرحية السورية تحديداً واضحاً لمعنى التجريب المسرحي، إنما اقتصر الحال على بعض التجارب الفردية المتفرقة، إلى أن جاء اللقاء الذي جمع الراحلين المخرج فواز الساجر والكاتب والمنظر المسرحي سعد الله ونوس عام 1976م الذي أعلن دخول مفهوم التجريب بشكله المحدد والواضح، كما أحدث هذا اللقاء أثراً كبيراً على الحركة المسرحية في سورية ما تزال آثاره واضحة إلى يومنا هذا على الرغم من جميع محاولات التعتيم والتهميش ونكران الجميل التي يقوم بها العديد من العاملين في وسطنا الثقافي والمسرحي. على أثر هذه اللقاء تم إنشاء «المسرح التجريبي» بقرار من وزارة الثقافة التي عينت الساجر مخرجاً له وونوس مديراً ومشرفاً على عروضه ونشاطاته المسرحية المختلفة، كما تركت لهما الحرية الكاملة في اختيار النصوص وآلية العمل، وجعلت صالة مسرح القباني مكاناً ثابتاً له.
أول عرض قدم باسم المسرح التجريبي حمل اسم «يوميات مجنون» عن نص للكاتب الروسي نيكولاي غوغول سعى الفنان السوري أسعد فضة لترجمته كما قام ببطولته لكونه قدم كمونودراما، أما الأعداد فكان لونوس والإخراج للساجر، أعقبه عرض «رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة» عن نص أعده ونوس من وحي الكاتب الألماني بيتر فايس وقصته «كيف تخلص السيد موكمبوت من آلامه»، تلاه العرض الإشكالي الذي أثار جدلاً واسعاً حوله «ثلاث حكايات: حكاية ضربة الشمس-حكاية صديقنا شانسو-حكاية الرجل الذي صار كلباً» للكاتب الأرجنتيني أزوالدو دراكون، في هذا العرض فتح الساجر باب التجريب على مصراعيه، عندما أحدث تغييرات عدة على شكل منصة العرض وطريقة دخول وخروج الممثلين وطبيعة أدائهم كما خرج عن طبيعة العرض التقليدي عندما خرج بالعرض ليقدمه للعمال في معاملهم ليقدم لهم أفكار تتناسب مع طبيعة حياتهم وعملهم. كما حاول الساجر أيضاً استضافة عروض مسرحية من كافة المحافظات والمدن التي تحتوي في مضمونها وشكلها على أفكار تندرج تحت أطار التجريب وإن كانت ما تزال في بداياتها لم تتبلور في أطار محدد، عندما تمت دعوة المسرح العمالي بحمص ليقدم مسرحية «القرى تصعد إلى القمر» عام 1979، وفتح  الساجر أيضاً المجال للعديد من المخرجين للمشاركة في نشاط المسرح التجريبي لكن جميع هذه المحاولات لم يكتب لها النجاح، لتنتهي تجربة الساجر وونوس بتقديم ثلاثة عروض يتمية لكنها كانت كافية إلى حد ما لتثير العديد من التساؤلات والسجالات عن المعنى الحقيقي للتجريب المسرحي. من أهم أسباب توقف هذه التجربة هي عدم توفر الشروط الملائمة والإمكانيات المعرفية الصحيحة، مما تسبب بحالة من الالتباس حول المعنى الحقيقي للتجريب المسرحي الذي دخل إلى خشبات مسارحنا بتأثير كبير بالتجارب الأوروبية ذات الاتجاهات والمفاهيم المختلفة غير الملائمة لواقعنا وبيئتنا المحلية وطبيعة واقعنا الثقافي بشكل عام والمسرحي بشكل خاص. كذلك انحصار التجريب المسرحي عند القائمين على هذه التجربة بالعمل على الخشبة بشكل مباشر دون وجود قواعد أو أسس وثوابت مسبقة تحدد طبيعة وماهية هذه التجربة، هذا ما أكدته الكلمة التي تقدمت بها إدارة المسرح التجريبي عند تقديمها لعرضها «رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة» والتي قال فيها الساجر: «أثار عرضنا الأول الذي قدمه المسرح التجريبي –يوميات مجنون- عدداً كبيراً من الالتباسات، وكان مرد هذه الالتباسات في مجملها نقطتين رئيسيتين: الأولى تركزت حول تحديد مفهوم التجريب، والثانية حول اختيار نص يوميات مجنون. وحول النقطة الأولى كان ثمة خلط بين التجريب كما حدد في سياق التجربة المسرحية الأوروبية وبين مفهومنا الخاص عنه، ففي أوروبا المسرح التجريبي هو في معظم الأحيان بحث إشكالي ونخبوي يرمي إلى شق ثغرة في الطريق المسدود الذي وصل إليه المسرح هناك، أما بالنسبة لنا، فالتجريب يعني البحث عن المسرح الذي يلبي حاجاتنا الثقافية والتاريخية، يعني خلق مسرح أصيل وفعال في المناخ السياسي الاجتماعي الراهن. كنا نحلم بتجربة مفتوحة تتحقق مع جمهورها الحقيقي متنامية كل مساء، لا شيء ثابت وله تعريفه الجاهز، لا الكتابة الدرامية ولا طرق تدريب الممثل ولا مكان العرض، إن العمل المسرحي، وبكل أطره المعروفة، يصبح بهذا المعنى مجرد احتمالات تتبدل وتصوب وفق العلاقات الحية مع متفرج بالذات»
وفي مقالة للباحث والناقد المسرحي نديم معلا حول المسرح التجريبي حدد المعنى الحقيقي لمفهوم التجريب بقوله: «يريد هذه المسرح ببساطة، مخاطبة الجمهور والوصول إليه ولكن بأدوات جديدة. لنقل بعبارة أخرى: بلغة مسرحية جديدة، وهذا يعني أنه يبحث باستمرار، وأنه يرفض أن يتوقف عند المألوف والتقليدي. كما يرفض العلاقة التقليدية بين المسرح والجمهور. يريد تحطيم العلبة وإقامة علاقة هي أشبه بالحوار مع المتفرج، مستفيداً من التراث المسرحي كله، عبر توظيفات جديدة له في سبيل تحقيق الهدف الذي يسعى إليه المسرح»
إذاً أراد المسرح التجريبي في سورية تحقيق معادلة بمنتهى الصعوبة، تتلخص بمحاولة كسر الإطار التقليدي للعرض المسرحي بكافة عناصره «النص- الأداء- السينوغرافيا...الخ» ومحاولة الوصول إلى أكبر شريحة ممكنة من الجمهور المسرحي بلغة وأسلوب جديدين لتحقيق المتعة والفائدة بآن معاً، ومن أهم المحاولات التي قدمها المسرح التجريبي على هذا الصعيد هو عرض «ثلاث حكايات» عندما ألغى الساجر شكل الخشبة بمفهومها التقليدي وجعل الممثلين يتجولون بين الكراسي وهم يؤدون أدوارهم، كما نجح ونوس بالأعداد الذي قدمه للنص الأصلي بإيجاد علاقة لامست المتلقي وحركت انفعالاته وخياله محققاً بذلك التفاعل المطلوب، ويقول الساجر عن تجربته هذه:« في هذا العرض ألغينا خشبة المسرح. هل هو تجديد شكلي وفذلكة؟، يقيناً لا. فمشكلة المكان المسرحي هي واحدة من المشاكل الأساسية التي وجدنا ضرورة معالجتها في سياق عملنا التجريبي. إن هندسة مسارحنا التي نسخنـاها عـن نموذج واحد من نماذج المسرح الأوروبي، ونعني المسرح على الطريقة الإيطالية، تشكل عائقاً أمام تكوين علاقة حارة وفعالـة بين الفرجة والمتفرج، بين العرض والجمهور. وإذا كنا نريد أن نقتبس ونعمق تقاليد الفرجة لدينا، هذه التقاليد التي تتيح للمتفرج عفوية وتفتحاً نفسياً، فإن علينا أن نهدم البناء المسرحي من جهـة، وأن نبحث عن علاقـة تشكيليـة جديدة بين الممثل والمتفرج»
  بعد هذه التجربة القصيرة نسيباً توقف المسرح التجريبي عن نشاطاته عام 1981 عندما سافر الساجر إلى موسكو لاستكمال دراسته، لكنه استطاع مع صديقه ونوس وضع القواعد الأساسية لمفهوم المسرح التجريبي، ليس فقط من الناحية الشكلية، بل من حيث الملائمة للبنية الثقافية والاجتماعية المحلية.
التجارب الحديثة: سيطرة الشكل على حساب المضمون
لم تحدد تجربة ونوس والساجر في المسرح التجريبي قواعد أو خصائص محددة، إنما ساعدت في إيجاد أساليب مسرحية حديثة تهدف بشكل أساسي إلى إعادة الاعتبار للفن المسرحي وكسر جميع التقاليد المتبعة والسائدة لإيجاد علاقة جديدة مع شريحة واسعة من الجمهور ليتحول العرض المسرح إلى وسيلة لمناقشة القضايا والمشاكل اليومية بشكل فني رفيع بالإضافة إلى تحقيق عنصر المتعة والفائدة، تجعل  المسرح  يقترب من حالة طقس اجتماعي جماهيري بعيداً عن الأفكار الفلسفية الكبيرة والمقولات الجامدة.
مع بداية ثمانينيات القرن الماضي شهدت الحركة المسرحية في سورية نشاطاً استثنائياً، ترافق مع عودة عدد كبير من الدارسين للفن المسرحي من الدول الغربية المختلفة، حاملين معهم آخر ما توصلت إليه مسارح العالم المختلفة من ابتكارات ونظريات حديثة المعنية بالتجريب المسرحي، كما ساهمت أيضاً العروض المسرحية الأجنبية الزائرة للمهرجانات والفعاليات المحلية، بتقديم تطبيقات عملية على كافة عناصر العرض المسرحي، هذا ما ساهم إلى حد كبير بتقديم تطبيقات عملية في عروضنا المسرحية للتجريب المسرحي الذي اتسعت آفقه واكتسب خبرات جديدة، مما حفز العديد من مخرجينا الشباب الخوض في غماره، والمشاركة في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي الذي بات منذ عام 1988 قبلة للعروض المسرحية التجريبية في الوطن العربي، بعد أن سبقه المسرح السوري بالعمل في مجال التجريب على كافة عناصر العمل المسرحي بعشر سنوات كاملة!
 كما استطاعت مجمل التجارب المسرحية التي  شارك بها المسرح السوري تحقيق جوائز عديدة في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، لتجد لنفسها مكانة جيدة لها، نذكر منها «شوكولا»و«تيامو» للمخرجة الشابة رغدة الشعراني، «فوضى» و«تكتيك» للمخرج والممثل الشاب عبد المنعم عمايري، لكن المتابع لمجمل هذه العروض يلاحظ جنوح هذه التجارب نحو المدرسة المصرية في التجريب المسرحي التي تولي بشكل أساسي الشكل والابتكار ووسائل العرض الجديدة الأهمية الكبرى على حساب المضمون، حسب الاعتقاد السائد في هذه المدرسة أن الشكل والإبهار البصري يزيد من التواصل مع الجمهور، مما أصاب عروضنا المسرحية المعتمدة على التجريب كهوية لها بمرض عصي عن الشفاء بات يستشري بقوة، ليتحول مفهوم التجريب إلى شماعة يعلق عليها أصحاب المشاريع التجريبية فشلهم المتكرر بتقديم عروض مسرحية تجمع بين المتعة والفائدة والشكل الفني الجديد الذي يطرح قضايا فكرية والاجتماعية سياسية عن واقعنا الراهن.
والملاحظ أيضاً في مجمل عروضنا المسرحية التجريبية المحلية هو تلاعب صنعاها بعناصر العرض المسرحي بطريقة أفقدته الخصوصية والموضوعية، كما هو الحال مع عرض «تكتيك» للعمايري الذي أختزل الحوار المسرحي بين الشخصيات إلى حده الأدنى ليتحول العرض إلى مجموعة مونودرامات منفصلة متصلة فيما بينها ضمن عرض واحد، أما المخرج الشاب عروة العربي اعتمد على الميزانسين المسرحي وحركة ممثليه على الخشبة بطريقة لم تصل إلى درجة الإقناع في عرضه «الليغرو»، كما حول إحدى الشخصيات إلى مجموعة نوتات موسيقية عزفت حية على الخشبة، محولاً عرضه إلى مقاربة غير ناضجة لمفهوم التجريب عندما تحولت غالبية الشخصيات التي قدمها في العرض المذكور إلى أشباح تهذي بشكل هستيري تصرخ بطريقة تصم الآذان، بدورها قدمت الشعراني العام الفائت عرضها «تيامو» على خشبة مسرح الحمراء، كان الطابع الطاغي على جميع عناصر العرض الأخرى فيه هي الرؤية البصرية التي اعتمدت على الإدهاش والكرنفالية بغض النظر عن ضحالة النص وافتقاره إلى تقديم أفكار ومقولات تلامس المشاهد كما أراد مؤسسي التجريب المسرحي في سورية تحقيقه مسبقاً، لتتحول مجمل ما يقدم على خشبات مسارحنا من عروض تعتمد على التجريب أسلوباً وبنية ونوعاً مسرحياً إلى محاولات فردية تقوم على عدد من المخرجين الشباب في الغالب، أغراهم إلى حد ما الشكل الذي تقدم به العروض المسرحية التجريبية في الغرب، حتى بتنا لا نستطيع التمييز بين التجريب المسرحي الحقيقي وبين التجريب المبتذل.


أنس زرزر

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...