سَفَر الكتابة
ماذا لو ان الكتابة بأسرها، ليست سوى ذلك السفر والتنقل من مكان إلى آخر؟ بمعنى آخر ليست سوى استعادة هذه التجربة في الانتقال عبر الجغرافيا. الرواية مثلا، ببساطة شديدة، ولدت من الرحلات والأسفار كما يقول جان ماري اندريه وماري فرانسواز باسليه في كتابهما «السفر في العصور القديمة»، (منشورات «فايار») الذي يبدو عملا عليما، رغم جفافه، اذ ينقصه، قليلا، ذلك الملح الطفيف الذي كان يرشه، مثلا، روبير فلاسوليير في أبحاثه اللذيذة حول العالم الهيلليني كما في كتابه «الحب عند الإغريق».
الشعر أيضا، لا بد من أن يطرح علينا الأمر ذاته. ألم يدعُ بودلير إلى القيام بذلك في قصيدته الشهيرة «دعوة إلى السفر»؟ أي كان يجد أن الكتابة ليست سوى الرحيل إلى ذلك المجهول لسبر غوره والتعلم من التجارب الجديدة.
من هنا ما من شيء اكثر مذاقا، من ذلك الزواج ما بين الفانتازيا والتبحر، لأن السفر بجميع أشكاله (أكان سفرا للحج أم لتصدير البضائع أم للحرب أم للإقامة والنزهة والاصطياف والعلاج أم للرحلات الثقافية او النقاهة وهي أمور مارسها الاغريق بشكل يشبه أحيانا الشكل الذي نمارسه نحن في العصور الحديثة)، ربما كان السبب الذي أفضى الى ميلاد هذه الآلية الغامضة للمتخيل الذي يقودنا في النهاية الى كتابة رواية.
لا شيء يحث الخيال مثل السفر. ألا نبني في الحلم كل ما نرغب في رؤيته؟ نرحل محملين بالأحلام اكثر مما نحن محملون بالحقائب. فالبلاد المجهولة، وهذه اللغات التي تغني، وهذه الشعوب ذات «الألبسة المختلفة»، لا شك، تفتح أمامنا هذا الباب الذي نرغب في الهرب منه، من الواقع غير المحتمل، من هذه الأيام الثقيلة والرتيبة التي تحيل الحياة القصيرة حياة أطول. كم من نساء غامضات، ساحرات نتمنى لقاءهن، وتعوضنا نظراتهن عن كل المخاطر التي راودتنا؟
هل كانت الأوديسيه، السرد الروائي لرحالة شاعر، أم الحلم المتيقظ لرجل وجد متعته في السفر داخل رأسه؟
ربما كان الروائي، رحالة ومسافرا: لننظر الى ثربانتس وملفيل وكونراد وبيير لوثي وبايرون ولامارتين وكلودليل... كانوا محاطين بالمناظر الطبيعية وبذلك الشرق الآتي من القلوب الاكزوتيكية.
قد تكون الرواية، ولدت من هذا الواقع النصف معيش والنصف محلوم، الذي نادرا ما يجده الكاتب، في منزله، أمام المدفأة ووسط الاواني التي يتصاعد منها بخار الطبيخ وبين الأطفال الذين يصرخون.
ليس المهم ان يكون للمرء قلب ينبض، إذ علينا ان نضعه في أماكن اخرى، وتحت سماوات اخرى، وبروائح مختلفة. لا شيء يساوي الرحلة، من هنا قد يكون الروائي المكسيكي كارلوس فوانتيس محقا، حين قال ان الرواية، هي الجغرافيا، وليس التاريخ.
اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد