المصور: أخاف من فني حين أكون أكبر من الخوف
مم يخاف المصور، ثمة فنانون لا يخافون لكن الآخرين الذين صاروا أكبر من الخوف لا يزالون يخشون أن يرسموا ما صار مادة للإعلام أو ما لا يعصى على الرسم كالضوء والبناء، وثمة من يخشون المحرّمات الثلاثة: الجنس والدين والسلطة
أن نرسم، أو نصوّر العالم كما تراه أعيننا لم يعد يشكل الخيار الأهم للمصوّر المعاصر. فعلم النفس، وتاريخ الفن، وعلم دلالات الصورة، وعلم الإشارة، وعلوم دراسات الدماغ وفعاليات نشاطه، تدفع بكليتها الفنان المعاصر نحو استشراف آفاق أكثر غنى وروعة، أكثر اتساعاً وعمقاً. في الرسم التقليدي، أو التصوير التقليدي، بقيت موضوعات مثل المرارة والفرح، أو الرغبة، مرهونة بتصوير وجه ما، أو بتمثيل للحالة المقترحة/المفترضة، وربما استخدم الرسامون اليوم أصلاً فوتوغرافياً. مع أن الفنان يعرف أن محركاً داخلياً، أو سائلاً سحرياً، ذلك الذي يدفع في أصابعه الطاقة التي تجعل اليدين ذكيتين، والأداة جزءاً من الجسد، وهذا ما يفرق يد الفنان عن ذراع (فوياجو) الميكانيكية - يقول الفنان طلال معلّا ـ ويضيف: «لا شيء يدفعني لأفكر بما لا أحب أن أرسمه في لوحتي؛ فحب التصوير والشغف به تحول بالنسبة لي شخصياً إلى طريقة في المشاهدة، والتعامل مع المحيط، ووصل إلى تشكيل أدوات بناء تصورات خاصة عن العالم، وأسلوب في العيش، أو طريقة في التعامل مع الخارجي، ما يمنح وجودي اليوم معنى بين ظهراني».
إن الاعتقاد بالجمال، وما هو جميل، بدا لي مراراً شيئاً غير مؤكد في هذه الرحلة مع التصوير، وهذا ما ساعدني على طرح أسئلة جديدة - يعقب الباحث والناقد طلال معلّا ـ مضيفاً: «لأجد نفسي مُشاهداً ومبصراً للجميل في ما هو خلاّق ومبتكر، وليس فقط في ما يمكن تسميته بشرة العمل الفني».
آفاق التصوير الحديث لا تقف عند النقاط التي يعتبرها المحددون حدوداً، بالعكس، إنها حدود مفتوحة على الثقة التي تمكّن الإنسان من أن يخطو بها بعد كل الانتصارات التي حققها في المجالات المتعددة: فضاء، فيزياء، رياضيات؛ وعلى المستوى التشكيلي من خلال منجزات البشرية منذ مغاور (لاسكو) إلى اليوم؛ فإن الإعجاب بالتصوير، والاعتقاد بقيمة الفن وقيمه، يمنحان الحياة عطراً ولوناً - يقول الفنان والشاعر معلّا ـ ويضيف: «أن تكون خلاقاً هو الأقل الذي تضيفه على سيرتك لكي تكون جديراً بالسعادة في الوجود، والحصول على مشاعر وأحاسيس، أو كتلك التي انتابتك وأنت ترى النور لأول مرة في حياتك.. إن مغامرة الخلق كانت، وتبقى الإثارة الأكثر عمقاً في العمل الفني. إذ شكلت المغامرة الخلاقة قاعدة الفعل الذي تتناوب عليه آليات اللعب والمنطق والسحر. ولذا فإن المغامرة اليوم تمتلك سلطة ثقافية مهمة في قدرتها على التأثير بما يكوننا، وبما نود أن نكونه. أما الغنى البصري لثقافة ما فيساهم في إيجاد أساليب في التميز والقبول في آن معاً. من دون أن ننسى أن وجه الفن يبقى الأكثر جمالاً بين وجوه حلم المجتمع بالمضي قُدماً نحو مستقبل مضيء».
أيام التحقيق
خوف بعد كل هذا! يتساءل الفنان يوسف عبدلكي ويضيف: «من دون كثير ادعاء؛ لا أخشى أي موضوع. ربما ما أخشاه هو خارج الرسم. نفسي. أن يأتي يوم لا أملك فيه الحماسة الصبيانية للعمل اليومي. ما كان أكثرها الأمور التي أخشاها في الحياة وفي الرسم. لكن فترة السجن عام 1978 قتلت في قلبي الخوف. السجن معمل الخوف في يد كل سلطة. لم تك تانك السنتان نزهة ممتعة على ضفة نهر! كانتا قاسيتين بل مرعبتين، في الأيام الأولى خاصة. أيام التحقيق. غير أنها بعد ذلك أصبحت حياة أخرى بإيقاع آخر. أصبح الأمل الذي يسكنني، أنا ورغبتي في أن أكون دون مواربة أكبر من أي خوف».
هذا على صعيد الحياة - يشرح يوسف عبدلكي ـ مضيفاً: «أما في حقل الفن فالأمر قريب. لديّ الوهم بأني أستطيع أن أرسم من دون حسابات. بوصلتي قناعاتي. إحساسي فحسب. غير أن هناك من المواضيع ما هو خارج نطاق الرسم، غالبا: (الاغتصاب ـ القتل ـ وجوه الزعماء ـ الاعتداء على الأطفال)... ليس لأنها مواضيع قاسية، بل لأنها أصبحت ـ على الأرجح ـ مواضيع الإعلام. الرسم، بالإضافة للموضوع، يشغله الأسلوب، الخبرة البصرية، الأداء، الخيال. بعبارة أخرى كيف ترسم هو أهم من موضوع الرسم».
هناك مواضيع رائعة بل خطيرة تسقط بالرسم، يقول صاحب (السكين والعصفور) ويضيف: «لأن أسلوب رسمها غير مقنع، غير شخصي، ركيك. هناك لا مواضيع ارتفعت إلى قمم شاهقة في تاريخ الفن لأن أسلوبها أخاذ. موضوع الجسد العاري الذي أعمل عليه جزئياً منذ سنتين، لا يشغلني فيه كونه محرجاً في إطار ما اعتاده مرتادو المعارض منذ عقود في بلادنا. ما يشغلني أمر آخر تماماً: السيطرة. البناء. النور. التعبير. الموسيقى. لا الأوضاع السياسية المأساوية في بلادنا تحتمل الخوف. ولا فقدان السيطرة على انشغالات اليوم العبثية يحتمل الخوف. ولا رمي البشر الأفراد أمام مصائرهم الوجودية الخانقة يحتمل الخوف. الرسام الذي يسكنه خوف الموضوع، وخوف التجريب، وخوف دفع ثمن المواقف، عليه التمتع بالشجاعة والبحث عن مهنةٍ أُخرى».
في جميع الفنون أو الآداب عامة، من يرى نفسه جميلاً أو من يتقبل النقد لا يتردد بالقدوم إليك ليقول لك صوّرني! أو على الأقل لا يهتم بأي زيٍّ صوّرته ما دام القصد بعيدا كل البعد عن الأذى المتعمد أو الثأر الشخصي - يقول الفنان بطرس المعري ـ ويضيف: «الوحوش لا تحب أن تنظر في المرآة. في بلادنا، الحاكم السياسي كما هو الحاكم الديني وجهان لعمله واحدة، كل لديه صورة و(هيبة) وضعَها وكرّسها لنفسه، ويجب على الجميع احترامها وعدم المساس بقدسيتها، وعليك في النهاية الرضوخ لفكره ولتوجيهاته هو وإلا فستكون مارقاً! وللجهتين أدوات للقَصاص مخيفة تصل حد قطع الرأس، والأمثلة كثيرة. أما في الغرب، فلديك، إلى حد كبير، الحرية في رسم أو كتابة ما تشاء. لكن أعتقد أن المساس بما (يزعج) الصهاينة مثلاً هو تابو يعادل المساس بنبي المسلمين عندنا أو الحاكم السياسي. يظل أمر القصاص في الغرب موجودا بطرق أكثر (روية)، ربما لا يقطعون رأسك لكن ستجد نفسك حيّاً بلا رأس ربما».
السرور الجمالي
الفنان بديع جحجاح له رأي آخر في ذلك إذ يقول: «كل شيء مباح على جسد لوحتي؛ ما دامت إنسانيتي ووعيي حاضرين، فكل مؤثر بصري لا يحمل في جوهره قيمة روحية تساهم في ارتقاء الإنسان هو غير موجود في أعمالي. ما أخشاه في لوحتي هو تكريس القبح والقرف والتشويه والعبث واللا معنى واللا شيء وعدم احتواء اللوحة على كيمياء (السرور الجمالي). كل ما ذكرته آنفاً هو فن لا يعنيني أبداً؛ ولا يكون في لوحتي. أخشى أن أرسم فناً أنانياً شخصياً لا يتجاوزني وأنتج لوحةً صماء مصابة وغارقة بداء الأنانية والتكبر ومبتعدة في جوهرها عن المجتمع والمحيط وغارقة في الذاتية وخالية من النفع؛ سواء على صعيد الرسالة أو الذائقة الجمالية».
أخشى أن أُبدع فناً خالياً من الرموز - يعقب الفنان جحجاح ـ ويضيف: تلك الرموز التي تحمل في معانيها قيم الإنسانية ولا تحض العقل على التفكر ولا تكون جسراً مُحباً ورحيماً يعبر كل الناس عليه إلى الضفاف الأخرى؛ وهم كالطيور يسيرون على الجسر وروحهم محلّقة في الآفاق البعيدة؛ أخشى ألا يكون الفن الذي أرسمه بمثابة (مخلصي) والمهدي الخاص بي أولاً؛ ثم أهمسه كنسيم جبلي في ليالي الصيف للمحبين والعشاق والسهارى وكموجة بحرية توركوازية تولّد نفسها بلا توقّف تخبر الإنسان كم هو جميل كما الفن؛ فالفن لدي هو الدهشة الأبدية المسكوبة كما الترياق على جسد اللوحة الإنسانية في متحف تعاقب الحضارات».
الأصل أن الفنان يرسم ما يفرحه ويشغله كهاجس ورؤية، ما يؤرقه ويؤلمه، وهذا يخرج إلى اللوحة من تلقاء ذاته، لأنه من الطبيعي أن يتخلص الفنان من ألمه، ويعبّر عن غبطته واتصاله مع ذاته والعالم عبر اللوحة - يشرح الفنان والناقد عمار حسن ـ ويضيف: «بالأساس اللوحة هي هذا المتنفس والمكان التطهيري من الألم وهي هذا المكان العالي للتعبير عن الذات بكل أحلامها وهواجسها، ولكن إذا تمتع الفنان بحرية التعبير وهذا الإشباع العاطفي والوجداني، أو حتى عدم الإشباع، فاللوحة ستكون مكاناً يقلّص النقص أو يعبّر عنه، وإذا ما نظرنا إلى حياتنا وأحلامنا فالنقص الذي نعانيه كبير للغاية وكارثي؛ ربما ما يجعل ضرورة التعبير عنه يتجاوز بعشرات المرات ما يُرسم، فمجتمع ورسام يعاني من الكبت الجنسي الحاد سيرسم في النهاية صقراً وبادية وأشجار نخيل ولوحة تجريدية. إنه بذلك يقصي نفسه إلى حد القتل، إننا نتعاطى مع الحياة بهذه الصورة أيضا. إذ ثمة العديد من التابوات تسكن الفنان وإذا لم يستطع كسرها فهو لم يصل إلى حريته الذاتية بعد».
الفنان العاجز عن بلوغ حريته هو مجرد رسام! فما فعله (مانيه) بـ(غداء على العشب) و(أولمبيا) كان تمرداً وقحاً آنذاك على تقاليد المجتمع الأوروبي؛ لكن بالمقابل جعله لاحقاً بمثابة الأب الروحي لجيل من الشباب حتى اليوم - يعقب الفنان عمار حسن ـ ويضيف: «وهكذا بالنسبة لباقي (التابوات) سنجد العديد من الفنانين في العالم وقد خرقوا هذه، فالرمز الديني لم يعد مقدّساً إلى هذا الحد، ولا حتى السياسي، ما جعل الباب مفتوحاً على الكوني والإنساني وحرية التعبير، صحيح أنه من المبكر الإجابة عن سؤال ما الذي يخشى الفنان رسمه في اللوحة؟ فهذا الفنان يسكن هذا الشرق، ولم يصل بعد إلى الشبع المادي؛ بالنسبة لي كرسام كاريكاتور رسمتُ بهذه المحظورات الثلاثة وبمواربات وتوريات مختلفة، وهذا دور الكاريكاتور، إلا أنني في اللوحة التشكيلية اخترت الاتصال مع الطبيعة الكونية ببعدها البتولي الأول، وأقصد هنا الطبيعة التخيلية الحلمية، وكذلك الإنسان الأول قبل أن تلوثه المدينة والمدنية؛ وبذلك قمتُ بمواربة رافضاً هذا الثالوث المحرّم، ومعبّراً ومتصلاً وسعيداً بما أقوم به، فالفنان سيجد في النهاية ـ فيما لو سكنه الوعي والهاجس ـ طريقه ولوحته، شخصياً في هذه اللوحة بتُّ لا أخشى رسم شيء لأنها تعود بي إلى ما قبل الخوف».
سامر محمد اسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد