«وداعاً حلب» على bbc: صناعة الواقع... لا نقله!
في خضم الحراكات التي بدأت شرارتها قبل ستة أعوام في بعض البلدان العربية حتى يومنا هذا، ما زالت الأبحاث والدراسات الإعلامية تتركز على جوانب عدة استخدمتها المنصات الإعلامية، وأسهمت في صناعة أدوات استطاعت حتى تغيير مسار هذه الحراكات.
في زمن عجزت فيه عدسات الكاميرات عن دخول هذه المناطق، ونقل ما يحدث، خرجت علينا ظاهرة «شهود العيان»، التي ما زالت تثير لغطاً وجدلاً كبيرين على المستوى المهني. خروج هؤلاء على الفضائيات العربية المعروفة، والإتكاء عليهم كمصدر موثوق لما يدلون به، صعّدا الكلام حول صدقيتهم، ومهنية المحطة في نقل وقائع وصور من أرض ملتهبة، تشهد صراعات ونزاعات تتخطى الوضع الداخلي.
ولعلّ الأزمة السورية، التي بدأت منذ ذاك التاريخ، تمثل تجربة خاصة، وفريدة في إفراز ظواهر إعلامية ومهنية، لم نكن نشهدها من قبل. الأسبوع الماضي، كنا على موعد على «bbc عربي» مع وثائقي «وداعاً حلب» (إنتاج وإخراج كريستين غرابديان) الذي يرصد الأيام الأخيرة في مدينة حلب قبل استعادتها من النظام.
أربعة شبان تولّوا توثيق يوميات المدينة بالصوت والصورة في شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي: مجاهد أبو الجود، أحمد حشيشو، سراج الدين العمر، وباسم أيوبي... هؤلاء الشباب أطلقت الشبكة البريطانية عليهم تسمية «ناشطون»، واتكأت على موادهم البصرية لتوليف هذا الشريط (52 د). في حقيقة الأمر، لم يكن هؤلاء الشباب محيادين، يفترض أن تتكل عليهم محطة تدعي المهنية كـ «بي. بي. سي عربي»، من أجل نقل الوقائع، وحالة المدينة السورية بتفاصيلها. بداية، أخطأت الشبكة في هذا التصنيف، كون هؤلاء الشبان منتمين الى فصائل سورية معارضة، وهذا الأمر يظهر جلياً في أعلامهم ومحتوى كلامهم. عدا هذا التصنيف الذي يشبه ورطة «شهود العيان»، أظهر الفيلم الذي صوّر على مدى الأيام الأخيرة قبل خروج المدنيين والقوى المسلحة المعارضة من حلب، ظواهر إنسانية ومهنية عدة يمكننا التوقف عندها. طيلة الشريط الذي يظهر أزقة وشوارع المدينة بحالة كارثية، وشبه مدّمرة، نرى ما يمكن أن نسميه «مسرحة الواقع»، بمعنى دأب الشبان الحاملين كاميرات وهواتف ذكية متطورة، وحتى كاميرا «الفانتوم»، التي تتيح التصوير من الفضاء عبر زر التحكم عن بعد... كل هذه الأدوات التكنولوجية الحديثة، أسهمت في صناعة هذه الصور، التي أضافت اليها الشبكة لقطات جديدة، لنصير أمام إشكالية جديدة هنا: هل هذا فعلاً توثيق ونقل للواقع، أم صناعة درامية له؟
هذا على الصعيد المهني، أما إنسانياً، فتُطرح أسئلة عدة طوال لقطات العمل. كيف مثلاً لأحد الشبان، المتواجد في مكتبه، والمعرّض في أي لحظة للموت، جراء القصف القريب من مكان تواجده، أن يتصرف بطبيعية ويركز في كاميرته التي توثق ردات فعل وجهه، ويكمل بشكل إعتيادي حديثه على الهاتف مع أحد أفراد عائلته، رغم رداءة الإتصالات هناك؟ هذا الإعتياد على التواجد في مكان ينذر بالموت والخطر والفقدان، كيف له أن يتلاءم مع أجواء تصوير وتوثيق فردي، لا تفوّت كاميرته أي لقطة؟ الى جانب هذه الأسئلة، لم يتوان الفيلم عن توظيف متعمّد للأطفال، من خلال الحديث معهم، وإحراجهم بأسئلة لا تناسب أعمارهم، بل تخدم فقط سياسة الشريط، من إظهار الخوف واللعب على أحلامهم الصغيرة، كسؤالهم عن الطعام الذي يرغبون في تناوله.
يخرج «وداعاً حلب»، العديد من الظواهر المهنية والأخلاقية أبرزها صناعة اللحظة لا توثيقها، كأن يهرع «ناشط» الى مكان القصف ويكون بكامل وعيه، ويركز في كاميرته وزاويتها، لنقل مشهد الدم والدمار، في وقت ما زالت فيه إشكالية المفاضلة بين التصوير والإنقاذ حاضرة في عالم الحروب والإعلام. يختصر العمل الذي خرج «ناشطوه»، بحافلات «المعارضة» عند معبر «الراموسة»، مودعين مدينتهم، مشهداً إعلامياً مختلفاً، يعطينا دروساً في كيفية صناعة الواقع، لا نقله.
زينب حاوي
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد