الرصاص الطائش: فجيعة مضافة إلى رصيد الحرب
«بخاطرك سيدي، الذخيرة خلصت، سوريا أمانة برقبتكم»، كانت هذه الكلمات الأخيرة للشهيد فداء أحمد (أبو يعرب)، رئيس مفرزة الأمن العسكري في جسر الشغور في ريف إدلب. قال أحمد ذلك خلال اتصال مع أحد الضباط، قبل المجزرة التي راح ضحيتها أكثر من 120عسكرياً في 5 حزيران 2011. كلمات كانت بمثابة طعنة خنجر في صدر كل من استمع إليها. لا يزال السوريون يسمعون صداها إلى اليوم، برغم أنها لم تكن كافية لترسيخ القيمة الحقيقية للرصاصة التي لا يدركها سوى الجندي الذي يواجه الموت في كل لحظة.
صوت فيروز الذي يتسلل من شرفات المنازل معلناً بداية صباح جديد، بات اليوم مشوباً بأصوات الرصاص الدخيلة على صباحات المدينة. يومياً حوالى الساعة العاشرة صباحاً، تنطلق مواكب تشييع الشهداء من المشفى العسكري في اللاذقية. مواكب تترافق مع الرصاصات التي تطلق في الهواء دافعة المارّة الى الهروب خوفاً من رصاصة طائشة.
النهارات أيضا لا تخلو من اطلاق الرصاص عند فقدان شهيد أو عودة مخطوف أو مقاتل من أرض المعركة. تختلط الأصوات فلا يعود هناك تمييز بين رصاص الفرح ورصاص الحزن، يبقى الموت المجاني القاسم المشترك بين الاثنين، الذي يحصد في كلّ مرّة أرواحاً جديدة.
منى جديد رأت من بعيد ابنها يسير نحوها بخطوات متثاقلة وقميص ملطّخ بالدماء. ركضت إليه صارخةً قبل أن يسقط بين ذراعيها جثة هامدة. مشهد يؤرخ مقتل كل ما هو جميل في حياة منى التي فقدت وحيدها ابن الـ 24 ربيعا أحمد شيحها. رافقته في كلّ خطوة من حياته، فهو كان مُصابا باضطراب التوحد ويعجز على الاعتماد على نفسه والتعبير عن حاجاته. «كل عطلة نهاية أسبوع كنت أرافقه إلى قريتنا، الشقيرية، لتكون لديه مساحة للحركة والحياة. كان يتحاشى الناس والأماكن المزدحمة... يحب الجلوس في البستان بين أشجار الجوز، يلهو بألواح خشبية ويصنع منها أشكالاً جميلة»، تُخبر «أم أحمد». تقول إنه «كان لدينا عالمنا الخاص: يساعدني في المطبخ ونتمشى معاً في البستان… كان توأم روحي الذي لأجله أعيش». بصوت مخنوق تشرح عن الرصاصة الطائشة التي كان مصدرها موكب تشييع أحد شهداء القرية والتي استقرت في جسد أحمد: «هو كان أصمّ لم يسمع صوت الرصاص ولا ضجيج الموكب، ربّما لو سمع الأصوات لهرب أو اختبأ ولكان اليوم حياً». أم أحمد لا تستطيع مسامحة قاتل ابنها، وتسأل «ألا يستحق من قتل ابني، الذي لا حول له ولا قوة، أن يلقى جزاء ما فعله؟ أين المحاسبة؟ أين القانون؟».
ألا يستحق من قتل ابني أن يلقى جزاء ما فعله؟
يوسف حطّاب نموذج آخر. فقد ابنته، نماء، في 3 حزيران 2014 بعدما أصابتها رصاصة طائشة من رصاصات الابتهاج التي أطلقها المحتفلون بفوز الرئيس بشار الأسد في الانتخابات الرئاسية. «لو أن ابنتي قتلت على أيدي التكفيريين لكان حزني واحداً ولخفّف ذلك بعضاً من لوعة قلبي، لكن ابنتي قتلت برصاص جاهلي أحمق. رصاص من يدعي أنه يعبّر عن فرحه، فاغتال الفرح. أراد أن يعبّر عن محبته فاغتال الحبّ والمحبين»، يقول. يتحدث حطاب عن تفاصيل الواقعة: «كانت على سطح البيت مع جدتها حين مرّ موكب الاحتفال. فجأة، وقعت على الأرض وبعد إسعافها بخمس دقائق توفيت. السبب هو مقذوف طائش».
هناك من يعترض على اعتبار ضحايا الرصاص العشوائي «شهداء» لكون القاتل ليس عدواً. إلا أنّ والد نماء يؤمن بأن ابنته شهيدة حتى لو لم يحصل على اعتراف رسميّ يخوله دفنها في مقبرة الشهداء. دفنها في مقبرة مجاورة لها. «كانت مميزة، ومختلفة عن الأولاد في عمرها. تحفظ القرآن الكريم، متفوقة في دراستها، قنوعة ومطيعة. كانت قرّة عيني، وكنت أتوقع لها مستقبلا ًمميزاً»، يتحدث الوالد بأسى وهو يقلّب صفحات أحد كتبها المدرسية. يشير بفخر إلى الصفحات النظيفة والخالية من الرسوم والخربشات، التي غالباً ما تمتلئ بها كتب الأولاد في مثل سنها. تدمع عيناه وهو يتذكر حلمها بأن يكون لها غرفة خاصة في منزلهم في حي المنتزه الشعبي المؤلف من غرفتين، الذي تتقاسم فيه غرفة نوم مع أخيها الأصغر ووالديها. يُخبر حطاب أنه «وضعت الليرة فوق الليرة وجمعت مئة ألف ليرة لأبني لها غرفة في الحديقة… رصاص الجهل والطيش أخذ نماء الصغيرة قبل تحقيق حلمها الصغير والبسيط».
بعد أيّام قليلة لحقت بنماء رفيقتها وجارتها في الحي ألين يحيى، ابنة الـ13 عاماً. ألين توفيت بعد غيبوبة امتدت لأسبوع. «يفرحون فيطلقون الرصاص. يحزنون، فيطلقون الرصاص أيضاً. لكنهم لا يلتفتون خلفهم ليروا نتائج فرحهم وحزنهم»، على حد تعبير والدة ألين. الفتاة كانت تستعد لامتحانات الشهادة الإعدادية حين أصابتها رصاصة طائشة. تقول الوالدة انه «قد يكون أي منهم أصبح قاتلاً دون أن يدري. هو ينام قرير العين تاركاً قلوب آباء وأمهات تنزف دماً كل لحظة بسبب طيشه».
في بلد يترصّده الموت من كل ناحية يصعب الحديث عن نية طيبة أو جهل حين يكون الحديث عن رصاص يقتل، سواء كان رصاصاً طائشاً أو موجّهاً. لا فرق هنا كون الموت واحدا في الحالتين. الا أن الفاجعة تغدو أكبر حين يكون الموت مجانياً مجرّداً من أيّ معنى أو حكمة. «نستطيع أن نحزن ونفرح بطرق كثيرة: بالزغاريد والشموع أو بأي طريقة أخرى، لكن ليس بالرصاص. ابني لم يكن على الجبهة. ابني قتلوه إخوته، بلا سبب وبلا معنى»، كما تقول والدة علي ناصر علي الذي يبلغ من العمر27 عاماً. لاعب منتخب سوريا لكرة القدم هو وحيد والديه. انضمّ، بسبب رصاصة طائشة، إلى قائمة جراح بلده التي لا بلسم لها.
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد