سوريا تنزف عواصم التاريخ الإنساني: حلب تحترق
المدينة المحاصرة والمشطّرة منذ ثلاث سنوات أو يزيد في ريفها يتعارك تنظيم «داعش» و «جبهة النصرة» وسائر المعارضة، والجيش الذي استعاد المبادرة يواجه من الجو كما الأرض، والناس يموتون في إحدى أوائل المدن في التاريخ الإنساني، مبدعة الفنون, المدينة ـ العالم المفتوح لجميع الأديان والطوائف والأعراق والعناصر التي أبدعت صناعة وفنوناً أدخلتها الوجدان العربي والعالمي.
المدينة المغدورة التي انصهرت فيها حضارات الدنيا، وتعايش فيها السوريون من كل الطوائف والأقليات وتلك التي نزحت من الحروب والدم في كل دول الجوار، وجدت في حلب وطناً لها يحتضنها. حلب، العاصمة الثانية لسوريا، ورافعة إنجازات السوريين وتقدمهم في كل المجالات: في الصناعة والتجارة والزراعة والسياسة والعلوم والفن والموسيقى. مربط التراث العالمي وملتقاه الجامع كما كانت لكل القوافل الآتية من شتى أقصاع الأرض لتختلط هناك. بالامس القريب كانت عطشى. وفي هذه الأيام تروي من دماء ابنائها الارض، كما عهدها مع نفسها منذ الأزل.
اليوم حلب، وبالامس تدمر وحمص ودمشق وغوطتها ودرعا وحماه وإدلب. سوريا كلها تنزف وحلب هذه الأيام تحت نيران الحقد.
علقت حلب في نفق الدم لليوم السادس على التوالي. ويبدو أن ارتفاع منسوب الدماء المراقة في الشوارع لم يصل بعد إلى عتبة الألم بمقياس «إنسانية الحرب السورية»، التي تستوجب الصراخ من قبل طرف ما، أو جهة ما، في الداخل أو الخارج لوقف هذا الجنون الجماعي.
لعبةُ عضّ أصابع دمويةٌ تجري على أجساد الأطفال والنساء والمدنيين، وعلى جسد «الهدنة» التي باتت جثة هامدة منذ أصابها «تل العيس» في مقتل، ومع ذلك هناك من يتمسك بها ويريد إنعاشها.
أطراف القتال في سوريا أصبحت أسيرةَ لزوجة الأرض التي تدفعها إلى المزيد من الانزلاق نحو القاع أكثر فأكثر، محكومةً بمعادلة الفعل ورد الفعل. وعيون المعنيين في الإقليم والعالم تسبر أغوار الدم من دون أن تتوقف عنده كثيراً، لأنها مشغولة بما سيشفُّ عنه الأحمرُ القاني من تغييرات إستراتيجية على موازين القوى واللعبة السياسية.
استهدفت «جبهة النصرة»، أمس، برصاص القنص أهالي حيي المشارقة والسليمانية، ما تسبب باستشهاد شخصين وإصابة آخر بجروح. وأصيبت طالبة أمام باب كلية الهندسة الزراعية. كما استهدفت القذائف حي الميدان وشارع النيل. وبلغ عدد الضحايا في مناطق سيطرة الجيش السوري ليوم أمس عشرة شهداء وعشرات الجرحى فيما العدد منذ بداية القصف بلغ أربعين شهيداً وحوالي 400 مصاب بحسب إحصاءات نشطاء. في المقابل واصل الطيران الحربي استهداف معاقل المسلحين في الأحياء الواقعة تحت سيطرتهم كالسكري والأنصاري، وتحدثت مصادر إعلامية معارضة عن مقتل مدنيين.
وتجدد القصف مساء أمس حيث سقطت عشرات القذائف في الأحياء الخاضعة لسيطرة الجيش، ولا سيما في حلب الجديدة، ما أدى لوقوع مزيد من الشهداء والجرحى. وقد عرض النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي صوراً مؤلمة لواقع الموت والدمار الذي حلَّ بضفتي المدينة المنكوبة.
وفي إشارة إلى أن الوضع في حلب قد يشهد المزيد من التصعيد، هدد «الفوج الأول مدفعية» التابع لـ «الجيش الحر» بتوسيع رقعة القصف المدفعي، ليشمل كلَّ ما أسماه «الثكنات العسكرية»، وذلك «لحين توقف الطيران الحربي عن ارتكاب المجازر بحق المدنيين العزل في حلب». علماً أن مدفعية هذا «الفوج» هي التي استهدفت المدنيين في الشيخ سعيد والراموسة وغيرها من المناطق.
وقد لاحظ بعض المراقبين أن القذائف الصاروخية بدأت تطال مناطق كانت تعتبر حتى الأمس آمنة نوعاً ما، وهو ما يشير إلى أن تعديلاً تقنياً جرى على بعض أنواع هذه القذائف، أعطاها قدرة الوصول إلى مدى أطول من السابق. كما أكد الدكتور زاهر حجو رئيس الطبابة الشرعية في حلب أن «الأذيات الموجودة على أجساد الشهداء والمصابين تدل على ازدياد القدرة التدميرية لهذه القذائف».
ولم يعد خافياً أن الصفعات المتوالية التي وجهها الجيش السوري لبعض الفصائل، عبر إفشال خططها العسكرية لاقتحام الأحياء الواقعة تحت سيطرته، أصابت هذه الفصائل بالجنون، ودفعتها إلى ممارسة الانتقام بأبشع صوره، من خلال استهداف الحلقة الأضعف، التي هي فئة المدنيين ممن لا حول ولا قوة لهم. وفي هذا السياق، أقرّ «جيش المجاهدين» بمقتل ما يزيد عن 20 من عناصره جراء الكمين الذي نفذه الجيش السوري ضده في أحد الأنفاق التي كانت معدة للتسلل نحو ضاحية الأسد.
ومع استمرار القصف المتبادل على أحياء حلب المدينة، تتسارع التطورات في الريف الشمالي، على وقع تحشيد تركي في محاذاة الحدود، وتقدّمٍ لتنظيم «داعش»، الأمر الذي بات يطرح العديد من التساؤلات عن مآل هذه التطورات، وإلى أين يمكن أن تصل؟
فقد سيطر «داعش»، أمس، على عدد من القرى في ريف حلب الشمالي، أهمها دوديان القريبة من الحدود مع تركيا، وعلى يحمول وجارز وتليل الحصن شرق مدينة إعزاز، وسط انهيار في صفوف الفصائل التي تقاتل ضده، والتي باتت تعرف باسم «الفصائل المنتقاة» أو «المفحوصة» أميركياً، وعلى رأسها «أحرار الشام».
وبالرغم من تدخل طيران «التحالف الدولي» لمساعدة الفصائل في صد هجمات التنظيم، إلا أنه لا يمكن مقارنة حجم ونوعية هذا التدخل بما كانت تحظى به «وحدات حماية الشعب» الكردية من تغطية جوية، أتاحت لها هزم «داعش» في جميع معاركها ضده، وإجباره على الانسحاب من مساحات واسعة لمصلحتها.
فلماذا يبدو ريف حلب الشمالي كأنه استثناء من هذه القاعدة، مع العلم أن الفصائل تحظى أيضاً بدعم المدفعية التركية، التي تزايد عددها بشكل ملحوظ على الضفة الثانية من الحدود؟. فهل هي طريقة أميركية لتنفيذ اتفاقها مع الروس بعزل «جبهة النصرة» عبر إلزام الفصائل بحشد المزيد من عناصرها في ريف حلب الشمالي؟ أم أنه من باب بناء الذرائع لتبرير خطةٍ ما يجري إعدادها للريف الحلبي بالتعاون مع تركيا، خصوصاً في ظل تصاعد الحديث مجدداً عن «المنطقة الآمنة»، أو «الأكثر أمناً»، ذات الصلة بالطموح التركي من جهة وبالهاجس الأوروبي من ملف اللاجئين من جهة ثانية؟.
وفي خطوة من شأنها أن تزيد تعقيد الوضع في ريف حلب الشمالي، قصفت المدفعية التركية قرية ميدان أكبس الحدودية في ناحية راجو بعفرين، أحد أهم معاقل الأكراد في المنطقة، وذلك بالتزامن مع هجوم شنته الفصائل المسلحة «المنتقاة» ضد معاقل «قوات سوريا الديموقراطية» من ثلاثة محاور، بحسب بيان صدر عن «جيش الثوار». وقد تمكنت الفصائل من التقدم والسيطرة على بلدة البيلونية لتصبح الاشتباكات على أبواب مدينة تل رفعت من جهة عين دقنة وجهة الشيخ عيسى.
وهذه ظاهرة أصبحت تتكرر باستمرار في الآونة الأخيرة، وهي حدوث اشتباكات بين فصائل تتلقى الدعم من قبل الولايات المتحدة بعضها البعض. وبالرغم من أن «جيش الثوار» لا يدخل ضمن الفصائل المدعومة أميركياً بشكل مباشر، إلا أنه ينتمي إلى «قوات سوريا الديموقراطية» الأكثر حظوة في قائمة الدعم الأميركي. وربما هذا التباين في مصالح طرفين مدعومين من قبلها هو ما يدفع واشنطن إلى التقليل من طلعاتها الجوية في المنطقة، لأن تقدم أي طرف على الأرض حتى لو كان على حساب «داعش»، سيدفعه إلى الاصطدام بالطرف الآخر عاجلاً أم آجلاً.
عبد الله سليمان علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد