العِلم حضارة وليس مجرد تقنيات
وجدت مقولة الطبيب الفرنسي الشهير كلود برنار(1813- 1878) «العلم نحن والفن أنا»، صدىً طيّباً لها لدى معظم الباحثين في شؤون العلم وشجونه. فتتبع روبرت ميرتون (1910 - 2003)، رائد المدرسة البنائية الوظيفية Structural Functionalism ومؤسس سوسيولوجيا العلوم Sociology of Science، هذا الخيط. وشدّد ميرتون على النزعة المجتمعية التي تدافع عن فكرة تقاسم المعرفة في قلب الجماعة. وحدّد عام 1942 «القيَم» المناسبة للذهن العلمي. إذ رأى أن هذا الأخير ينبثق ضمن سيَاق اجتماعي وثقافي ملائم. نظر ميرتون إلى العلم كمؤسسة اجتماعية لها نُظُمها وقيَمُها وروحيتُها، وتأمّلَ في المضامين الاجتماعية التي يحملها العِلم، مؤكّداً أن هذا الأخير نشاط اجتماعي يحتاج للتأييد من قيَم الجماعة.
بغداد: تاريخ مدينة العِلم
في كتابه «أخلاقيات العِلم» (صدر مترجماً إلى العربية في 2011، عن سلسلة «عالم المعرفة»)، طرح الباحث ديفيد ب رزنيك سؤالاً عن ماهية العلم، ثم جاء جوابه متبيّناً نظرية ميرتون أنه «في المقام الأول مؤسسة اجتماعية»، لأنه يستند إلى مساهمة أناس مختلفين بهدف إنجاز أهداف عامة داخل بيئة اجتماعية كبرى. باختصار، العلم مجتمع يجري داخل المجتمع.
ولأن العلم يملك هذه الأبعاد، وجد فيه الباحث المصري شوقي جلال «أداة تحقيق الذات» وفعل إنجاز الـ»نحن» المجتمعية في الاستجابة للتحديات بلغة وقدرات حضارة العصر. ويرى أسباب تخلف العرب في العِلم تكمن في غياب حرية السؤال والبحث وحق الاختلاف، وغياب سياسة علم وتعليم تؤهل المجتمع للاندماج والتكامل مع الشبكة العالمية للإنجاز العلمي والتكنولوجي، وهجرة الباحثين العلميين الى الخارج وغيرها. وينتهي جلال الى القول إن ثقافة العلم لا تسود إلا في مجتمع منتج للعلم.
دخلت مسألة إنتاج العلم والنهضة العلمية في مجال التداول منذ أن جرى وعي «فجوة المعرفة» Knowledge Divide التي تفصل العرب عن العالم المتقدّم. وتعدّدت الرؤى في هذا المجال. ولعل رؤية الباحث المصري رشدي راشد، المقيم في فرنسا، تستأهل شيئاً من التأني، خصوصاً لجهة حديثها عن «توطين العلم».
يأخذ راشد (1936 - )، وهو عالم رياضيات وباحث في «المركز القومي للبحوث العلمية» في فرنسا، والمشرف على موسوعة تاريخ العلوم العربية، على العرب في العصر الحديث إخفاقهم في توطين العلم كمؤسسة اجتماعية وكبعد حضاري. ولا ينسب ذلك الى جبلتهم أو عرقهم، بل الى فشل بناء الدولة وتقصير السلطة السياسية لديهم. ويلاحظ أن البعد العلمي كان أساسياً في المدينة الإسلامية. ومن استرجاعه لتجربة الأمبراطورية العباسية يعزو النهضة العلمية فيها الى عوامل تشمل أولاً، تشجيع السلطة السياسية والاجتماعية على خلق «المدينة العلمية» في بغداد منتصف القرن الثالث، التي ضمّت مترجمين وفلاسفة واعلام رياضيات وغيرهم.
ويرى أن العنصر الثاني تمثّل في تلبية العِلم حاجات المجتمع الجديد المادية والثقافية، فقد استعان العرب بالعلوم لحل مسائل عملية. اذ أدّت الفرائض الدينية من صوم وصلاة وحج الى بحوث فلكية راقية. وأدى «عِلم الميقات» الى تشرّب الثقافة التقليدية للبحث العلمي. اذاً كان العلم، جزءاً من الممارسة الاجتماعية ولم يكن هامشياً، وفقاً لراشد. ويتكوّن البعد الثالث في نهضة العلوم الإنسانية والاجتماعية، أي علم الكلام وعلوم اللغة والتاريخ والفقه والتفسير وغيرها، لأنها هيأت جمهوراً من المهتمين بالعلوم الأخرى، كما هيأت الوسائل اللغوية المناسبة. ويرى راشد ارتباط حركة الترجمة التي نشطت آنذاك بتلبية «حاجات البحث العلمي».
وبدلاً من الاستفادة من هذه التجربة التاريخية، لجأت الدولة العربية الحديثة الى مبدأ نفعي مرتكز على استيراد التكنولوجيا، كأقصر الطرق لحيازة العلم الحديث، بمعنى الاكتفاء باستهلاكه والتخلّي عن إنتاجه. وقد أخذت الدولة عموماً منذ القرن التاسع عشر، على عاتقها مهمة تملك هذا العلم، كما يقول راشد، ويقدم مثل مصر واليابان على اختلاف التجربتين ومآلهما.
وفي العصر الحديث، تميَز ما أطلق عليه «العِلم الصناعي» بعملية إنتاجه في المؤسسات والمخابر، وبتحوّل المجتمع الى «مجتمع علمي»، مع ما تشي به العبارة من تعاون وتنسيق، ومن تكريس لمهنة العالِم. وهذا كله أساسي وضروري في إرساء تقاليد وطنية في البحث العلمي. وإن غياب مثل هكذا تصور يبدو مسؤولاً في عرف راشد عن فشل أول محاولة لتوطين العلم في الوطن العربي، ويقصد بذلك تجربة محمد علي باشا في القرن التاسع عشر في مصر. فحينها، قرّرت الدولة الجديدة «تملك العلم» أي نقل التقنيات الأوروبية في سبيل التطوير الاقتصادي والسياسي، وفرض هذا الأمر إصلاح النظام التربوي، فأضيف التعليم الحديث الى جانب التعليم التقليدي، بحسب راشد. وجرت عملية النقل «دفعة واحدة وباللغة الوطنية»، ما اقتضى سياسة تعريب نهضت على مدرسة مخصّصة لتكوين المترجمين وإرسال البعثات الى الخارج. ويلاحظ راشد غلبة الاختيار العملي والتطبيقي في عملية النقل، اذ تركز على التقنيات الصناعية والعسكرية والصحة، أكثر مما تركز على العلوم نفسها أو على وسائل إنتاجها. وارتبط كثير من المؤلفات بالتطبيقات الصناعية. وأدى ذلك الى «غياب التقاليد العلمية وطنياً، وإلى إقامة نوع من التبعية العلمية الدائمة للبلدان الأوروبية». ولم يحُلْ هذا دون تكوين طاقم تعليمي من أهل البلاد، لكن الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882 قطع هذا المسار المتقدم.
في محاكمة تجربة محمد علي الرائدة، يجد راشد أنها وقعت ضحية وهمين. الوهم الأول هو توجيه الاهتمام نحو نتائج العلم دون تأمين الوسائل لإعداده، ولتشييد بنية قوية للبحث، وبنية تحتية للثقافة العلمية والتقنية للمجتمع بكامله. أما الثاني فهو الاقتناع بإمكانية الاستغناء عن البحث الأساسي، لأسباب مالية أو اقتصادية. وبقيت النظرة النفعية هي المسيطرة، وازدادت الهوّة بين من ينتجون العلم وبين من يستهلكونه.
تبعية وانكفاء
وإذ يرصــــد راشد نشاطات العِلم في البلدان العربية، يتبيّن له أن المجتمع العلمي العربي تابع للمجتمعات ذات التقاليد العلمية، وهو يُغلّب الجانب التطبيقي على البحث الداخلي.
من هنا دعوة راشد الى التخلص من النظرة النفعية وتشديده على إرساء تقاليد وطنية في البحث، الأمر الذي يفرض تنظيماً جديداً للمدينة العلمية يُقر فيها بوجود «مجتمع علمي وطني» ترعاه الدولة ويشارك الصناعيون فيه، احتذاءً بالنموذج الإنكليزي. ومن تحليل الخبرات التاريخية للبحث العربي المعاصر يخلص راشد الى أن من الضروري أن يكون هناك «توطين للعلم» بمعنى بناء المجتمع العلمي وتكوين التقاليد الوطنية في البحث ودعم الثقافة العلمية. ويرى راشد أن هذا الأمر يقتضي «تعريباً منهجياً جيداً لضروب التعليم العلمي، وكذلك إقامة المراكز البحثية ولا سيَما في مجال «العِلم الضخم» (Big Science). ويدعو راشد إلى الانتهاء أيضاً من منطق إمكان تطوير التقانة بمعزل عن تطوير البحث الأساسي وكذلك البحث التقني. ويأمل بعودة الروح العلمي الى العرب لمواجهة التحديات، مُلخّصاً رأيه بالقول: «العلم حضارة وليس مجرد تقنيات».
عفيف عثمان
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد