حلب: الحرب تعيد إحياء «ذكرى الزلازل» والمغول
على تلّة مرصوفة بالحجارة، يحيط بها خندق لم تجر فيه المياه منذ زمن بعيد، تراقب قلعة حلب مدينتها التي تحتضنها، لتشهد يومياً سقوط أحد الأبنية المحيطة بها. تفجير تهتز له أركان القلعة، يتبعه سقوط مدوٍ لمعلم أثري نقشت على جدرانه حكاية حضارة يذكر التاريخ أنها «عصيّة، تحب الحياة وتستطيع إليها سبيلا».
لدى سؤال أي حلبي عما يجري في المدينة القديمة، يستذكر على عجالة الزلزالين اللذين ضربا المدينة وغزو المغول لها، ويقول «ما يجري الآن شبيه بتلك الأيام التي قرأنا عنها، الآن نعيشها، الفرق الوحيد حينها أن ما جرى جاء من الطبيعة أو من غزو خارجي، ما يجري الآن هو تخريب وتدمير ممنهج لأقدم مدن العالم على يد من يُفترض أنهم أبناؤها».
وكانت مدينة حلب تعرضت تاريخياً إلى زلزالين مدمرين، الأول في العام 1138، والثاني في العام 1822، تسببا بتدمير المدينة بشكل شبه كامل، تخللهما هجوم تعرضت له المدينة على يد المغول بقيادة هولاكو في العام 1260، الذي دمَّر قلعتها، وخرَّب معالمها.
لا يعرف أبناء المدينة الكثير عن الوضع الحالي لحلب القديمة. جُل ما يعرفونه أن معظم المباني المحيطة بالقلعة دمرت على يد «الجبهة الإسلامية» التي يحفر مسلحوها أنفاقاً ويفخخونها ويفجرونها، وأن الجامع الأموي تعرض إلى دمار كبير، وسرقت منه بعض المقتنيات الأثرية، وأن القلعة مهددة، وأن بابها تعرض للتدمير، إلا أن الواقع يبدو مؤلماً أكثر.
ويشرح المهندس كمال حزوري، وهو مدير سابق للمدينة القديمة في بلدية حلب، أن الدمار طال معظم أسواق المدينة (مسجلة في موسوعة «غينيس» كأطول سوق مسقوفة متفرعة إلى مجموعة أسواق)، كما طال الدمار مبنى فندق الكارلتون (تعرض لثلاثة تفجيرات)، ومبنى مديرية الخدمات الفنية، وخان الشونة، والمدرسة الخسرفية، وقيادة الشرطة (المحافظة)، وجامع السلطانية (تعرض إلى تدمير جزئي)، وحمام يلبغا، ومنطقة الجديدة (تضم بيوتاً أثرية)، والجامع الأموي، إضافة إلى مناطق أخرى.
ويتابع حزوري، خلال حديثه عن واقع المدينة القديمة، إن «المناطق الأكثر تضرراً هي تلك الواقعة في محيط القلعة، ومناطق التماس المباشر بين المسلحين والجيش»، موضحاً أن «المسلحين فجروا معظم المباني في محيط القلعة، كما تضرر بابها. كما شمل الدمار سوق النسوان وسوق الحدادين قرب الجامع الكبير، وسوق الزرب قرب الخدمات الفنية، وهي مناطق تماس مباشر تعرضت للدمار بسبب الحرب الدائرة».
ويشير المهندس، إلى أن المباني التي تعرضت للتفجير، والتي تحيط بالقلعة، تقع على قناة نقل قديمة للمياه تحت الأرض، تسمى قناة حيلان، كانت تستخدم لنقل المياه من نهر قويق إلى المدينة القديمة، وقد يكون استفاد المسلحون منها بعمليات التفجير»، إضافة إلى كون طبيعة التربة في المدينة القديمة كلسية سهلة الحفر.
وتشكل المدينة القديمة إلى جانب كونها منطقة أثرية مسجلة في «اليونيسكو»، مركزاً تجارياً مهماً. ويقول أحمد، وهو تاجر كان يملك محلاً في سوق المدينة الأثري، «لا أعرف شيئاً عن محلي، يخبرني البعض أنه تعرض للدمار، ويقول آخرون إنه أحرق، لا يمكنني الوصول إليه في الوقت الحالي لأعرف ما جرى له».
ويضيف التاجر، الذي كان يملك محلاً في سوق المدينة يفوق سعره المليون دولار، والعاطل عن العمل حالياً، «معظم التجار خرجوا من سوريا، ومن بقي منهم فتح محلات صغيرة في المناطق الآمنة، بانتظار استعادة السوق ومعرفة إن كان بالإمكان ترميمه».
ويسيطر الجيش السوري على قلعة حلب، ويؤمن لها خط إمداد عسكرياً، كما يسيطر على منطقة السويقة والزهراوي، والمناطق المواجهة للجامع الأموي، في حين يسيطر المسلحون على معظم مناطق المدينة القديمة، بما فيها الأسواق الأثرية.
ويرى مصدر أمني، أن المسلحين يحاولون عن طريق التفجيرات المتتالية الوصول إلى القلعة، إلا أن حزوري ينفي خلال حديثه إمكانية وصول المسلحين إليها بسبب وجود خندق يحيط بها يحميها من الاختراق عن طريق الأنفاق. ويقول المصدر الأمني «فشلت جميع محاولات المسلحين الوصول إلى القلعة عن طريق المعارك المباشرة، أو عن طريق التسلل، فقد تم وضع خطة دفاعية محكمة ساهمت بالحفاظ على القلعة برغم وجود المسلحين في محيطها منذ أكثر من عامين، لذلك لجأوا إلى عمليات الحفر والتفخيخ، وهو أمر لا طائل منه سوى الدمار».
وفي حين يشير المصدر الأمني، خلال حديثه، عن عدم وجود نية بالحسم العسكري في المدينة القديمة في الوقت الحالي «لأسباب عديدة»، فإنه يشدد على أن الجيش يتبع في الوقت الحالي خططاً دفاعية، الهدف منها منع المسلحين من التمدد وحصرهم في المناطق التي يسيطرون عليها، وحماية القلعة، بانتظار تغيرات على الخطة.
ويتقاطع حديث المصدر الأمني مع حديث مصدر عسكري يبين أن الجيش لا يريد الخوض في معارك طويلة ومكلفة بشرياً، ولا نتائج واضحة منها في الوقت الحالي، حيث ينتظر متابعة العمليات في محيط حلب، وحصر مسلحي الداخل في مواقعهم بانتظار استسلامهم أو حصول مصالحة تقضي بخروجهم، في إشارة إلى السيناريو الذي اتبع في حمص القديمة.
وعلى الرغم من عدم وجود إحصاء دقيق لحجم الدمار في المدينة القديمة، إلا أن مبادرات عديدة في حلب بدأت تهتم بعمليات إعادة إعمارها، وترميمها، وتضع تصورات لذلك. وتعتبر «جمعية العاديات في حلب» الأكثر اطلاعاً على أوضاع المناطق الأثرية في المدنية.
ويرى أمين سر الجمعية المهندس تميم قاسمو، أن عملية ترميم الأضرار ممكنة برغم الدمار الكبير، موضحاً أنه جرى توثيق جميع المعالم الأثرية للمدينة القديمة في وقت سابق، ويمكن الاستفادة من هذا التوثيق في عمليات الترميم. وقامت مجموعة كبيرة من المهندسين السوريين وغير السوريين بعمليات توثيق دقيقة للمعالم والأبنية الأثرية في حلب القديمة ابتداءً من العام 1993، نتيجة تعاون بين بلدية حلب و«اليونيسكو» ومؤسسة «جي تي زد» الألمانية، حيث تم تصنيف المدينة القديمة حينها في «اليونيسكو»، وتنفيذ عدد كبير من المشاريع الترميمية للمنطقة، انتهت بإعادة تأهيل المدينة بشكل شبه كامل، قبل أن تندلع الحرب وتعيدها إلى عصر «الزلازل والمغول».
وبرغم حجم «الكارثة» التي تعرضت لها المنطقة، والتي ما زالت تتعرض لها، يبدو أمين سر «جمعية العاديات» متفائلاً حيال إعادة إحياء ما تم تدميره، مشيراً إلى أن «ثقل مهمة إعادة إحياء حلب القديمة (في حال توقف المعارك فيها وتأمينها) يتطلب من كل الداعمين للتراث الإنساني، من هيئات ومؤسسات وأفراد، أن يساهموا فيها من دون تردد أو تحفظ، إن كان بالتمويل أو الإعلام أو تقديم الخبرات الفنية والقانونية والإدارية. وهي مناسبة لاختبار صدق وفعالية مسؤولية العالم التضامنية عن حماية تراثه».
علاء حلبي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد