تقديم نوعية الحياة وتدابيرها على أوهام التاريخ ونزواته
"اذا تبدلت الاحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من اصله، وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة، وعام محدث".(ابن خلدون)
كتاب "نهوض لبنان - نحو رؤية اقتصادية اجتماعية" (دار النهار للنشر)، هو محاولة في تبدل الأحوال، واظهار ان التخلف يكمن في الجمود، وفي الإعراض عن التفكير في قضية الاصلاح، كمشروع ومفهوم وقابلية، في اطار الحكومة والمؤسسات الدستورية وخارجها. ولعل اهمية ما يطرحه روجيه نسناس (رئيس المجلس الاقتصادي الاجتماعي 2000 – 2002) بالتعاون مع كمال حمدان وروجيه خياط وتوفيق كسبار وروجيه ملكي، ومشاركة سمير ابي اللمع وسليم اده ومروان اسكندر ولارا بتولني وزهير برو وعبد الفتاح خضر وانطوان مسرة وسمير نصر، ان الاصلاح لا يأتي من دعوة آنية او خارجية بل من كونه حاجة، اولاً واخيراً. ومن خلال ذلك يتم تحديد الاهداف وتعيين الوسائل الجديدة لتحقيق هذه الأهداف وتطويرها.
يتجه نسناس الى إدراك الاسباب ومعالجتها. والعقل بحسب ارسطو، ليس سوى ادراك الاسباب. لذا، يكثر في الكتاب من الـ"لماذا" اكثر من عبارة "ما العمل؟". لكن يبقى المهم هو الكشف عن امكانات واقعية ومعرفية تساعد لبنان للخروج من الازمة. وهذا لا يتأتى بدون اسهاب معرفي واكاديمي معمق بطبيعة الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية، والمشكلات والمعوقات التي نعاني منها واقتراحات الاصلاح ومقارنة ما يجري في العالم من مشابهة وتماثل. يتصدى الكتاب لثلاثة تحديات يواجهها لبنان اليوم: بناء مؤسسات الدولة بناء حديثاً ومنتجاً، دعم القطاع الخاص ومواكبته بسياسة انعاش اقتصادي، ودفع وتيرة النمو لأجل خفض الدين العام وتأمين الاستقرار وتوفير فرص العمل.
هذه التحديات هي من صلب مهمة المجلس الاقتصادي الاجتماعي ودوره. لكن، مع مشروعية هذه التحديات وأهميتها، ثمة هم يطغى على الكتاب هو الهم التوحيدي. توحيد البلد من طريق التربية والاتصالات. ولكن لا بد من اجراء اصلاحين اساسيين، أولهما في القضاء، وثانيهما في حجم القطاع العام وفاعليته.
لا تغيب هذه المسائل عن وعي روجيه نسناس ورفاقه فنرى التركيز على ثلاثة ثوابت اساسية: لا نهوض اقتصاديا واجتماعيا بدون وفاق وطني، لا استقرار اقتصاديا بلا امان اجتماعي وبالعكس، ولا أصلاح بدون معرفة اي دولة نبني، وأي دور للبنان في المنطقة والعالم؟
يحاول الكتاب تخطي الواقع الوصفي والاتجاه نحو الآليات والاجراءات العملية والحلول، واضعاً التمايز بين الخطة والاجراءات العملية، ومتفحصاً الى اي حد تتلاءم الاجراءات مع تطبيقاتها للاوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
اذاً، تقوم رؤية "نهوض لبنان" الاقتصادي والاجتماعي على بناء الداخل وتحقيق التكامل الاقليمي. وهي لا تستقيم فقط بتوافر المعرفة والتقنية بل تتعدى ذلك للوصول الى عقد اجتماعي جديد، اساسه الثقة والتنمية والتوزيع العادل للثروة. وتنهض على دعامتين: المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، والرأسمال التقني والبشري.
واذا كانت الابحاث والدراسات تشخص الاوضاع السائدة في القطاعات الاقتصادية والانتاجية المختلفة، وتحدد المشكلات والمقترحات والوسائل لتحقيق التحسين والتغيير، فإن ما يعوّل عليه فعلاً يتمثل في جسور الثقة بين الدولة والمجتمع المدني عبر الحوار والتنسيق بين القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والدولة.
يحفل الكتاب بالخطط والجداول والرسوم الايضاحية والارقام الاحصائية الحديثة والمؤشرات التي تعكس الوقائع والتطورات. وهذه نقطة مهمة. ولكن لا يختلف كثيرون على التشخيص بقدر اختلافهم على وسائل العلاج والاهداف، والأصعب، توافر الارادة السياسية لتحقيق ذلك. لكن، مع ذلك، يبقى السؤال، كيف يمكن المجلس الاقتصادي الاجتماعي أن يُلزم المعنيين وضع الخطط الاجرائية والآليات وتنفيذها؟ وكيف يمكن مراقبة ادارة التغيير؟ وكيف يتم وضع الملائم والمجدي في السياسات الآيلة للتنفيذ؟ وهل العائق دون ذلك يكمن في بنية المجلس أم في دوره ام في الامكانات؟ وتالياً ما هي حدود السلطات وتداخلها في عمليات التنفيذ؟
يحمل الكتاب الطموح لتقديم خيارات مدروسة للبنان كُتبت بنيّة التحقق وعبر معايير موضوعية ولتطوير اوضاع لبنان الاقتصادية والاجتماعية. لكن، الى ذلك، فإن المسألة تتطلب الاتفاق مع الفاعليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتحديد مباشرة الاجراءات، ومن طريق حوار حقيقي يأخذ في الاعتبار: قدرة القطاع، تحيين اوضاعه، تحديد المهل الزمنية، ومواكبة ادارة التغيير في اطار التكامل مع القطاعات الاخرى.
نقطة الثقل في الكتاب هي الاصلاح من داخل، وتتحدد في اثنين: رفع مستوى المداخيل والحياة وحماية الثروة من الزبائنية الطائفية والسياسية، وتمويل مكونات العقد الاجتماعي الاساسية عملانياً وازالة عبء الدين العام. يؤكد نسناس ورفاقه الاصلاح كمنطلق لبناء دولة للجميع. وكانت مشكلة بناء الدولة وتحقيق المواطنية، المكسر الصعب في التجربة اللبنانية منذ الاستقلال. والدولة لا تقوم بدون حس العدالة وتكافؤ الفرص والحرية، وبدون تعزيز الانتماء الى المؤسسات لا الى العصبيات الطائفية والاقطاعية، كي لا تفرغ تالياً مضامين الديموقراطية من وجودها وتصبح مجرد ممارسات مقنعة لا تأتي بالاصلاح والتغيير.
اخيراً، يحمل هذا الكتاب قضيته وشرف المحاولة الجادة في دراسة اوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية، بروحية تعاطي الشأن العام من حيث كونه رسالة، والنظر الى السياسة باعتبارها عملا تنموياً يعزز الديموقراطية، والادارة الرشيدة للشأن العام، وتدعيم التواصل المنتج بين المجتمع والدولة. واذا كان روجيه نسناس يعتبر هذه الابحاث مسوّدة للحوار ومنطلقاً لبلورة رؤية لنهضة اقتصادية واجتماعية، الا انها تحمل ايضاً في طياتها الارض الصلبة لبناء الدولة والمجتمع المدني. واليقين أن طريق النهضة او رؤية النهضة تتحقق من البدء بالاصلاح التدريجي العام والذي يشمل التعليم واللغة والاقتصاد والسياسة. يبقى ان الاصلاح اولا واخيراً مسألة ارادة سياسية، وان الدولة تُبنى برجال الدولة، والمجتمع يتقدم ويتطور بالفكر المتنور والمعرفة والتدبير. ما يقدمه روجيه نسناس ورفاقه هو مشروع الفرصة التاريخية التي تساعد لبنان في تجاوز معطوبيته، وهذه المرة من طريق تقديم وقائع الحياة ونوعيتها وتدابيرها على اوهام التاريخ واهوائه ونزواته.
سليمان بختي
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد