جان روو و«اختراع المؤلف».. ورؤيا الهاوية
عندما أصدر جان روو (Jean Rouaud) روايته الأولى «حقول الشرف» العام 1990 عن منشورات «مينوي»، التي حازت جائزة «غونكور» في العام نفسه ـ ما سبّب يومها مفاجأة في الأوساط الثقافية الفرنسية ـ كتب أحد النقاد قائلا إن روو لن يكون سوى كاتب رواية واحدة. والسبب؟ أنه أفرغ كلّ ما في جعبته حين كتب «ملحمته» العائلية دفعة واحدة. وأضاف الناقد الفرنسي الذي تناول الكتاب أنه على الرغم من أن مصدر العائلة يشكل مصدر إلهام الكاتب، سيشكل في الوقت عينه، مصدر موت هذه الموهبة، لأن الارتكاز على السيرة الذاتية بهذا القدر لا بد أن يقتل الفن الروائي، أي تلك الحصة العائدة لأسوار المخيلة.
ربما أوجد هذا الكلام صدى إيجابياً عند الروائي الذي يبدو أنه لم يتأثر كثيراً بهذا النقد، أي ان محاولته الدائمة لإثبات أنه كاتب لم يتوقف عن الإبداع، وأن موهبته هي فعلا موهبة حقيقية بقيت قائمة، بعيداً عن ارتكازات السيرة الذاتية. إذ بعد سنين طويلة من تلك الحادثة، وبعد أكثر من عشر روايات عرفت الصدى الطيّب لدى النقاد والقراء، على حدّ سواء، ها هو روو أمام عنوان كتاب ذي عنوان موسوم بالدلالات: «اختراع المؤلف» (تعيد منشورات فوليو إصداره مؤخراً ضمن سلسلتها لكتاب الجيب). وعلى الرغم من «هذا الاختراع»، لا يزال الكاتب حاضراً وواقفاً بحزم في المشهد الأدبي الفرنسي. فها هو ينحو بشغف إلى تمرين أشبه بتمرين «فك حبكات»، إذ من خيط إلى خيط، يفك عقدة النسيج الروائي ليعود ويعمل عليه من جديد.
في كلّ عمل جديد، يتأكد لنا أن هذه الرواية العائلية المزعومة تتماسك، من طرف إلى آخر، عبر ما يمكن أن نسميه نسيج «الحقيقة الكذب»، لأنها لا تحمل في طيّاتها مبدأ التآكل. فرواية «حقول الشرف» مثلها مثل الروايات الثلاث التي تبعتها ـ «رجال ذائعو الصيت» و«العالم تقريباً» و«من أجل هداياكم» تقف في واقع الأمر على «عمل مثابر» يجمع ما بين «العمل الترقيعي» والاختراع. من هنا يبدو كتاب جان روو هذا وكأنه يتابع هذا الكشف الذي بدأه مع كتاب «على الخشبة كما في السماء» إلا أنه يزداد اتساعاً، ليأخذ حجماً أرحب.
يقدم لنا جان روو أخيراً ما يتيح لنا أن نمسك عن قرب طريقته في الكتابة. نجده هنا يتخلى عن كل قواعد السرد الإجبارية، ليقود رواية حقيقة تنتمي إلى ذلك الشريان التخييلي الذي يتيح لنا إعادة قراءة عمله بأسره بعين جديدة. يتيح لنا أيضا أن ننظر نظرة إعجاب إلى هذا المفهوم الكتابي الجديد الذي يسيّره. إذ يحدث أحياناً، مثلما يقول، «أن نكون مضطرين من أجل إحياء صوت الحقيقة للمرور عبر شيء مخترع». من أجل ذلك، ينهمك الروائي، هنا، في الكشف عن حجب تلك الارتباطات الخبيئة، إعادة إحياء تلك العلاقات المستورة بعناية، إظهار ذلك التشوش «الآلي» اللامعقول الذي يختفي خلف بداهة الديكور. ناهيك عن تلك الدفعات الصغيرة والمتعددة كي يتموضع كل شيء في مكانه بشكل منتظم وليعطينا «معنى» ما في نهاية الأمر. كتاب روو أشبه بغطسة في تكوين العمل الأدبي، من هنا فرادته أي كأننا أمام عمل نقرأ للمرة الأولى مثيلا له.
لا يستهلك الكاتب هنا الأدوات الكلاسيكية المعهودة لتحليل النص وللتأمل النظري. يفضل أن يلقي الضوء على هذه الرحلة التي تقوده إلى أطراف الكتابة لكي يعطيها شكلا روائياً، كي ينتج في النهاية هذا التأثير المزدوج للمحاكاة ولرؤيا الهاوية. إننا أمام رواية تكتب نفسها أمامنا في كل لحظة. رواية تبحث عن دربها عبر كلمات فالتة، ترمي نفسها في الهواء، لتعود الارتجاجات لتظهر فجأة بسبب دينامية هذه الدفعة الأولية التي ترغمه على أن يكتب مع قوة نقطة الارتكاز المشتركة. ثمة لوحات «أرابيسك» ترسم نفسها. وعبر عدد من صفحات البداية، تتحول «نظرية» مستهل الكتاب إلى بداية سرد ساحر. تتشابك الجمل واحدة بعد أخرى، لتصب في النهاية على حكاية: «تخيلنا في البداية أننا أمام مشروع ملحمة عائلية إلا أننا نكتشف أن السبب في ذلك، ليس سوى رغبة في الكتابة». يعود الأمر ليتشابك مرة جديدة. لأن هذا الميل الكبير يتجذر مجدداً في مشهد بدائي عائد لماضي العائلة، هذا المشهد الذي كان السبب في كتابة رواية «حقول الشرف». لنتذكر قليلا العم جوزف (أخو العمة ماري) في «حقول الشرف»، الذي مات في أحد مستشفيات مدينة تور في آذار 1916 من جراء احتراق رئتيه «بغاز الخردل». حدث ذلك يوم عيد القديس جوزف (يوسف، أي في 19 آذار). في روايته هذه، نكتشف انه مات في شهر أيار من العام 1916 من جراء مضاعفات سبّبتها له الجراح التي أصيب بها. (تروي «حقول الشرف» قصة العائلة خلال الحرب العالمية الأولى). لم يكن عيد القديس يوسف الذي أشار إليه الكاتب، في واقع الأمر، إلا طريقة كتابة كي يجعلها مرجعاً ولقاءً أساسياً من أجل سيرورة الرواية: أي أن يشبك سيرة «اليوسفين». سيرة هذا الرجل المرتبط بتاريخ الحرب الكبرى، والذي لا يظهر إلا في نهاية الرواية، والذي كان السبب في إعطاء الكتاب عمقه التاريخي، مع سيرة والد الذي كان يكتب الحكاية، المدخن الشره الذي مات من جراء التهاب في الدماغ يوم 26 كانون الأول من العام 1963. من هنا كان السؤال في كيفية تقاطع التاريخ، في كيفية تنظيم التناغمات ما بين الماضي والحاضر. الجواب ببساطة يأتي عبر تنشق الأول لدخان سجائر الثاني وتحويله من اللون المائل للزرقة إلى اللون الزيتوني. بمعنى آخر، وعبر فكرة «عبقرية» من الكاتب، تحويل «غيمة» سيجارة الجيتان (التي كان يدخنها الأب)، العادية، إلى «غيمة» ضبابية قاتلة، إلى «غاز الخردل»، الذي نشاهده ذات صباح وهو يتقدم باتجاههم، بعد أن دفعته الريح، باتجاه الخطوط العسكرية الفرنسية. من هنا علينا أن نفترض، ضمن اللعبة الروائية، كم من يوسف يخفي يوسفاً آخر. وخاصة كم تلعب صدفة تشابه الأسماء، بعد أكثر من نصف قرن، وبعد هذه المسافات البعيدة، إلى لعبة «جينيالوجية» ستشكل في ما بعد بشكل ما فعل ميلاد الكاتب. هذا الكاتب الذي يرمي بكل شيء إلى سديميته، انطلاقاً من عمل اللاوعي ومن الحدس ومن التذكر. إنه الكاتب نفسه، على سبيل المثال، الذي يعود ويجد أحد أموات العائلة بالقرب من كوميرسي، عاصمة... المادلين. بيد أننا ننسى أن غاز الخردل لم يستعمل في الحرب العالمية الأولى إلا بدءاً من العالم 1917.
«اختراع المؤلف»، عنوان يحيلنا بالتأكيد إلى معنى مزدوج. إنه باب مفتوح على نهاية تعقيدات سيرورة الكتابة. إنه تكذيب لمن لا يرى في الكتابة المعاصرة إلا نوعاً من التصنع.
اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد