بعد أعوام من الدمِّ..«سورية.. نحو مشرق الشَّمس»
كلّما قرأتُ في المقالات التي جمعها الكاتب «نبيل صالح» في مؤلَّفهِ «سورية.. عام على الدم»، أشعر بالقهرِ والألم والمرارة. أشعر بذلك، لأن العام صارَ أعوام، لم يتوقف خلالها الدمّ عن النزيفِ الذي كان أغزرهُ، ما أغرق بهِ جيشنا العربي السوري، أرضه التي وجبَ التيمّم بهِا، والصلاة على روحه التي هي روحها، وبآياتٍ لايجيد ترتيلها إلا من حمل سوريَّته في قلبه رمزاً للقداسة والكرامة والطهارة.
هذا ماأشعر به، وما يشعر به كل من بات يشمئزُّ وهو يرى «ذئاب الوطن تصلّي للغائب». عنوان إحدى مقالات الكاتب الذي يعيشُ ما يعيشه ويشهده ويتألم منه، جميع السوريين ممن يوافقونه رأيه: «القومية قبيلة، والوطنية تجارة. الدين كراهية والعقل صراخٌ أجوفٌ تتدفق منه خفافيش الليل».
بالتأكيد، سيوافقونه هذا الرأي، وفي ظلِّ مانعيشه وتمادى فيه كل من لا ينتمي إلا إلى حقده وجهله وحيوانية عقله وفعله. كل من لاينتمي إلى إلا تخمته وارتفاع رصيده وسقوط سمعته. كل من تمادى، في جعلنا نتساءل تساؤل الكاتب: «يا ترى هل للذئابِ ربٌّ تتبعه، غير رائحة الدمِ ورغبة الافتراس»؟!..
حتماً، هي الحقيقة التي باتت وللأسف، مجرورة بالضمير الغائب، بل وبالحاضر الذي لايمكن له ومهما حاول رفعها، رد ما يحيط بها من بشاعاتٍ وانتهاكات واستغلالٍ وفساد ومصائب. لا يمكن له، ردّ ما ندركه ويُدركه الكاتب الذي أعلنهُ مؤكداً أن: «ما يجمع بين طوائف الذئاب، جسد الفريسة، وليس نورُ العدالة، وخيرات الوطن هي فريسة للمواطنين، ولكلٍّ منهم بحجمِ اتِّساع عضَّته وعمق أسنانه».
أكده بهذا القول، بجرأةِ موقفه، ووضوح مطلبه، وعمق ألمه. بقوة صرخته التي أرادَ لصداها أن يبقى يذكِّر، بأن فقدان الوطن هو أكبر وأوجع فقدان، وبأن كل من تآمروا عليه أو خذلوه أو أغمدوا الحقد والويل في قلبه، ليسوا من أبناء شعبه..
«الذين يرفعون السلاح بوجه الجيش السوري، والذين يذهبون إلى الجامع وهم يتأبطون السلاح، والذين يقتلون عناصر الشرطة باسمِ الحرية، أو يقطعون الطرقات في النهار ويعرعرون من فوق الأسطحة في الليل.. الذين يذبحون مواطنيهم ويمثلون بجثثهم. الذين يعبرون الحدود إلى تركيا مقابل مئة دولار للفردِ مع إقامة مجانية وظهور تلفزيوني.. الذين يسيئون إلى سمة الجيش ويبشرون بانقسامه واقتتاله، والذين يركبون على أحصنة لندن وواشنطن وباريس ويحملون راية العثمانيين.. كل هؤلاء، ليسوا شعبي»..
كل هذا، إضافة إلى وصفهِ للبشاعات التي اقترفها أكثر من «وحش في العتمة» جعل «قميصنا الدامي» هو السبب في جعل مفرداته تتسربل بالسخرية والنقمة على كلِّ من ضمخوا «المشهد السوري».. ضمّخوه بدماء الأبرياء والشهداء ممن ستبقى أرواحهم تلعن «المتنمِّرين والمتغوِّلين والمتنفِّجين» الذين هم «يهود سورية الجُدد» في إمعانهم بقتلنا، وبأساليبٍ تفنَّنوا في إغمادِ سكينها فينا إلى أن تفاقمَ «نزيفنا الداخلي».. مثلما تفاقمَ نزيف كل مافي حياتنا.
إنه، زمن موت الضمير وتيهِ المصير.. زمن اللاجدوى والعدم وتخاذل الأخلاق والقيم.. الزمن الذي وصفهُ الكاتب، بأنهُ وعَربُه: «زمنٌ جامد وعرب محنطون في جليدِ المتحف».. الزمن الذي بات فيه «الغيم مثقلٌ بالدمعِ والأرض موحلة بالحزن، وحوافر المتشدِّدين تمهِّد لبغال العثمانيين. الإسلاميون يستكملون أسباب الهيمنة على أرض العرب من مغرب المتوسط حتى مشرقه»..
هل أكثر من هكذا سخرية، ومن هذا الزمن الذي بات محكوماً بالجاهلية الرجعية؟!. بالخيانات والأحقاد والعصبيات والانقيادات.. بالمنتفخين والجشعين والمتاجرين والمجرمين.. بالتأكيد لا.. لكن، ورغم كل ذلك، لاتزال «ماما سورية» تحتضن الحياة باتِّساع فضاءات هواها. لاتزال، وعلى رأي الكاتب: «سفينة تبحر في الزمن وأمواج القدر تتلاطم على جانبيها.. سفينةٌ وجَّهها ربانها وبحارتها نحو مشرق الشّمس، بينما أراد فريق من ركابها الاتجاه نحو مغربها».
نعم، لاتزال «ماما سورية» تحتضن فضاءات هواها، ولاأزال أنا أحتضن «سورية.. عام على الدم» الكتاب الذي ختمه الكاتب بما أراد منه، إعادة إحياء ماماتَ في قلبِ القارئ، وبحبِّ كبير كالوطن. حبٌ ينتشله من إحساسه بأنه بات غارقاً في العدم والموت والفتن. ختمهُ بما منهُ: «حبيبتي.. أعرف أن الخونة سيخسرون في النهاية، كما خسر يهوذا سمعته، وأن الوطن سيقوم من جديد، ولكن جراح الصلبِ لن تندمل، ومرارتنا سنتغلب عليها بحلاوة الحبّ والذكريات، لما تبقّى من أيامٍ قد لانشهد نهايتها السعيدة، ولكنهم سيتذكرون قصة حب بين رجلٍ وامرأة لايتشابهان ولكنهما يتكاملان كزرٍ وعروته، ليجمعا بين طرف الثوب السوري المرقّع بكل هذه القوميات والطوائف والعشائر..».
هفاف ميهوب: الثورة
إضافة تعليق جديد