الأسد: خطاب الحل السياسي المسلح
أراد الرئيس السوري بشار الأسد لخطابه أمس الأول أن يجمع القوة والانفتاح السياسي المشروط. ما كان ليفعل لولا التقدم العسكري اللافت الذي أحدثه الجيش السوري في الأسابيع الماضية. ولو تم ربط هذا الخطاب بذاك الذي ألقاه السيد حسن نصرالله قبل أيام، يتبين أن المحور الذي ينتمي إليه الرجلان قرر الانتقال إلى مرحلة الهجوم.
اختار الأسد أن يتحدث من قلب دمشق. خاطب الداخل والخارج من على مسرح الأوبرا، وبقي بعد الخطاب يصافح الناس. في الأمر رغبة بإظهار ثقة بالنفس والأمن بعد موجة التفجيرات الدموية التي ضربت العاصمة السورية. في الأمر أيضاً تأكيد على أن الهجوم الكبير الذي كانت المعارضة المسلحة تعدّ له في العاصمة السورية قد انتهى فعلاً.
وضع الأسد خلفه علم سوريا وصور شهداء الحرب. وارتدى بزة داكنة اللون وربطة عنق سوداء. أراد أن يُشعر سامعيه بأن المسؤولية الأولى لما وصلت إليه سوريا تقع على عاتق «متآمرين» في الداخل والخارج، ولم يتضمن الخطاب إشارة واحدة لمسؤولية النظام. هنا أيضاً منطق القوة والانتقال إلى مرحلة الهجوم وشكر متعمد لأطراف خارجية أربعة فقط، هي روسيا والصين ودول «البريكس» وإيران، وشكر داخلي مركز على الجيش والقوات المسلحة.
وفي منطق القوة، وضع الأسد الشرط الأول لأي حل مقبل، وهو «وقف تمويل وتسليح وإيواء المسلحين ووقف المسلحين لكافة العمليات الإرهابية بغية تسهيل عودة النازحين» وبعدها فقط يتم «وقف العمليات العسكرية من قبل القوات المسلحة التي ستحتفظ بحق الرد» وستلاحق من وصفهم بالإرهابيين والتكفيريين، مضيفاً أيضاً شروطاً حول ضمانات كل ذلك.
في هذا الغلاف الموحي بأن حال النظام العسكرية قد تحسنت كثيراً في الآونة الأخيرة، أدرج الأسد رؤيته للحل السياسي.
حملت هذه الرؤية السياسية أفكاراً متقدمة للحل تقبل بتعديل النظام والميثاق والدستور، وكلها يجب أن تخضع لاستفتاء الشعب. لكن هذا الحل يريده الأسد داخلياً بحيث أن لا مبادرات مقبولة إلا تلك التي تتوافق مع رغبات الشعب السوري. شرط كهذا يراد له تقوية الموقف الروسي في المفاوضات الجارية حالياً مع الأميركيين وغيرهم، كما يراد له سحب البساط من تحت أية تسريبات حول قبول بشروط مسبقة كمثل التنحي عن السلطة أو إقامة حكومة انتقالية بصلاحيات واسعة كمقدمة للحل. وفي هذه الحالة تصبح الحكومة نتيجة الحل لا مقدمة له. وهذه الصيغة لن تقبلها المعارضة.
ومن منطلق القوة، يطرح الأسد أن تكون الحكومة السورية هي التي تتصل بكافة «أطياف» المجتمع السوري. وهو حين يتعمد في كل خطاباته الكلام عن «أطياف» فإنما ليؤكد نظريته القائلة بأنه لا توجد معارضة فعلية ولا مُحاورٌ جدي. لا بل إن إضافة عبارة «السيد والعبد» إلى خطابه الجديد، وتسخيفه لفكرة الربيع «فقاعات الصابون» إنما ينسجمان مع الصورة التي أراد أن يقدمها من دار الأوبرا، والقائلة بأن الدولة تحارب الإرهاب وأن هذا هو جوهر المشكلة.
لم يذكر الأسد مطلقاً دور المبعوث الدولي الأخضر الإبراهيمي. هذا يؤكد ما تسرب سابقاً من أن ما يطرحه الإبراهيمي ليس مقبولاً إلا جزئياً. وحين تطرق إلى مبادرة جنيف فإنما للقول بأنها يجب أن تتوافق مع ما يريده الشعب.
لم ولن يقبل الأسد حكومة انتقالية بصلاحيات واسعة، إلا بعد التأكد من المشاركين فيها وهويتها ومشروعها السياسي. هو قال سابقاً هذا الكلام صراحة لمن زاره من المبعوثين الدوليين والوسطاء. سأل بوضوح: من يضمن ألا تسارع هذه الحكومة إلى الصلح مع إسرائيل؟ أو أن تغير طبيعة الدولة وانتماءها وعلاقاتها مع الغرب؟
أما الإيجابية الأخرى في الخطاب فتكمن في محاولة الأسد سحب فتيل الفتنة بين الفلسطيني والسوري على ارض سوريا، فتأكيده الالتزام بقضية فلسطين وبحقوق الفلسطينيين في سوريا يراد له وأد الفتنة في مهدها.
ليس الأسد من النوع الذي يحبذ الكلام العاطفي في خطاباته. وهو حين يضطر لمثل هذه العاطفة الضرورية في الخطابات يبدو كمن يقرأ نصاً لغيره. لكن حين تحدث عن الجيش فقد كان واضحاً وحاسماً وجازماً وشاكراً. هذا مؤشر مهم على أولوية القوة العسكرية على ما عداها في هذه المرحلة طالما أن الحلول لا تلبي الطموحات.
بهذا المعنى بدا الأسد أمس متمسكاً بالقوة العسكرية كشرط ضروري وملازم لأي حل سياسي. ربما هذا ينفع كثيراً الروس في المفاوضات لأنه يساعدهم في القول إن النظام لا يزال قوياً، وربما هذا مهم لشد عصب مؤيدي النظام والمقاتلين إلى جانبه من جيش ولجان شعبية، ومهم كذلك للإيرانيين الذين يكثفون اتصالاتهم اليوم بمصر وبعض دول الخليج والمعارضة، ومهم أخيراً للطرف الآخر من المعارضة التي تؤيد الحوار، وفي مقدمها هيئة التنسيق بقيادة هيثم المناع، ولكن مثل هذا الكلام سيدفع بلا شك الآخرين إلى مزيد من التشدد لإظهار قوتهم.
قال الأسد صراحة «لن نتوقف طالما يوجد إرهابي واحد». ونظرة سوريا إلى معظم المسلحين الذين يقاتلون النظام تفيد بأنهم إرهابيون، لكن فتح الباب على مبدأ العفو العام لم يكن صدفة وإنما هو احد مغريات الحل المنشود.
لا شك أن الأسد يريد حلاً سياسياً، لكنه يريد حلاً مسلحاً بقوة الجيش خصوصاً أن الطرف الآخر يريد إسقاطه بالقوة. ولا شك أيضا أن أميركا، تماماً كروسيا، تريدان بقاء الجيش قوياً للقضاء على «جبهة النصرة» والمسلـحين ذوي التوجه القاعدي، لكن الأكيد أن إظــهار الأسد لعوامل قوته يهدد كثيرين سيندفعون لرفع الصوت سريعاً من واشنطن إلى أوروبا إلى بعض الدول العربية.
غالبا ما يعني منطق القوة في مناسبات كهذه أمرين: إما المضي قدماً في الحل العسكري مهما كانت التكاليف وعدم انتظار خنق سوريا اقتصادياً واستنزاف إيران والعراق، وهذا وارد، وإما رفع الشروط إلى أقصاها كمقدمة لمفاوضات متوازنة تستند إلى إنجازات عسكرية، وهذا مرجّح.
في الحالتين تستمر الأزمة السورية على تعقيدها، وكل الحلول تتطلب مزيداً من القتال، خصوصاً أن ثمة من يعتقد بأن الشهرين المقبلين حاسمان بالنسبة لسوريا والعراق وإيران. من هذا المنطلق يمكن فهم سبب انتقال الأسد ونصرالله ورئيس الحكومة العراقية نوري المالكي من الدفاع إلى الهجوم.
سامي كليب: السفير
إضافة تعليق جديد