القارئ بوصفه زوجاً مخدوعاً
الشاعر الإكوادوري فيليبي رويث غونزاليث روبان، الذي يوصف في بلاده بـ"شاعر الشغف"، وأصيب بانهيار عصبي واكتئاب عميق إثر مقتل زوجته وحبيبته وملهمته، لثلاثة أعوام خلت، في حادث سيارة مروّع، هو منذ يوم أمس في السجن. التهمة؟ لقد عمد هذا الشاعر "المرهف"، على ما أثبتت الأدلة والتحقيق الجنائي على نحوٍ لا يقبل الشك، الى قتل "زوجته وحبيبته وملهمته" المأسوف على شبابها (37 عاماً)، بالتلاعب بفرامل سيارتها. هو لم يقتلها لأنها خانته، ولا لأنها قرّرت هجره (وهما قد يكونان سببين "تخفيفيين" لعاشقٍ شغوف)، بل فعل فعلته المخزية هذه، بغية الإفادة من بوليصة تأمينها على الحياة!
يحيلنا هذا الخبر الصادم عن الشاعر المجرم (أو المجرم الشاعر؟) على تأملات كثيرة، قد يكون أكثرها حدّة جدلية الشبه بين الأدباء و"ذريتهم"، أعني كتاباتهم. فهناك كتّاب يشبهون أعمالهم الى مدى بعيد، نذكر منهم على سبيل المثال الماركي دو ساد، الذي لم يكن يقلّ "سادية" وهلوسة في حياته عن شخصياته وكلماته وتخيّلاته المجنونة. أيضا الكاتب الروماني اميل سيوران، الذي كان متعاطفا مع النازية، ولطالما عبّر كذلك عن مواقف مناهضة للديموقراطية، وكانت هذه النزعات العنفية والعدائية والسوداوية واضحة في كتاباته كما في سلوكه وخطابه. ولا ننسى الكاتب الفرنسي سيلين والشاعر الاميركي عزرا باوند، اللذين كانا لا يقلان عن سيوران قسوةً وتطرّفاً، شفهياً وكتابياً على السواء، وهما المتعاطفان مع الفاشية والمناهضان للسامية. ويمكن ايضا ان ندرج في هذا الاطار، وإن في الموقع المقابل، مثال الروائي والشاعر الفرنسي جان جينيه، الذي سُجن مرارا بتهم التزوير والسرقة، وذهب حدّ كتابة رواية تحت عنوان "يوميات سارق"، وتوسط جان كوكتو وجان بول سارتر لإطلاقه. يمكننا ايضا، قبل جينيه، ان نتذكر الشاعر الفرنسي من القرون الوسطى فرنسوا فيللون الذي كان خارجا على القانون، بل أكاد أقول مجرما تحوم حوله ظلال كثيرة. قتل فيللون مثلاً أحد الكهنة اثناء شجار عام 1455، ونفّذ سرقات كثيرة كان يرفد ارتكابها بكتابة القصائد. جدير بالذكر ان بودلير وفرلين وغيرهما كثر من كبار الشعراء الفرنسيين عبّروا عن افتتانهم بقصائد فيللون، ربما بسبب صورته الاسطورية شاعراً شقيّاً.
هذا عن الذين تشبه صورهم المكتوبة صورهم "الشفهية". ولكن، ماذا عن اولئك الذين - على غرار غونزاليث روبان - تكشف لنا حياتهم وجهاً مخيفاً، أو لنقل مختلفاً، يتعارض مع أدبهم الى حد غير قابل للتفسير؟ صحيح أن التماثل والتناغم بين الكاتب والكتاب ليسا شرطاً ضرورياً (وإن نكن، نحن القرّاء "المعوقين"، العاجزين عن الفصل بين المؤلف والإنسان، نودّ لو يكونان كذلك)، ولا بالطبع معياراً تقويمياً أو نقدياً في الأدب، ولكن ثمة بعض الأقنعة المقرفة حقاً، وثمة أسماء لا نتمالك لدى انكشاف سرّها وانقشاع هالتها، سوى أن نشعر بـ"الغبن" و"الخداع". لنأخذ، على سبيل المثال لا الحصر، قضية الشاعر البريطاني تيد هيوز الذي كان زوج الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، وكتب عام 1962 قصيدة حب مهداة الى زوجته تتمحور حول إخلاصه لها، قبل أن تكشف الوقائع اللاحقة انه كان في المرحلة نفسها يقيم علاقة مع امرأة أخرى هي آسيا ويفيل. وماذا عن سيلفيو داميلتشو، احد شعراء الرومنطيقية الايطاليين، الذي لم تخلُ قصيدة واحدة من قصائده من مشاعر الحب والحنين، ووجد مذنبا في ما بعد، بأدلة قاطعة، بتهمة اغتصاب قاصرين. فكيف يمكن ان نقرأ شعر هذا الرجل من دون ان نتخيل مشهد جريمته الفظيعة؟ حدّث ولا حرج ايضا عن الشاعر الأميركي تشارلز شيبارد الذي يعكس شعره روحا أرهف من ورقة خريف نائمة في ظل شجرة، وكان تاجر مخدرات دمّر حياة شبّان كثيرين. ولا يحتكر الغربيّون في الواقع إرث الازدواجية هذا، فكم سمعنا نحن العرب بذاك الشاعر الذي عشقنا رقة قصائده، لكنه كان في الواقع يضرب زوجته بعنف مرعب، وعن آخر أو آخرين حملوا السلاح ايام الحرب ولم يترددوا في قتل أشخاص بسبب اختلاف عقيدتهم السياسية او الدينية؟
حكي الكثير عن حياة الكاتب الخاصة وعن حق القارىء في محاسبة هذا على نصّه فقط، من دون التلصص على كواليسه. ولكن، ماذا لو لم نكن في صدد "المحاسبة"، بل "التأثر" رغما عنا بمعرفة هذه الواقعة أو تلك عن شخصية شاعر او روائي نحبّه؟ فبين الذين يؤكدون ان الأدب كذبة جميلة، واولئك القائلين بأن الكاتب حاضر في كل أعماله لا محالة مهما تكن هذه الأعمال متخيَّلة، نتساءل أيهما افظع: أن يكون الكاتب أبشع من كتاباته، أم اجمل منها؟ في الحالين خيانة: هنا كاتب يخون قارئه، وهناك كاتب تخونه موهبته. في الحالين خسارة أيضا: الأولى خسارة على مستوى الإنسان، والثانية خسارة على مستوى الأدب.
ترى أيّ الخسارتين أفدح؟
جمانة حداد
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد