جهوزية عالية للجيش السوري لصدّ العدو القادم من وراء التاريخ
يمدّ الفجر خيوطه الأولى في سماء مدينة حمص، معلناً بداية يوم جديد، فيما رياح الربيع الهادئة تداعب أشجار السرو والصنوبر التي تحيط بجانبي بداية طريق تدمر القديم شرق حمص.
تغيب أصوات عصافير الدوري وطيور الشحرور في حضرة الحافلات والشاحنات التي تعبر حاجز الجيش السوري على مدخل مدينة حمص من الجهة الشرقية. الطريق الطويلة إلى المفرق المؤدي إلى حقول النفط والغاز، شاعر وجزل والمهر، على خط التماس مع تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»-»داعش» آمنة نسبياً في النهار، إلا أن مشهد البيوت المهجورة في بلدة أم التبابير، والدمار الذي لحق يوماً بالنقطة العسكرية على طريقها المؤدي إلى تدمر، يوحي بشيء من الحذر.
وكلما اقتربت المسافة من البادية، تبدأ النباتات الخضراء التي تحيط بالطريق تنحسر. وما إن تقترب أكثر من مفرق حقل حيان، المؤدي إلى بقية الحقول، يبدأ الشعور بالخطر، حيث ينتهي طريق الإسفلت ويبدأ الطريق الترابي لتنتهي عنده كل ملامح الربيع الأخضر.
استقبال الحاجز العسكري على مدخل هذا الطريق يكون «أهلاً بك في حقل جزل». يسرع «البيك آب» العسكري، الذي أدخلنا إلى الحقل، وكلما دارت العجلة في البادية دورة كلما بدأت لا شعورياً مشاهد الذبح «الداعشية» تدور في الذاكرة. «لا تخف، لن يهجموا في النهار»، يقف شريط الذاكرة فجأة على ارتفاع نبرة صوت السائق بهذا الكلام.
المشهد العام داخل القطاع يوحي بالقوة العسكرية التي حشّدها الجيش السوري في المنطقة التي كانت تحت سيطرة «داعش». النقاط العسكرية، المنتشرة على كل التلال، بين حقول جزل وشاعر والمهر وحيّان، ترصد كل الطرق والممرات الجبلية وخطوط السيول الصحراوية، متكيفةً مع الطبيعة الجغرافية الصعبة والمناخ الصحراوي الجاف والقاسي.
ويعتمد التواجد العسكري في هذه المنطقة، بالإضافة للتمركز الثابت في التلال الأكثر ارتفاعاً، على التنقل والتبديل الدائم لنقاط المخيمات، ضمن خطط واستراتيجيات استُمدت من طبيعة حياة البادية التي تعتمد على الترحال، لكن الترحال هنا ليس بحثاً عن الكلأ بل هو تكتيك عسكري بحت.
واستطاعت وحدات الجيش السوري وقوات الدفاع الشعبي أن تعيد السيطرة على أهم حقول النفط والغاز في ريف حمص الشرقي، بعد معارك عنيفة وضارية خاضتها مع عناصر «داعش» في حقول شاعر وجزل والمهر، حيث كان التنظيم يستولي على الآبار ويسحب النفط ويكرره وينقله إلى مناطق سيطرته في الرقة وباتجاه الحدود العراقية.
وبالرغم من ذلك، لم ييأس إرهابيو «داعش» من حلم العودة إلى المنطقة، فالهجمات لا تزال مستمرة من جهة البئر 105 على حقل جزل وتلة السرياتيل في حقل شاعر، ومن جهة عقيربات وجبل البلعاس على حقلي المهر وشاعر، إلا أنها طالما باءت بالفشل. ففي جروف معظم التلال، على الخط الأول، تترامى عربات «داعش» المدمرة.
وظهر انخفاض نسبة الهجمات في الفترة الأخيرة في موازاة التحصين العسكري الذي يزداد يوماً بعد يوم، حيث تم وصل النقاط العسكرية بين الحقول ببعضها البعض. وتتصل «مئات» النقاط العسكرية بين المهر وشاعر وشحار وجزل وحيّان، حيث تتقاطع التغطية النارية لكل نقطة مع الأخرى، لتصبح منطقة الحقول تحت السيطرة الكاملة، ولتصبح، كما وصفها البعض، بـ «الجبهة المحصنة في قلب البادية».
وعلى أعلى تلة، تتوسط النقاط العسكرية في قلب البادية، يستقبلنا القائد الميداني شاهين (اسم مستعار)، في خيمة صحراوية، تتناسب مع لون الأرض، وداخلها خرائط وأجهزة اتصال ولوحة رسمها أحد المقاتلين لبندقية كتب فوقها «مقاومة مقاومة حتى النصر».
والى جانب الخيمة، هناك القهوة المرّة على الطريقة البدوية، ويتم تجهيز الشاي بنكهة الهيل على الحطب. الحديث مع القائد شاهين دائم الانقطاع، فهو مشغول بالتواصل بشكل مستمر مع النقاط العسكرية الثابتة والجوالة عبر اللاسلكي و «التيترا» (جهاز اتصال عسكري). ولا يمكن لمن يستمع للتعليمات أن يفهم شيئاً، فغالبيتها عبارة عن رموز لمعان أخرى وشيفرات متفق عليها بين القادة كخطوة احتياطية في حال دخول «داعش» على الترددات في هذه الجبهة المفتوحة.
ويتحدث شاهين، بثقة وقوة، عن الجهوزية العالية لكل العناصر في المنطقة. ويقول «استطعنا أن نمسك بكل التلال الحاكمة في المنطقة. وهناك أعداد كبيرة من عناصر الجيش ومجموعات الدفاع الشعبي خضعت لدورات مكثفة على القتال في البادية والصحراء، ونحن اليوم مستعدون لأي نوع من أنواع المعارك وبنفس طويل، فهدفنا الأهم حققناه. لقد جعلنا الجغرافيا التي طالما كانت لمصلحة الإرهابيين أن تصبح عبئاً عليهم».
خلية نحل في البادية
يرافقنا القائد الميداني، على بعض نقاط التماس بين بئر جزل والبئر 105 (آخر بئر يسيطر عليه «داعش» في المنطقة). على الطرق التي تصل هذه النقاط، تتحرك الدوريات وعربات الإمداد العسكري، ويشبه عملها داخل المنطقة خلية نحل.
ففي البادية حتى توفير الماء أمر أساسي لا يمكن إهماله. ويمكن للمقاتل في المدن والبلدات أن يؤمن الماء بنفسه إن احتاج الأمر، أمّا في البادية فهذا شبه مستحيل.
وينتشر على مشارف النقاط العناصر المكلفة حمايتها، ويعتمد التحصين الرئيسي على معدات الرصد وكاميرات المراقبة وأسلحة القنص والأسلحة المضادة للدروع.
ولا يمكن لمن يصل إلى نقطة عسكرية للقوات السورية على خطوط التماس مع عناصر «داعش»، الذين يشكلون قوة حقيقية لا يمكن إنكارها، إلّا أن يتبادر إلى ذهنه سؤال: هل من الممكن أن «بروباغندا داعش» الإعلامية القائمة على التخويف لا تؤثر في نفوس عناصر القوات المسلحة السورية، الذين لا يفصلهم عنهم سوى مئات الأمتار، وكيف تأقلموا مع تواجدهم في منطقة شهدت الكثير من مشاهد الذبح وقطع الرؤوس».
«من لا يخاف لا ينتصر» يقول أحد مقاتلي الجيش، مضيفاً «نحن نعرف عدونا ولا نهابه، لكن في الوقت ذاته لا نقلل من قدرته. يجب أن تعرف عدوك لتعرف أين تضربه لتكسب المعركة».
ويقول «الجانودي» (اسم مستعار)، وهو قائد إحدى مجموعات الدفاع الشعبي الآتية من مدينة حماه، إن «تهديد داعش لهذه المنطقة هو تهديد لكل المنطقة الوسطى ولقلب سوريا. ولهذا السبب لا مكان للخوف. نحنا أصحاب الأرض والدواعش هم الأغراب. هم يخافون منا، ونحن لا نخاف منهم».
أمّا «سام»، وهو أحد القناصين المحترفين في مجموعات الدفاع الشعبي، فيقول إن «الداعشي، بالنسبة إلي، مثله مثل أي مسلح. هو عدو قدم من وراء التاريخ ليسرق ثروات بلدنا. لماذا أخاف منه، فطلقة القناصة تؤثر فيه وتقتله مثل كل شخص».
قبل غروب الشمس، تستعد كل القوات لاستقبال الليل، ويتم تنظيف كل الأسلحة وشحن أجهزة الاتصال. وتوجه القيادة، عبر اللاسلكي، بياناً لكل النقاط بتشغيل النظام الليلي. وينتهي البيان بجمل حماسية لرفع المعنويات، فيما تصدح أصوات الاشتباكات بين التلال والوديان، قبل أن تعود الشمس وتشرق في قلب بادية الشام.
سيف عمر الفرا
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد