هكذا تشكّلت الهوية الثقافية الأميركية
إنه مشهد سينما الهويات في الولايات المتحدة Ethnic Film في نقلتها من شرنقة الثقافات القومية، بدواعيها التاريخية ومرجعياتها النفسانية، إلى ساحة الإبداع الجمالي العام
ما هو دور التصنيف البيولوجي في قراءة الظواهر السلوكية والاجتماعية والثقافية لمجموعات بشرية بعينها؟ وهل تراجعت فعلا المنهجية التي تعتمد على المحدَّدات والخصوصيات العرقية في التمييز بين البشر على حساب تنامي حركة أنثروبولوجية في بدايات القرن العشرين تنفي أي ارتباط للشكل والتركيب البيولوجي بالإنجاز الثقافي والاجتماعي الإنساني؟ وهل يجب الفصل قطعاً بين البيولوجي والثقافي، أم إن المبالغة في هذا الشأن قد تنأى بنا عن العلمية والموضوعية في آن؟ وما هي آلية قراءة "ترمومتر" الذاكرة الجمعية في المنتوج الثقافي الإبداعي للمجوعات الإثنية في الوطن الجديد المختار؟
قال لي الدكتور بيتر وَيْد المتخصّص في علم الأجناس الاجتماعي وصاحب الكتاب الشهير الذي يحمل عنوان "العرق والطبيعة والثقافة من منظور أنثروبولوجي": "يسعى الأفراد من خلال انخراطهم في الحركات الثقافية لمجتمعهم إلى تحقيق غاية منشودة. وأحد أهم غايات الحراك الثقافي في مجتمع ما هي تشكيل هويات ثقافية متمايزة تنسحب فيها العديد من صور العلاقات الإنسانية وسيمياء الأصول لمجموعة بشرية بعينها". وتابع وَيْد قائلا: "ليس من الخطأ قراءة مظاهر السلوك البشري في منظور التصنيفات العرقية؛ لكن يجب التمييز هنا أن المعايير البيولوجية تتأثر بشروط البيئة وتتفاعل معها وتتغاير تبعا لتطوّرها، وهذا يعني أن لا تفوّق أبدي وقاطع لعرق بشري على آخر، وبالتالي لا فوقية أو تبعية لثقافة بعينها على أخرى على المدى الطويل".
الفن ونزعة الهوية
ما هي المساحة التي تشغلها ذاكرة المكان وسيكولوجيا الانتماء في البناء الدرامي للعمل الفني؟ وكيف يخرج الفنان من شرنقة هويته الثقافية القومية بكل دوافعها التاريخية ومرجعياتها النفسانية إلى ساحة الإبداع الجمالي العام والأوسع؟ أم إن تحميل العمل الفني ـ نَسوق السينما نموذجا ـ تحميله بعدا أنثروبولوجيا واحدا يجعله من الخصوصية والتمايز ما يسمح بدخوله اليسير إلى ساحة العالمية؟
يقول وَيْد: "إن ارتفاع وتيرة نزعة الهويات في القرن العشرين إنما يعود إلى تنامي مشاعر الارتباط العضوي بين مجموعة بعينها من الأفراد واشتراكها في اللغة أو التاريخ أو الأرض، وكذا في تصاعد الحركات السوسيولوجية السياسية عند الشعوب تزامنا مع ارتفاع وتيرة العولمة".
وإذا كان النص الأدبي المكتوب يكشف عن خبايا المجتمع وينقلها من حيّز الممارسة اليومية إلى دائرة القراءة البلاغية للحدث فإن السينما تأتي لتجسد هذا النص وتشخص الفكرة غارسة مِبْضَعها في عمق دوّارات الحياة الاجتماعية، راصدة بعين الكاميرا الرهيفة زوايا من حياة الأفراد لا تراها العين المجردة. تأتي السينما لتصوغ لغة البوح الشعري، والتجاذب المشهدي، قابضة على حيّز الزمن المنفلت، مسجلة له في وثيقة بصرية لا تزول.
صباح الشرق
هكذا تبرز سينما الهويات في الغرب، ويتعاظم دورها في عالم يشهد فورة معرفية وفردانية في ضوء ثورة اتصالات عارمة وتنامي حركات حقوق الإنسان وتعالي خطاب الليبرالية.
تطرح هذه السينما سؤال المكان المختار وثقافته وقيمه وسلوكياته من جهة، وإشكالية الجيل الأول المهاجر في استيعاب حيثيات هذا العالم الجديد والسير على إيقاعه.
تتجسد هذه الصورة جليّةً في فيلم يحمل عنوان "صباح" للمخرجة والكاتبة الكندية من أصل سوري ربا نَدّة، والذي حاز على جائزة المشاهدين الذهبية مؤخرا عن مشاركته في مهرجان واشنطن السينمائي الدولي.
تسرد ندة في فيلمها، وفي صور حسية عالية التوتر، الحالة الصدامية بين قيم جيلين وثقافتين، وذلك على لسان بطلة الفيلم صباح التي نشأت في كندا بعد أن هاجرت أسرتها من سوريا لعشرين عام خلت. عائلة صباح محافظة إلى حد بعيد، يحاول أولياء أمرها ابتداء بالأم وانتهاء بالأخ المتسلّط، يحاولون السيطرة الكاملة على حياتها ويفرضون عليها عزلة اجتماعية خانقة في مجتمع يقوم على الحرية الشخصية في الاختيار. صباح التي ناهزت الأربعين من عمرها، تصحو فجأة على صدمة لقب "عانس"، وتقرّر عدم مقاومة إغراء رجل تعرّفت إليه مصادفة في حمام السباحة لتدخل معه في علاقة عاطفية عميقة وجارفة، في حين يتجلى الصراع حادا بين التقليدي والتابويّ الذي شبّت عليه صباح في إطار العائلة الشرقية المحافظة، وبين اختيار القلب والجسد أيضا.
لقد استطاع هذا الفيلم من خلال إيقاعه المتوتر إبراز ماهية التناقض الذي تعيشه بعض شرائح الجاليات العربية من التي لم تحسن موائمة مخزونها الثقافي مع شرط المكان الذي اختارته مسكنا ومقاما لها ولأجيالها القادمة من بعدها.
تقول شيرين غريب مديرة المهرجان: "تشخّص ربا ندة مخرجة وكاتبة العمل السينمائي، وبرومانسية عالية، تجربة امرأة من أصول عربية تعيش ثقافة الغرب بأبجدياتها كافة، وبتناقضات عالمين وثقافتين تنتمي إلى كليهما معا. وتحملك برهافة شديدة إلى شرارات الاحتكاك بين هذين العالمين".
السينما السوداء
منذ ظهور أول فيلم ملحمي أميركي طويل الذي حمل عنوان "ولادة أمة" عام 1915 وحتى الستينات، كرسّت السينما الهوليوودية صور تفوّق الرجل الأبيض على مواطنه الأسود الذي غالبا ما بدا أعزل ومغمورا في عالم يسوسه الأميركي الأبيض بما يملك من أسباب القوة من مال وسلطة وتاريخ.
إلا أن سينما السبعينات شهدت تغيّرا لافتا في تشخيصها للأميركيين الأفارقة في الولايات المتحدة؛ وظهر فيلم "الجذور" الشهير حيث تجلّى فيه الرجل الأسود ثائرا على أسباب عبوديته وفقره وجهله.
وأخذت تبرز إلى المقدمة وجوه لممثلين أميركيين من أصول أفريقية سرعان ما تحولوا إلى نجوم بارقة تشق طريقها بقوة على سجاد هوليوود الأحمر، أذكر منهم: تومي ديفيسن وويل سميث وويلسي سنايبز وتيرا بانكس وأنجيلا باسيت وهالي بيري التي كانت أول امرأة سوداء تحصل على جائزة الأوسكار العالمية للسينما كأفضل ممثلة في حفل توزيع جوائز الأوسكار في هوليود للعام 2000.
تقول الدكتورة آندري مكلوسكي مديرة مركز أرشيف الفيلم الأسود في جامعة إنديانا والمتخصصة في دراسات دياسبورا الأميركيين الأفارقة: "لقد ساهمت فنون الأميركيين من أصل أفرقي بعامة، وفي السينما بشكل خاص، في رفد تيار الحركة الثقافية الأميركية التي تقوم أصلا على التلون الثقافي والتعدد العرقي. وقد ساهمت السينما السوداء منذ سبعينات القرن الفائت في دعم صناعة السينما الهوليوودية، وزودتها بوجوه تمتعت بكاريزما فنية عالية مكنتها من احتلال القلوب والشاشات في العالم".
وتضيف مكلوسكي: "أثارت الأفلام الاجتماعية الموجهة لجيل الشباب من الأميركيين الأفارقة حوارا مفتوحا حول قضايا أساسية وشائكة مثل قضايا المخدرات والبطالة والجنس، ما جعل هذه القضايا متداولة بين الشباب للحوار، والاطلاع بمسؤولية إيجاد الحلول الناجعة لها كمواطنين فاعلين ومنفعلين، لا كأقليات مفصولة عن الحياة العامة".
سينما لاتينو
تعتبر الجاليات اللاتينية في أميركا من أكثر التجمعات الأميركية رونقا وتفاعلا على الساحة الفنية. هذه الشعوب التي قدمت إلى الولايات المتحدة من أميركا الجنوبية طلبا لحياة أفضل إنما كانت الأكثر إخلاصا لنبض الرومبا والسامبا الصاخب الذي يجري في دماء أبنائها. ولهذه الجالية تجمعاتها، ونواديها الفنية، ومهرجاناتها السينمائية أيضا على مدار العام.
وقد تميّز مهرجان سان فرانسيسكو الذي التأم في الفترة ما بين 3 إلى 20 تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2005، تميز بحشد من العروض السينمائية وتوافد منقطع النظير للمشاهدين من هواة الفيلم اللاتيني. معظم الأفلام كانت لأميركيين من أصول لاتينية إلى جانب أفلام وافدة من 16 دولة في أميركا الجنوبية، وكذلك من أسبانيا.
يقول جوناثان بيريل المدير التنفيذي للمهرجان: "كان حجم الحضور مفاجأة كبرى بالنسبة لنا. وحين كانت تندر المقاعد في القاعات التي غصّت بمريدي المهرجان كان الجمهور يفضل الجلوس على الأرض على أن تفوته فرصة متابعة العرض".
أما مهرجان إيماجن للفيلم اللاتيني في نيويورك فقد مَنح جائزة أفضل فيلم وأفضل مخرج وممثل مساعد لـ"يوميات دراجة نارية"، الفيلم الذي يروي مذكرات المناضل تشي غيفارا وصديقه ألبيرتو غراندو في رحلتهما في الخمسينات من القرن الفائت عبر أميركا اللاتينية. الفيلم مأخوذ عن مذكرات تشي غيفارا التي تروي رحلته وصديقه على دراجة نارية قاطعين ما يقارب 4500 كيلومتر عبر أميركا اللاتينة.
تقول رئيسة المهرجان هيلين هيرناندز: "لقد أسسنا هذا المهرجان منذ عشرين عاما حين لمسنا خلو الساحة الثقافية من الأنشطة والمهرجانات التي تعرّف بالإبداعات السينمائية اللاتينية".
تتميز السينما اللاتينية بلغة الفانتازيا السينمائية التي تحمل الواقع إلى بوابات الحلم لتعيد كتابة الأحلام من جديد في صيغة المُعاش والممكن، ما يضفي عليها رونقا فريدا وحرارة متجاوزة تسخّن إيقاع الرتابة من يوميات الحياة الأميركية الرصينة.
هكذا تشكّلت الهوية الثقافية الأميركية، في مجتمع تأسّس أصلا على التعدّدية في الأعراق والهويات والثقافات، على مساحة قارة من الائتلاف بين موجات من الهجرات البشرية، حملت ألوانها ومذاهبها ولغاتها وذاكرتها إلى الأرض الجديدة، وانصهرت في وعي جمعي موحَّد، لكنه لاقط لامتياز الفرد في أصيل كينونته، وعبق ميراثه.
مرح البقاعي
مجلة هاي
إضافة تعليق جديد