الحضور الإنساني في القرآن... قدر الله واختيار الإنسان!
في سياق التدهور التاريخي للحضارة الإسلامية، نمت فكرة «الجبر» حتى أصبحت عنصراً أساسيا في عريضة اتهام الوعي الغربي المعاصر للإسلام، فقيل إن الإيمان بالقضاء والقدر هو علة جمود المسلمين، وأن الإسلام - بحسب هيغل - سالب للذات الفردية وللشخصية الإنسانية، فهل تنبع فكرة الجبر من العقيدة الإسلامية، ما يعني أن الإسلام، بشكل جوهري، أقل تكريساً للحضور الإنساني في العالم قياساً إلى أديان الوحي السابقة عليه؟ وهل تصير فكرة الجبر معادلاً لعقيدة القدر ما يعني الهيمنة المطلقة للمشيئة الإلهية على المصير الإنساني إلى الدرجة التي تجعل الإسلام قامعاً لنمو الوعي بالذات الفردية؟ يحتاج الأمر هنا إلى مناقشة، وربما مقارنة!
ففي اليهودية، ثمة إدراك غامض لقضية القدر يأتي على درجات تختلف باختلاف تصور بني إسرائيل لـ «يهوه» ونصيبه عندهم من التقديس والتنزيه، وما يحوزه من سمو في المشيئة، والقدرة، والصفات، وفي كل الأحوال لم يبلغ القدر عندهم حداً يصبح معه نظاماً كونياً يجري مجرى النواميس الأخلاقية فيوازن بين حدود المشيئة الإلهية، وحرية الإرادة الإنسانية على نحو يصير معه الإنسان مسؤولاً بقدر حريته في الاختيار، بل كان «يهوه» في «العهد القديم» يجري على حكم ثم يندم عليه ولا يتورع عن تبديله بحسب الحالة التي تطرأ، وبحسب ما يتغير الناس بعد الحكم إلى أحسن أو إلى أسوأ، فيقول على لسان النبي أرميا، 18: 8-10: «فإن رجعت تلك الأمة عن شرها الذي من أجله تكلمت عليها فإنني أندم على الشر الذي فكرت في صنعه بها، وبغتة أتكلم على أمة وعلى مملكة لأبني وأغرس. فإن صنعت بالشر في عيني ولم تسمع لصوتي فإنني أندم على الخير الذي قلت أنني أصنعه إليها».
وفي المسيحية خضع مفهوم القضاء لسلطة الله المطلقة على نحو تنتفي معه الإرادة الإنسانية، أو تذوي حريتها وينطمس دورها كما على سبيل المثال، في رسالة القديس بولس إلى أهل روما 14:9-21 حيث نقرأ: «... فماذا نقول؟ أيعقل أن يكون الله غير عادل؟ بالطبع لا! فقد قال الله لموسى: «سأرحم من أشاء، وأشفق على من أشاء»، فلا يعتمد الأمر على رغبة الإنسان أو جهوده إنني أرحم من أرحم وأترأف على من أترأف، فإذاً ليس لمن يشاء ولا من يسعى بل على الله الرحيم». ففي الكتاب قال الله لفرعون: «لقد أقمتك ملكاً لهذا الغرض بذاته: أن أظهر قوتي فيك، وأن يعرف اسمي في كل الأرض». فالله يرحم من يختار أن يرحمه، ويقسى من يختار أن يقسى قلبه، وربما تقول لي: «فلماذا يلومنا الله، لأنه من يستطيع أن يقاوم مشيئته»؟ بل من أنت أيها الإنسان المخلوق لكي تحتج على الله؟ أيسأل الفخار صانعه معترضاً: «لماذا شكلتني هكذا؟» ألا يملك الخزّاف سلطة على الطين ليجعل من كتلة واحدة منه إناء مميزاً أو إناء عادياً؟».
وأما في الإسلام فإن مسألة القدر تنبثق من قلب التوحيد كعقيدة نجحت، إلى حد كبير، في أن تجعل العلاقة بين استطاعة الله سبحانه، واستطاعة الإنسان، رهناً لحقيقتين متواجهتين ظاهراً ولكنهما متكاملتان باطناً، وهما الحرية الإنسانية من جهة، والقدرة الإلهية من جهة أخرى، وفي ما بينهما تكمن العناية الإلهية، ذلك أن النظر في القرآن الكريم يكشف عن آيات مؤيدة لحرية الإنسان ومسؤوليته عن عمله، ولفكرة البعث واليوم الآخر التي تصبح بلا معنى إذا انتفت قدرة الإنسان على الاختيار، كما تكشف في المقابل عن آيات تشير إلى هيمنة الله سبحانه على كل شيء، بفعل قدرته على الخلق. وإضافة إلى ذلك ثمة آيات تشير إلى العناية الإلهية حيث مسؤولية الإنسان الأخلاقية في نفاذ مشيئة الله النهائية وقدره، وتؤكد أن إضلاله للإنسان ليس إلا نتيجة أفعاله، فالله لا يهدي إلا من يريد الهداية، ويفصح القرآن عن هذا المعني بوضوح في سورة الليل: 4-11 «إن سعيكم لشتى، فأما من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى، وكذب بالحسنى، فسنيسره للعسرى، وما يغني عنه ماله إذا تردى».
وهكذا تبدو العناية الإلهية بمثابة حلقة وسطى تربط بين الحرية الإنسانية، والهيمنة الإلهية، فثمة حرية مطلقة للإرادة الإلهية، لأن الشخص، على رغم استقلاله الذاتي وحريته وقدرته على المبادرة، ومواهبه، يبقى تحت تصرف مشيئة الله، هي مشيئة لامتناهية، ومطلقة، وقديمة، في حين أن الإرادة الآدمية على المستوى الدنيوي، مستوى الوجود- بالفعل» متناهية، ونسبية، وحديثة. غير أن إرادة الله في الوقت نفسه ليست اعتباطية هوجاء، بل حكيمة مدبرة، والله ليس طاغية تعميه قدرته القصوى، فيتصرف من دون اعتبار لأي قانون سلوكي، كما يشاء له استبداده المطلق!، بل هو جلّ شأنه «يقدر» و»يقضي» طبقاً لتدبير مسبق، ولحكمة طبيعية يفرضها تسيير الكون: «فلن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً» فاطر: 43، إنها سنة ذات شمول واستمرار، والفارق واضح بين إله يضع تصميمات محكمة، ويدبر الكون في ضوئها على نحو يجعل الإرادة الإنسانية فاعلة ضمن نظام كوني مستقر، وبين إله يدبر الأمر على هواه وبحسب نزوعاته وحالاته المزاجية كما يشي «العهد القديم»، وعلى نحو تنكمش معه حدود الإرادة وتنمو حدود الصدفة، أو يشي العهد الجديد» على نحو ينتفي معه دور الإرادة الإنسانية لمصلحة الحتمية الإلهية.
وفي هذا السياق تبرز أهمية تلك التفرقة التي وضع أساسها المعتزلة بين القدرة والفعل في تصورهم للحضور الإلهي كما ترسمه عقيدة التوحيد الإسلامي. القدرة الإلهية مطلقة لا حدود لها على الإطلاق بحكم أنها صفة من صفات الذات الأزلية القديمة. ولكنها، أي القدرة الإلهية، تمثل «الإمكانات» غير المتناهية للأفعال، والتي ليس محتماً أن تتحقق، أي تنتقل من الإمكانية إلى «الفعل»، «فليس كل مقدور محتم الوقوع». هذه التفرقة تقرر أمرين عظيمين هما قوام الأعمال البشرية، الأول: أن العبد يكسب بإرادته وقدرته، ما هو وسيلة لسعادته، والثاني: إن قدرة الله هي مرجع لجميع الكائنات وأن من آثارها ما يحول بين العبد وبين إنفاذ ما يريده وأن لا شيء سوى الله يمكن له أن يمد العبد بالمعونة في ما لم يبلغه كسبه.
وهكذا تصبح الحرية قيمة يكتسبها الإنسان بمواصلته الإيمان بقدره، ومواصلة الكدح والجهاد في الوقت نفسه، فالإيمان بالقدر، والجهاد الإنساني سمتان إنسانيتان معقولتان، وفيهما يتحقق الاعتدال والصفاء إذا نحن آمنا بأن النتيجة النهائية ليست بأيدينا، إنما علينا أن نسعى ونعمل، أما الباقي فبين يدي الله، ولعل هذا التسليم لله هو الطريقة الإنسانية الوحيدة للخروج من ظروف الحياة المأسوية التي لا حل لها ولا معنى، من دون تمرد ولا قنوط ولا عدمية ولا انتحار. ولعل هذا هو جوهر نظرية اللطف في الفكر الاعتزالي. والتي لا تعدو كونها مسعى عقليا يحاول التأليف بين التكليف الديني، أو الأمر الصادر عن إرادة الله، وبين السلوك الإنساني الناجم عن إرادة الإنسانية الحرة ولكن مع القدرة النسبية.
ولا شك في أن فكرة الجبر نمت في التاريخ الإسلامي، ولكن بفعل الجمود الحضاري، والانكسارات السياسية، ليس بإلهام النص القرآني الذي صاغ العلاقة بين القدرة الإلهية، والحرية الإنسانية في إطار من التوازن الكوني المحكوم بالعناية الإلهية المضمنة في الفهم الإيجابي لعقيدة القدر، ذلك الفهم الذي كان بمثابة المحرك الأول لحركة الفتوح الإسلامية إذ حفز المسلمين الأوائل على لقاء الموت وقلة المبالاة بفراق الحياة، لأن الآيات القرآنية بشرتهم بالنصر، فكان بالنسبة إليهم يقيناً أو قدراً «إيجابياً محتوماً من الله. ولكن هذا اليقين في النصر لم يحل دون الأخذ بأسبابه من تسليح أنفسهم والتدريب على فنون القتال، وإن جعلهم غير هيابين ولا وجلين فلم يقولوا لنبيهم أو لخليفته «أذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون»، كما قال اليهود لنبيهم، بل أجابوه دوماً على دعوته للقتال: إنا معك مقاتلون».
ولا شك أيضاً في أن الفهم السلبي لعقيدة القدر لم يسد لدى المسلمين إلا عندما هدأت الفورة الروحية، واستبدت بالناس حاجاتهم، ورانت الدنيوية على قلوبهم، وأغرقتهم السياسة في القمع بديلاً من الشورى، وخاف الفقهاء مراجعة السلاطين، فعاشوا في جلابيبهم، ولم يكن ثمة تبرير لديهم أفضل من عقيدة القضاء والقدر، ليمنحوا ضعفهم معنى إيمانياً ويلبسوا قعودهم رداء أخلاقياً. لقد نمت الجبرية في المجتمعات الإسلامية على أطلال الحضارة، إذ لا يمكن لها أن تصنع حضارة، ناهيك بأن تكون حضارة كبرى. ومن ثم فلا سند لها في التاريخ، وإن كانت نمت في التاريخ، ولأن انبثاق الحضارة بدأ مع بزوغ الإسلام، وذيوع نظام الفكر القرآني الذي غير معنى التوكل القديم الذي كان مسيطراً على الوعي الجاهلي في البيئة العربية المكية، فإن الحضارة الاسلامية - منطقاً - هي بنت النظام القرآني، وأما الجبرية التي التبست بعصور الجمود، فهي - منطقاً وتاريخاً - بنت للتاريخ وليس للروح التوحيدي، أو لنظام الفكر القرآني، وكل التفاف على هذا الفهم ليس إلا نوعاً من التفكير الحلقي كما يقول الفلاسفة الوضعيون، أو الدوار كما يقول الفقهاء المسلمون.
صلاح سالم
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد