الغرب لا يصغي لشهادة دوما
إن أقل ما يمكن قوله عن رد فعل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا على الإحاطة التي قُدمت يوم الخميس في منظمة حظر الأسلحة الكيماوية في لاهاي، أنه كان رداً خاطئاً. فقد أحضرت روسيا 17 شاهداً من دوما، الذين صرحوا بأنه لم يكن هناك هجوم بالسلاح الكيماوي في وقت سابق من هذا الشهر، هذا "الهجوم" الذي كان ذريعة لضربة جوية غير شرعية على سورية قامت بها الدول الغربية الثلاث.
لقد روى الشهود، وهم مجموعة من الضحايا والأطباء الذين عالجوهم، قصصاً تؤكد صحة ما جاء الأسبوع الماضي في تقرير الصحفي البريطاني روبيرت فيسك الذي تم تجاهله كلياً من قبل وسائل الإعلام الغربي. وبحسب الشهادة التي تم الإدلاء بها في منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، فإن الضحايا الذين ظهروا في الفيديو المصور مكان وقوع "الهجوم المزعوم"، كانوا في الواقع يعانون من آثار استنشاق الغبار بعد غارة جوية [على مواقع المسلحين]، وليس [من استنشاق] الغاز.
أول الأمور الغريبة التي يمكن ملاحظتها، هو مقاطعة كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا لهذه الجلسة، وانتقاد هذه الدول لروسيا بسبب "صنعها" للشهود، مسمين حدث إحضار الشهود بـ"حفلة تنكرية قذرة"، وبأنه "مسرحية". الأمر الذي يشير إلى أن هذا الحلف الثلاثي -الذي يتصرف أطرافه كالقرود الثلاثة، الذين يُضرَب بهم المثل [لا نرى، لا نسمع، لا نتكلم]- يظن أن الشهادة ستختفي إذا قاموا ببساطة بتجاهلها. إذ لا توجد لدى [الدول الثلاث] مصلحة في الاستماع لهؤلاء الشهود إلا إذا أكدوا الرواية الغربية التي تم استخدامها كمبرر للضربات الجوية على سورية.
بالتأكيد، للشهادة التي تم الإدلاء بها من قبل هؤلاء الشهود دور بالغ الأهمية لمعرفة ما حصل بالفعل. وينبغي على الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا سماع الشهادة أولاً، ومن ثم يمكنهم أن يشككوا في صدقية الشهادة بعد ذلك إذا كانوا يظنون أنها غير قابلة للتصديق، أو أنها فُرِضَت بالإكراه، إذ لا يمكن اختبار صحة الدليل أو دحضه إذا لم يتم النظر فيه.
ثاني الأمور الغريبة، هو أن وسائل الإعلام تردد هذا الازدراء اللامنطقي للأدلة. ويبدو أيضاً أنها قد حكمت مسبقاً ما إذا كان الشهود موثوقين، قبل الاستماع لما لديهم من أقوال (وهو شيء مشابه لطريقة تعاملهم مع فيسك). اللافت أن صحيفة الغارديان وصفت هؤلاء الشهود بـ"الشهود المزعومين"، وهذه صيغة لا تشير إلى أي درجة من الموضوعية في تغطيتها.
لاحظوا أنه عندما تشير الغارديان للشهود المناصرين للصف الأمريكي-البريطاني-الفرنسي، والذين غالباً ما يعيشون تحت حكم المجموعات "الجهادية" العنيفة، لا تصفهم بـ"الشهود المزعومين" ولا تعد أن شهادتهم فُرِضت بالإكراه! إذن لماذا يكون بعض الشهود بالنسبة للغارديان شهوداً مزعومين، بينما يكون الآخرون شهوداً حقيقيين. يبدو أن الجواب يعتمد على ما إذا كانت الشهادة تنسجم مع الرواية الرسمية الغربية! هناك كلمة تصف عمل الجريدة هذا، بالتأكيد ليست "الصحافة".
إلا أن الأمر الثالث والأهم هو أن: لا أحد من الحلف الثلاثي للدول الغربية ولا من وسائل الإعلام الغربية يطعن بشكل فعلي في أن هؤلاء "الشهود المزعومين" كانوا موجودين في دوما، وأن بعضهم كان موجوداً في الفيديو. بل، إن التوجه الذي تنتهجه الغارديان وآخرون يقول: «إن حقيقة التصريحات الصادرة عن الشهود الذين اختارتهم روسيا في لاهاي قابلة للطعن، بما أن قدرتهم على التحدث بصدق محدودة».
السؤال إذن ليس حول وجودهم هناك، ولكن حول ما إذا كانوا قد أجبروا على سرد قصة تقوّض الرواية الغربية الرسمية وكذلك المنطق المشكوك فيه لمهاجمة سورية. إلا أن ذلك يتركنا أمام مشكلة أخرى. فعلى سبيل المثال، لا يبدو أن أحداً يشك بأن حسن دياب، وهو طفل أدلى بشهادته في جلسة الاستماع، هو الصبي نفسه الموجود في الفيديو، والذي من المفترض أنه تعرّض لـ"هجوم بغاز الأعصاب" قبل ثلاثة أسابيع. إذن، كيف نفسر ظهوره بصحة ممتازة الآن؟ليس الأمر كما لو أن حكومة كلٍ من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا، ووسائل الإعلام الغربية لم يكن لديها وقت للتحقق من قضيته، إذ كان هو ووالده يقولان على التلفزيون الروسي على مدى أسبوع على الأقل أنه لم يكن هناك "هجوم كيماوي".
عوضاً عن ذلك، نحن أمام المزيد من النسخ المعدلة لقصة قُدِمَت أساساً كقصة مُعدة مسبقاً بشكل كبير، لدرجة أنها أصبحت مبرراً لعمل عسكري عدواني من قبل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا ضد سورية، من دون تفويض من مجلس الأمن! باختصار، إنها أكبر جريمة حرب.جديرٌ بالذكر أيضاً، التقرير الموجز لل "بي بي سي"، الذي أشار إلى أن دياب كان في دوما، وأنه الطفل الموجود في الفيديو، ولكنه لم يكن ضحية لـ"هجومٍ بالغاز". كما لمّح التقرير إلى وجود نوعين من الضحايا في الفيديو المصور في دوما؛ فهناك ضحايا "هجوم كيماوي"، وهناك ضحايا استنشاق للغبار الذين كانوا بجانبهم. وهذا يتطلب جهداً كبيراً لتغير السردية الأصلية.
لنفترض احتمال وقوع "هجوم كيماوي" على ذلك الحي في دوما، وأن في هذا الهجوم أشخاصاً مثل دياب توقعوا أنه تمت "مهاجمتهم بالغاز"، بينما في الواقع، لم يتعرضوا لذلك، وأن آخرين قريبين تعرضوا "لهجوم بالغاز" فعلاً. ومن الممكن أيضاً أن تكون آثار استنشاق الغبار و"التعرض" للغاز متشابهة لدرجة أن طاقم "الخوذ البيضاء" صوروا "ضحايا مزيفين" عن طريق الخطأ، مركزين على أشخاص مثل دياب الذين لم يتعرضوا للغاز. ومن المحتمل أيضاً، على ما أظن، أن دياب وعائلته يشعرون الآن بأن عليهم أن يكذبوا، تحت الضغط الروسي، حول عدم "تعرضهم لهجوم بالغاز"، رغم أن قصتهم، بحسب هذه الرواية]عدم التعرض لهجوم بالغاز[، تنسجم فعلياً مع ما حدث لهم.
ولكن حتى لو أن كلاً من هذه السيناريوهات، كل على حدة، يمكن تصديقه، كيف ستكون هذه السناريوهات قابلة للتصديق لو تم الأخذ بها جميعاً؟ إن البعض منا، الذين فضّلوا أن يتجنبوا الاستعجال بالحكم إلى أن يكون هناك دليل حقيقي على "هجوم بالأسلحة الكيماوية"، تم نبذهم على أنهم "مؤمنون بنظرية المؤامرة". ولكن من الذي يقترح المزيد من المؤامرة الوهمية هنا، أولئك الذين يريدون دليلاً، أم الذين يبتدعون سلسلة مستفيضة من التعديلات للإبقاء على مصداقية قصتهم الأصلية؟
إذا كان هناك شيء واحد مؤكد من كل هذا، فهو أن الفيديو الذي تم إنتاجه كدليل قوي على "هجوم بالأسلحة الكيماوية"، تبيّن أنه لا شيء من هذا القبيل.
المصدر: مداد
إضافة تعليق جديد