باصات نقل داخلي جديدة في دمشق تقول وداعاً لـ«مصفحة»الركاب القديمة
قبل اكثر من شهر خارت قوى احد باصات النقل الداخلي... تماماً. الوانه البيضاء والزرقاء الباهتة لم تعد علامة على جبروت الآلة الضخمة المصفحة، والتي تتحاشاها بقية السيارات وتفسح لها الطريق. كان يقف بجانب ساحة رئيسة وسط دمشق، بعد ان انكسر حامل العجلات وخرجت احداها بالكامل. لهذه الباصات تاريخ طويل مع المدينة، فهي لا تزال تعمل منذ الثمانينات، وتم ايقافها عن خدمة خطوط نقل المدينة في بداية التسعينات فحوّلت لنقل موظفي الشركات العامة فقط، لكن ومنذ خمس سنوات تقريباً اعيدت للعمل على الخطوط في خطوة اثارت وقتها الاستغراب واستهجان المواطنين من هذا التقهقر.
وعلى رغم الاشاعات الكثيرة التي سرت في السنوات القليلة الماضية، عن استقدام باصات نقل جديدة، الا ان شيئاً لم يحدث.. حتى بداية شهر حزيران (يونيو) الجاري. شيئاً فشيئاً صار اللون الاخضر الفاتح، في خلفية صفراء، يتسلل الى الشوارع، حتى صار ملمحاً بارزاً فيها. اذا فــعلتها شــركة النقل الداخلي اخيراً، واشــترت بــاصات جــديدة.
وتبدو المقارنة بين الشكل القديم، والجديد، لباصات النقل، كالمقارنة بين حقبة الستينات والوقت الحالي. وهي بالفعل كذلك، باعتبار ان القديم هو موديل تلك الحقبة الماضية. وغير مسألة القيادة الاتوماتيكية في الجديد، هناك مسألة الالوان المشرقة والفرحة، والابواب التي تيسر الخروج والدخول، ولا تعرقله معرضة الركاب للخطر. والالوان التي اعطت بعض الاشراق للشوارع، بدل الالوان الباهتة. المساحة الزجاجية المكشوفة صارت اوسع، ومنظر الناس ملتحمين مع اللون الاصفر للمقاعد ومساند الوقوف اعطت فرقاً. اضافة الى وجود شاشة الكترونية في مقدم ومؤخر الباص تمرر اسم خط السير ورقمه في احرف واضحة ومقروءة من بعد، بعد ان كانت في القديمة مكتوبة بخط يتعذر معه معرفة وجهة الباص قبل ان يصير بمحاذاة الموقف.
هذا الفرق يقول عنه الركاب انه «فرق حضاري»، ويشير حسام، وهو شاب في الثلاثينات من عمره، بعد ان احتل كرسيه في الباص الجديد «صرت ارتاح اكثر لفكرة الركوب في باص النقل الداخلي فهو يعطي مظهراً حضارياً للبلد، ومقاعده مريحة وضجيجه اقل بكثير من القديمة»، ويضيف زميل له وهما يعملان في مؤسسة حكومية واحدة «كنت استعيذ بالشيطان قبل الركوب في الباص القديم، واتشاءم منذ الصباح. تخيل ان ذلك كان يحصل مرتين في اليوم على الأقل».
والاثارة التي احدثها التغيير الجديد لدى الركاب، لا تقل عن تلك التي مسّت السائقين. خصوصاً ان الآخيرين كانوا ملتصقين بالباصات القديمة، ولا خيار آخر لديهم، فهم موظفون في شركة النقل الداخلي وعليهم قيادة باصاتها سواء اعجبتهم ام لا. بالنسبة لأبو اسامة الذي يعمل سائقاً في الشركة منذ عشرين عاماً، التغير كان «ايجابياً جداً»، على رغم وجود بعض «الملاحظات».
وفيما وجهه يتعرق بشدة في اجواء الحر المقيم في صيف دمشق، يقول هذا السائق وهو يقود الباص الجديد ان «القيادة صارت مريحة، الان الباص يمشي بكبسة زر، ولم اعد انصرع بهدير المحرك كما كان يحصل سابقاً». لكنه يعلّق «المشكلة ان الحر شديد، ولا يوجد مكيف في الباص وانما مروحتين في السقف قد تفيدان الركاب وليس انا، والنوافذ التي يمكن فتحها في الباص الجديد صغيرة جداً مقارنة بنوافذ القديم التي تتيح فتحة تهوية كبيرة».
وعلى يمين السائق هناك بصمة من ايام الثمانينات لا تزال موجودة حتى في الباص الجديد، انها آلة قص التذاكر. تلك الاداة ذات اللون البرتقالي الباهت لا تزال تعمل بشق الانفس، بعد ان تم نقلها من الباصات القديمة الى الجديدة. يمرر الركاب فيها تذاكرهم مرات عدة لكنها لا تقصها، فييأسون، ويطلب منهم السائق ان يقصوا طرف التذكرة بيدهم. يعلق احدهم بعد محاولات فاشلة مع الآلة القديمة «يعني اشتروا الباصات بملايين الليرات وعجزوا عن تغيير هذا الشيء البسيط».
قدوم الباصات الجديدة حمل مكاسب للبعض. ابو ضياء يعمل موظفاً لقطع التذاكر من عام 1985، يقول ان العمل والبيع «تضاعفا مع الباصات الجديدة»، وهو اذ يحتفظ ببعض الليرات الباقية من سعر التذكرة، يصير المبلغ محرزاً مع كثرة الركاب.
وفي شركة النقل الداخلي لا يقولون (بحسب موظفين فيها فضلوا عدم ذكر اسمهم) انهم على وشك استبدال جميع الباصات القديمة، فالباصات الجديدة «لا تسد كل حاجة المدينة بل هي جزء منها». وتم توزيع 300 باص في دمشق، من الحجم الكبير والمتوسط، وسيوزع العدد نفسه قريباً في مدن اللاذقية وحلب وحمص. ولذلك ستبقى الباصات القديمة تعمل على بعض الخطوط التي تخدّم ريف دمشق، وتنتقل اخرى لتعود الى نقل موظفي الشركات العامة. ولذلك وعلى رغم الشيخوخة الواضحة، فالباصات القديمة لن تحال على التقاعد.
وعلى رغم تخوف بعض السائقين والركاب من ان الباصات الجديدة صينية الصنع «وغير موثوقة»، يشير موظفو الشركة الى ان «الصناعة الصينية مستويات، هناك صناعات جيدة، والباصات الجديدة صنعتها شركة جينجيانغ وهي جيدة ومواصفاتها مطابقة لمعايير يورو 3 المعتمدة في اوروبا»، وهذه المعايير تأخذ في الاعتبار التهوية والارتفاع عن الارض والمساحات الزجاجية وغيرها. وتشير المصادر الى ان شركة النقل ماضية في استراتيجية بغية «تغطية كافة خطوط المدن السورية خلال السنوات المقبلة.
وعلى رغم التطمينات، فان بعض السائقين لم يرق لهم الامر. ومنهم رضوان الذي لا يزال يعمل على الباص نفسه منذ 18 سنة ويقول، انه آثر الاستمرار في قيادة الباص القديم، ولم يحبذ فكرة الجديد. ويوضح ان مبرره هو «التغريم العالي» الذي يرافق قيادة الباص الجديد ويضيف «صحيح ان اعطال القديم كثيرة، لكنها محمولة، اما الباص الجديد فاذا تعرض لعطل فالسائق هو الذي سيدفع، وتبديل المرآة وحدها اذا تضررت يكلف 15 الف ليرة (300 دولار)».
ومثل رضوان هناك مواطنون يشعرون بالحنين الى الباص القديم، على علاته الكثيرة، فهو ارتبط بسنين طويلة من حياتهم. انها نوستالجيا تثير الامر من باب ان وجه البلد يتغير، وعلى رغم الايجابيات التي يحملها هذا التغيير، كحال باصات النقل الجديدة، فان وجوهاً اخرى له، كانتشار المطاعم في كل جزء من المدينة القديمة وما يشبهه، تضرب عرض الحائط مشاعر اهل المدينة وتاريخهم بذريعة «اللمسة الحضارية».
وسيم إبراهيم
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد