صنمية الاستهلاك وذبول الفرد في المجتمع الحديث
مقدمة
إذا كانت الحداثة زمانياً بدأت مع هيجل فإنه من الممكن القول ودون مجازفة أن مشكلة تلاشي الذات الانسانية وضياعها وانمحائها ترافقت مع الحداثة تماماً، فهيجل الذي رأى ان عصره هو عصر الحداثة، وهو علامة فارقة وفاصلة بين نهاية زمن وبداية آخر، هو أيضا الذي احتلت فكرتا الإغتراب والحرية كتاباته فترة الشباب، من هنا فانه من الممكن القول بأن ضياع الذات أو الاغتراب، إذا أردنا الحديث بكلام سوسيولوجي أوضح، هي أزمة العصر. كان هيجل يقيم علاقة تضاد بين الحرية والاغتراب، فالحرية تعني امتلاك الذات لذاتها امتلاكا تاما والاغتراب عكس ذلك.
لم يكن أمر التفكير في الإنسان الحديث بما هو إنسان مقطوع الأواصر منبت عن جذوره منخلع عن ذاته قاصرا على هيجل بل انه هو نفسه لم يكن اول من استهل القول فيه، فهناك قبله من تناول الأمر، إن بطريقة أو بأخرى، وهناك من تناول موضوع الاغتراب وذبول الفرد بعده ايضا، وفضيلة هيجل انه استهل ” ظاهريات الروح ” بالتبشير بعصر جديد ثم ما لبث بعد ذلك أن حذر من الاغتراب وزوال الفرد وانمحائه في هذا العصر لاسيما مع تطور الصناعة وتنامي دور رأس المال وهيمنته على العالم والحياة برمتها.
ويرى أصحاب النظرية النقدية أن أسباب التشيؤ والإغتراب ترجع الى النظام الاقتصادي الرأسمالي، فعلاقات الانتاج والسوق الرأسمالية هي المسؤولة عن عبادة السلع وصنميتها التي أضفت على علاقات الناس بالأشياء وببعضهم البعض طابع السلعنة والتأليل.
فالإنسان الحديث استهلك نفسه واستنفذ كل طاقاته الخلاقة في الاستهلاك، بل في استهلاك السلع التافهة وغير ذات الجدوى، ومرد هذا انه نسي نفسه وتناسى شروط وجوده الحق، ولهذا الامر وحده دون غيره كان الرفيقان هوركهايمر وأدورنو يرددان في ديالكتيك التنوير ” …. كل تشيؤ عبارة عن نسيان … ”، فلما نسي الانسان نفسه صار شيئاً يقذف به هنا وهناك، إنه ميت حتى وإن كان ما زال يتنفس، ذاك هو الوضع الذي كان يشخصه ويحلله ” اريك فروم ” أيضاً، وكأنه يعني أن اغتراب الانسان عن ذاته هو انفصاله عن الطبيعة المثالية.
وفي السطور القادمة سوف نحاول أن نميط اللثام عن تحليل منظري مدرسة فرانكفورت لأزمة الانسان المعاصر وتشخيصهم لها.منظرو مدرسة فرانكفورت والوعي بأزمة الفرد في المجتمع الحديث:
إن إحداثية الفرد موجودة حتى في الثقافة الإغريقية القديمة، التي لم تبتكر فحسب مفهوم الفردانية بل إنها أسست للنموذج الثقافي الغربي برمته، سوى أنها، وإلى حد بعيد، ليست مكتوبة إلى الان، فالبطل الإغريقي هو النموذج الناشئ للفردانية، حيث الجرأة والإعتماد على الذات جعلته يتبصر في الكفاح من أجل البقاء والتحرر من التقاليد، كما من القبلية، سبيلاً ملائماً للتحرر والخلاص، غير أن ماكس هوركهايمر لم يقتصر في حفره الجينالوجي على العودة إلى الاغريق فحسب، بل انه اكتشف ان الفردانية موجودة حتى في الديانة المسيحية(*)، إذ ان التفرد المسيحي، كما يحلل في كتابه الموسوم بـ ” أفول العقل ” قد انبلج من حطام المجتمع الهيليني القديم، وقد يظن البعض انه في مواجهة الاله المطلق المتعالي نجد فرداً بائساً ضعيفاً لا حول له ولا قوة، نظراً لأرومة المصطلحات التي يعتقدها، خاصة تلك التي ترى أن الثمن الحقيقي للخلاص الأبدي هو قهر الذات ونبذها، سوى أن الطموح الفردي قد عُزز، وإن على نحو متعذر، بعقيدة مؤداها ان الحياة على الأرض ليست أكثر من فصل مؤقت من قصة خلود الروح.
واضح، إذن، أن قضية الفردانية والذاتانية تم التفكير فيها منذ زمن بعيد، بل انها كانت هاجس مفكرين كثيرين، ومن ثم فانه لا غرابة إن ألفينا أن ما يشترك فيه معظم المفكرين المعاصرين هو الوعي بأزمة الانسان في القرن العشرين، ومن هنا باتت تيمة العصر الحديث هي كيفية الحفاظ على هذه الذات المشذرة والمذررة، سوى أن المشكلة، حسبما يحلل هوركهايمر، تكمن في أنه لم تعد هناك ذات أصلاً، ولذا رأى انه من المحتم إعادة التفكير مليا في مفهوم الفرد عينه، خاصة وأن تاريخ الحضارة هو تاريخ انكفاء الضحية على نفسها، أو بقول آخر، انه تاريخ نكران الذات.
ونظراً لهذا النكران للذات ولهذه الإكراهات والقهر والإرهاب الذي مورس عليها، صارت سلبية الانسان في المجتمع الصناعي هي الخاصية المميزة والمرضية أيضاً له، إذ أنه بات مأخوذاً، إنه يريد إطعامه، لكنه لا يتحرك، فاقد القدرة على المبادرة، إنه لا يهضم طعامه، كما انه لا يعود يتحصل بطريقة انتاجية على ما قد ورثه، بل هو يكوم الانتاجية ويستهلكها، إنه يعاني من عجز ممنهج قاسٍ، لا يشبه على الاطلاق أي عجز يجده المرء بأشد أشكاله لدى الناس المحبطين ، يواصل ” فروم ” تحليله لخصاء الفرد في المجتمع الصناعي المتقدم، حيث يرى أن نماء النظام الاقتصادي العصري يقود إلى مزيد من الإنتاج، ومن سلوك الإستهلاك، حتى لقد أمسى الإنسان مستهلكاً بصورة كلية، وصار منطقه حاصله وملخصه ” املك واستعمل، وأنا موجود أقل فأقل .
فالإنسان العصري وحيد وخائف، إنه حر، لكنه يخشى هذه الحرية، فضلاً عن انها أصلاً حرية مؤطرة ومحددة بما هو متاح من بضائع يمكنه استهلاكها، إنه حقا يعيش في حالة ” الانوميا ” على حد تعبير ” اميل دوركايم”. وعليه فهذا الانسان المعاصر يتسم بالتمزق والإستسلام، حتى انه لم يعد فرداً بل بات ذرة، كان حلم هذا الانسان قديماً أن يمسى فرداً تام الأركان كامل الوجود، سوى أنه أمسى ذرة تافهة يلقى بها هنا وهناك.
ولهذا بات هذا الإنسان التاعس يبحث له عن ملجأ أيا كان هذا الملجأ سواء كان الدولة أو الأيديولوجية أو أي شئ آخر، انه انسان فاقد المبادرة، ما انفك في طور الطفولة، ولذا فانه ما زال ولن يزل رضيعاً أزلياً، لأنه لم ينور نفسه، ولم يطور امكانياته كإنسان، وهذه وضعية خطرة ، وقد تنبه إليها ” دوركايم ” في دراسته عن الانتحار(**)، حيث لفت إلى أن الإنتحار كظاهرة جماعية له علاقة بتأليل الانسان وبغياب أي هدف في حياته.
خَلُص هوركهايمر إلى ان التقدم التقني يتوازى تماماً مع خصاء الإنسانية وقهرها واسترقاقها، فالتقدم في التسهيلات التقنية من أجل ” التنوير (***) ” يعني تقدما في إبعاد النزعة الإنسانية والتجرد منها، وهكذا فإن التقدم يهدد بالغاء هدف التنوير ذاته، الذي كان في جوهره وأصله احترام الانسان والإعلاء من شأنه، ويمكن القول أنه بقدر ما تنمو المعرفة العلمية، التي أخذت طابعاً أداتياً، بقدر ما يجد الانسان أن آفاق حريته وسعادته تتقلص، وكذلك استقلاله الذاتي باعتباره فرداً، بل إن قدرته على التخيل والحكم المستقل تتناقص هي الأخرى.
ويذهب هوركهايمر إلى أنه على الرغم من أن العقلانية أصبحت تعني السعي نحو المصلحة الذاتية، فإن ذلك لم يؤد إلى اعلاء شأن الفرد، بل على العكس، فالعقلانية أصبحت تعني في نفس الوقت التضحية بالفرد في سبيل الدولة. ولأجل هذا الوضع البائس الذي وسم وضع الإنسان الحديث جراء الإنحراف عن مقولات الأنوار الأساسية جاز الحديث عن ما أسماه عبد الوهاب المسيري ” الإستنارة المظلمة.
إنه يبدو وكأن المعرفة التكنولوجية تتمدد صوب أفق الانسان العقلي وفكره ونشاطه، واستقلاله الذاتي كفرد، وقدرته على مجابهة هذه الأدوات المتنامية للتلاعب العالمي، انها معرفة تتقدم صوب قوة الإنسان وخياله، وكذا حكمه المستقل، الذي يبدو وكأنه قد تم خصائه واستئصاله. ولهذا رأى هوركهايمر وزميله أدورنو أنه، ونظرا لهذا الوضع المأساوي، لم يعد من سبيل للتخلص مما يجري في العمل أو في المكتب الا بالتأقلم معه أثناء ساعات الفراغ، وكل تسلية تنتهي بالتأثر بهذا المرض الذي لا شفاء منه، فاللذة تتركز في السأم، ولكي تبقي اللذة فهي لا تحتاج إلى جهد، إذ تتحرك برقة في جحر المؤسسات المعتادة، لا حاجة للمستهلك أن يتعب نفسه في التفكير.
ففي الرأسمالية المتقدمة تعتبر التسلية امتداداً للعمل، إنها مطلب من يريد الإفلات من العمل الممكن ليكون بمقدوره مواجهته، إلا أن الأتمتة قد بسطت سلطتها على الإنسان في وقت فراغه وفي سعادته، فهي تحدد بعمق صناعة المنتوجات التي تستخدم في التسلية، فيما الإنسان لا يستطيع أن يفهم إلا النسخة، إعادة إنتاج سيرورة العمل بالذات.
وبسبب هذه الآثار الوخيمة للتقدم الصناعي والتطور التقني وما خلفه من مآلات وآثار سلبية على ” الوجود الإنساني الأصيل ” أو ” الدازين ” على حد تعبير ” مارتن هيدجر ” ظهرت هناك دعوات كثيرة مختلفة تطالب بالتخلي عن الحضارة وعن مكتسباتها وبالإرتماء في أحضان الحياة البدائية، أو بالتوجه إلى التراث كنوع من العزاء ويمثل هذين الرأيين على التوالي ” مارتن هيدجر ” و ” ألسدير ماكنتير ” وهو الأمر الذي دفع هوركهايمر إلى القول بأن “الرهبة من الحضارة كانت تمتح من ثمار الحضارة نفسها” .
ولقد كان هربرت ماركيوز واحداً من أبرز المفكرين الذين حللوا هذا المجتمع الصناعي الحديث، ورفعوا عقيرتهم ضده، ووجهوا اليه دفوعات نقدية قوية، حتى انه استخدم مفهوم ” الدعارة Obscenity ” ليصف به ما يقوم هذا المجتمع المأليل، إذ يرى إنها لدعارة من جانب هذا المجتمع أن ينتج وأن يعرض كمية خانقة من البضائع، بينما ضحاياه يجدون أنفسهم محرومين من القوت الضروري، إن مجتمع الوفرة، يقول ماركيوز، لعاهر في مخاطباته، في ابتساماته، في سياسييه وخطبائه، في صلواته، في جهله، في حكمة مثقفيه المزيفة التي يحافظ عليها.
إن أنماط الاستهلاك، تبعاً لتحليل السدير ماكنتير ، في مجتمع يتمتع بالكفاية والوفرة، يكون لها طبقا لمفهوم ماركيوز أثر ذو وجهين، فهي، من جهة، تلبي احتياجاته المادية التي قد تقوده لولا ذلك إلى موقف الاحتجاج والرفض، وهي من جهة أخرى، تحفزه إلى التكيف والتماهي مع النظام القار القائم .
فالفرد في ظل فيتشية الاستهلاك وهيمنة صناعة الثقافة لم يعد إلا صفرا، بالمقارنة مع القوى الاقتصادية، ثم إن هذه القوى قد رفعت المجتمع عن الطبيعة إلى مستوى لم يُعرف سابقاً.
فإذا كان الفرد آخذاً في الإختفاء خلف الأداة التي يستخدمها، فهو في الوقت ذاته قد أحسن استخدام هذه الأداة أكثر من أي وقت مضى. وفي زمن يسود فيه موقف لا عدالة فيه يزداد أيضا عجز الجماهير، بقدر ما يزداد التراكم الكمي للخيرات التي توضع بتصرفها، إن ارتفاع مستوى حياة الطبقات الدنيا بشكل واضح مادياً لا دلالة له اجتماعياً ينعكس فيما نسميه نفاقا ” إنتشار الروح أو العقل ” .
ومما تجدر الإشارة اليه في هذا الصدد، أن عملية تشكيل الفرد وتطويعه، وصهره في بوتقة النظام تتم في رأي ماركيوز ببطء وأناة، ومن خلال ملايين الملايين من الشد والجذب . والفرضية الاساسية التي ساقها ” هربرت ماركيوز ” في كتابه ” الانسان ذو البعد الواحد ” تقوم على أساس ان التقدم التقني حين ينسحب على نظام كامل من السيطرة والتنسيق يخلق أشكالاً من الحياة والسلطة التي يبدو أنها تنسق ما بين القوى المعارضة للنظام، وتهزم أو تدحض أي احتجاج باسم التطلعات التاريخية للتحرر من الكد والسيطرة لقد واصل ” هربرت ماركيوز” تحليله للمجتمع الصناعي ” المتقدم (*****) ” حتى لقد اعتقد ان النازية تمثل ذروة التطور في المجتمع البرجوازي المبني على اقتصاد رأسمالي.
إن القرون الثلاثة الأخيرة شاهد على اضمحلال الفرد وخفوته بل وموته، ففي القرن التاسع عشر كان بامكان المرء ان يرد مع نيتشه ” لقد مات الاله ” ثم أمسى من الواجب أن يقال في القرن العشرين لقد مات الانسان، إذن، ما وصلنا اليه اليوم هو : لقد مات الانسان لتحيا الأشياء، لقد مات الانسان ليحيا منتوجه، ليس هناك مثال، يقول فروم، على اللانسانية الجديدة أحسن من القنبلة النيترونية، أما في القرن الراهن، فان الامر لم يزدد الا سوءاً، حيث أدركنا، على حد تحليل ” ألان تورين “، ان العالم الانساني قد تم اجتياحه من اللانساني وما فوق البشري كليهما معاً، ولم يعد الاجتماعي يمثل الانساني حصراً.
ولعل هذا هو ما دفعه إلى القول بأننا الان دخلنا مرحلة نهاية الاجتماعي وزواله وتلاشيه، فبدل أن يكون العالم الحديث مأوى للانسان ومسكناً له، تحول إلى معتقل والذات هاهنا متروكة لحالها وما هي سوى نفايات لعالم ذابل ومنحط ومحطم إلى أقصى حد، إنها شخصيات فارغة لا تقوى فقط سوى على رجع الصدى.
وفي عُرف هوركهايمر وتحليله ان أزمات العقل وارتكاساته انما تتمظهر في أزمات الفرد، ويبدو أن هذا هو ما حفز ” يورجين هابرماس ” فيما بعد ليحلل هذه المشكلة، حيث رصد ظاهرة العقلانية الأداتية التي تتمثل في إخضاع الأفراد، وسمى هذه الظاهرة ” استعمار عالم الحياة ” ، وهو مصطلح استدانه من ” ادموند هوسرل ” وطوره فيما بعد، وهو يعني به هنا إخضاع العالم المعيوش للفرد مع محيطه الإجتماعي، حيث أن المؤسسات الاقتصادية والإجتماعية والسياسية والإدارية قد قلصت عالم الحياة واستعبدت الفرد الذي ذاب داخل هذه المؤسسات، وفقد حريته واستقلاله الذاتي، ولهذا كله كان العمل الأساسي لدى منظري مدرسة فر انكفورت منصب على كيفية إنقاذ الفرد من هذا الوضع المأساوي الذي أصبح يعيشه اليوم .
لا تكمن المشكلة فقط في استخدام هذا العقل في السيطرة على الطبيعة، وان كان في هذا الأمر من قهر للطبيعة ومنعها من التفتح والإزدهار، إنما المشكلة الأساسية تكمن في أن هذا النموذج الأداتوي قد تم تعميمه على الإنسان أيضاً، الذي أصبح بدوره موضوعاً للسيطرة، لأن العقلانية أخذت طابعاً أداتياً وارتبطت بالقوة والسلطة المعرفية وأصبحت غايتها هي الأخرى السيطرة على الانسان والتحكم في أولاعه وأهدافه وغرائزه عبر أشكال جديدة، باعتباره جزءاً من الطبيعة، التي باتت موضوع سيطرة وتحكم، أو ظاهرة من ظواهرها، ومن ثم يخضع بدوره للتقنين والتنظيم والتوجيه ، ولعل هذا هو ما عناه هوركهايمر بقوله ” يعتبر تاريخ نشاط الانسان للسيطرة على الطبيعة هو أيضاً تاريخ لسيطرة الانسان على الانسان “.
هذه العقلانية الأداتوية، الغائية، الوسائلية، هي السبب الرئيس والأساسي في أزمة الفرد الراهن، إذ أن ” الإنسان في حد ذاته غاية، ولا يمكن أن يكون وسيلة لغاية أخرى “. والفردانية بدورها تتلاشى عندما يقرر كل إنسان ألا يكون نفسه، تماماً كما يفعل الإنسان العادي عندما يحجم عن المشاركة في الأحداث السياسية، فساعتها ينحدر المجتمع إلى قانون الغاب، الذي من شأنه أن يسحق كل أثر للفردانية.
ولأجل كل هذه الظروف والأوضاع المأوساوية التي وسمت الشرط الانساني، على حد قول ” هنا ارندت ” في كتابها الذي يحمل العنوان ذاته ” الشرط الإنساني ” ، انكب منظرو مدرسة فرانكفورت على دراسة الكيفية التي يمكن من خلالها أن يخرج الفرد من وهدة العدمية التي سقط فيها وعلى أم رأسه أولاً، وأولوها أهمية كبيرة، سوى ان هناك من يرى انه من الصعوبة بمكان الافلات من الانطباع بان ما يعبر عنه هؤلاء المنظرون النقدانيون هو، في المقام الأول، كما هو الحال بالنسبة لكتابات ماكس فيبر، الشعور بانحطاط شريحة معينة من المجتمع، وهي الشريحة العليا المثقفة من الطبقة الوسطى، أو بشكل أكثر تحديداً، الصفوة المثقفة، وبحنين إلى استعادة الوضع الذي يتعذر استرداده للمثقف الألماني (*******).
ولأن كان قد اعترى هوركهايمر نوع يأس من التحرر والخلاص، كما أصاب أدورنو وماركيوز فيما بعد هذا الشعور بالمرارة وخيبة الأمل، إلا ان هذين الأخيرين رسما طرقاً للتحرر وتلمحا في الأفق قوى وميكانيزمات من الممكن أن يحدث من خلالها التغيير وتحقيق الوجود الإنساني الأصيل، حيث رأى ماركيوز انه من الممكن التعويل على المنبوذين والمهمشين والسود في عملية التحرر هذه، بينما لفت أدورنو إلى الدور البالغ الذي من الممكن ان تلعبه الاستطيقا في مثل هذه العملية التحررية من كل قوى القهر والإرهاب والتعسف. ولقد رأى أدورنو في العودة إلى الذات ملاذاً، لأنها هي التي يمكنها القيام بعملية الخلاص.
ليس يعني هذا ان هوركهايمر لم يطرح بديلاً للتحرر والخلاص على خلاف ما فعل رفيقاه ماركيوز وأدورنو، ففي مواجهة ما رآه نزعة إلى عالم مرشد وممكنن وبائس بالكامل، وفي عصر يتجه إلى تصفية كل أثرٍ باقٍ حتى للاستقلال الذاتي النسبي للفرد، فإنه لم يعد يستطيع أن يرى أية طريقة لمعارضة هذا الاتجاه، وحماية الحرية المحدودة والعابرة للفرد، أو محاولة توسيع نطاقها كلما أمكن، إلا بالتأكيد على الاشتياق الديني للآخر برمته.
ووفقاً لرأي ” مارتن جاي ” فإن هوركهايمر قد استمد من دراسته المبكرة لـ ” عمانويل كانط ” حساسية شديدة إزاء الفردانية كقيمة لا ينبغي طمسها على الاطلاق تحت متطلبات الجماعة، وقدم إشادة مسوغة بالتأكيد على الفردية، والتي ظهرت في أعمال كل من ” فيلهلم ديلتاي ” ، ” فردريك نيتشة ” . ويمكن القول بصورة أكثر عمومية أن هوركهايمر كان متعاطفاً مع بعض أوجه فلسفة الحياة، كما كانت تسمى في ألمانيا آنذاك، والتي سميت بعد ذلك بــ ” الوجودية ” والتي مثلها فكر ” جان بول سارتر ” في فرنسا خير تمثيل.
ولهذا احتلت الفردانية عند هوركهايمر مكانة سامقه، حتى انه كان يرى انه عندما يتم الحديث عن الفرد ككينونة تاريخية، فإن هذا لا يعني مجرد تمضية وقت فراغ، أو الوجود الفعلي في السباق الانساني، إنما أيضاً وعي الفرد بفردانيته، كوعي وكوجود إنساني، بما فيه احترامه وتقديره لذاته.
ليس هذا فقط، بل إنه رأى أن أفول الفردانية أثّر بالسلب على طبقات المجتمع وفئاته العليا منها والدنيا على السواء، وذلك نظراً لأنه مجتمع كلياني. إن العفوية، على حد وصف هوركهايمر، التي هي أهم صفات الفردانية قد أخذت في الأفول مع مجئ الرأسمالية، نظرا لإلغاء المنافسة التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من النظرية الاشتراكية، وفي هذه الأيام، تم القضاء على عفوية الطبقة العاملة عن طريق الانحلال الكامل للفردانية.
وعلى الرغم من هذا الانطباع الفاجع والسوداوي الذي من الممكن ان يتسرب إلى الذهن خلال قراءة ارث هوركهايمر، الا انه هو نفسه ما زال لديه أمل، إذ ما زالت بعض قوى المقاومة موجودة لدى الإنسان، وإن هذا لدليل ضد كل التشاؤم الاجتماعي الحادث الآن، وعلى الرغم من كل الاعتداء المتواصل من قبل الانماط الاجتماعية المختفة، فإن هذه المقاومة ما فتأت موجودة، حتى وان لم تكن لدى الفرد كعضو في جماعة اجتماعية، فانها ستبقى في النهاية لديه كفرد منعزل ووحيد.
ونظراً للانسداد الأفق امام الوجود الإنساني الذي يبغي التحرر والخلاص، فان أدورنو، حسب ما يحلل جيمس جوردون فينلسون، كما ماركس من قبله وميشال فوكو من بعده، لا يصرح كثيراً عن الشكل الذي يجب أن يكون عليه المجتمع، كما انه كان متشككاً جداً حيال المؤسسات بصفة عامة. بل إن الهدف العملي لنظرية أدورنو النقدية هو تزويد الأفراد بالقدرات التي تساعدهم على عدم الاندماج في المؤسسات الرأسمالية التي لا مناص منها، وهو ما كان يسميه ” عمانويل كانط ” بـ ” الرشد ” .
أما النظرية النقدية للمجتمع فقد أخذت الناس كموضوع لها بصفتهم منتجين لكلية الأشكال الإجتماعية التي تكتسيها حياتهم في التاريخ، ولأجل هذا سعى المنظرون المنضوون تحت لواء هذه المدرسة إلى إنقاذ الإنسان في الحقبة الراهنة، ولإيجاد نظام اجتماعي أفضل يحقق حريته وسعادته، وهذا عن طريق براديجمات اجتماعية نقدية، كما أخذوا على عاتقهم صياغة نظرية نقدية للمجتمع قصد الدفع بالتحرر الانساني إلى مداه المأمول، وفي كل أبعاده الإجتماعية والسياسية والثقافية، ابتغاء تجاوز تلك الصراعات والتناقضات التي عرفتها المجتمعات الغربية المعاصرة.
وما يخلع على هذه النظرية النقدية مسحة التقدمية هو توجهها نحو تحرير الناس من جميع أشكال الهيمنة ومن سيطرة علاقات السوق وسياسة السيطرة الشمولية التي أصبحت سمة من السمات الواضحة في الرأسمالية المعاصرة، سوى أنه من الواجب على النظرية الحفاظ على التزامها المستقبلي للوصول إلى النموذج العقلاني للمجتمع الذي سوف يحقق للانسان حريته الكاملة، فالتحرر من العلاقات الطبقية وجه من وجوه عملية التحرير، وهو الجانب المحوري فيها.
ولقد استخدم هؤلاء المنظرون النقدانيون النقد كآلية اجرائية بهدف كشف الحقائق المخبئة تحت النصوص والظواهر من أجل تحرير الفرد من تلك الهيمنة والتسلط ومختلف أشكال الايديولوجيات المخبوءة تحت تلك المفاهيم، وهذا هو السبب الذي من أجله احتلت مقولات مثل الذات، التفرد، الفردانية، الفرد، مكانة أساسية في النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، هو ما يعد دليل على إيمان أصحابها بأن التفرد يعني التحرر الكامل، لأن التفرد معناه أن يصبح الإنسان مركز الحياة وغرضها وأن حرية واستقلال الذات غاية في حد ذاتها ولا يمكن ان تخضع لأي غرض آخر. سوى انه من المهم الإشارة إلى ان هوركهايمر نبه إلى ان خلاص الفرد ليس تحرراً من المجتمع، بل أنه يؤدي إلى خلاص هذا المجتمع من الانحلال، ذاك الانحلال الذي بلغ ذروته في حقبة التنظيم المؤسساتي والثقافة الكونية .
وحري بالتبيان أن النظرية النقدية ليست متمرسة لا في معسكر ” الأنا ” ولا في معسكر ” النحن ” الذي مثلهما على التوالي الفكر البورجوازي، والايديولوجية النازية، فالأمر على عكس ذلك تماماً، فالفكر النقدي، على حد تحديد هوركهايمر، والنظرية التي يصوغها يتعارضان مع هذين الموقفين الفكريين، إذ هما ليسا نتاج فرد معزول، ولا جماعة من الأفراد، فهما يتخذان عن قصد، على العكس من ذلك ، كذات، فردا محددا بعلاقاته الحقيقية مع أفراد آخرين ومع جماعات، وبعلاقاته التناحرية مع طبقة بعينها، وأخيراً باندماجه عبر هذه الوسائط في مجموع الهيئة الاجتماعية وفي الطبيعة .
أما كون هذه النظرية نجحت في المهمة الملقاة على عاتقها والمتعلقة بتحرير الفرد في المجتمع الحديث، فهو أمر من الصعب البت فيه، سوى أن ما يمكن قوله ان النظرية النقدية للمجتمع طرحت بدائل وبراديجمات عديدة مثل الاستطيقا والجدل السلبي والتواصل والاعتراف بغية الخلاص والتحرر، وما على الفرد إلا ان يقوم بمسئوليته تجاه ذاته وأن يحرر نفسه من كل أنواع الهيمنة الواقعة عليه في المجتمع الحديث.
وثنية الاستهلاك في المجتمع الصناعي المتقدم:
في تحليله للمعضلات الراهنة للحداثة يرى ” ألان تورين ” أن فكرة الحداثة تحمل في ذاتها توتراً يستحيل تجاوزه بين العقل وحقوق الأفراد من جهة، والمصلحة الجماعية من جهة أخرى، والمواطنية والحقوق المدنية هي أيضاً تعبير سياسي عن العقلانية، لكنه يتناقض مع تدامج المجتمع وتلاحمه وتناقض الحقوق مع الواجبات، وهو ما دفعه فيما بعد ليصف هذا الموقف معتبراً اياه ” ازدواجية الحداثة الرئيسية “، تلك الازدواجية التي شجعت الفردانية الأخلاقية وفكرة حقوق الانسان التي نادت بها فلسفة التنوير، على أنه تم استعمالها أيضاً من قبل الطامحين إلى تقديس السلطة السياسية والمجتمع
وجدير بالذكر ان هوركهايمر كان قد تنبه إلى هذه القضية من قبل، حيث لفت إلى ان التحول من التضاد مع الواقع إلى الرغبة في التماهي والتكيف معه، هو أحد أبرز سمات أزمة الفردانية في العصر الحديث([54])، فمسألة التعالق بين الفرد والمجتمع قد شغلت بال الفلاسفة والمنظرين الاجتماعيين من قبل، حتى ان أفلاطون كان هو أول من حاول أن يدشن سستاماً فلسفيا يوازن من خلاله بين الفردانية والأفكار الواقعية . انها ثنائية صلبة،اذن، بين الفرد والمجتمع، ونتج عنها وجود معسكرين متضادين تماماً، أحدهما مؤيد للجمعنة وصهر الفرد في بوتقة المجتمع، في حين شدد المعسكر الآخر على أهمية الذاتانية ومركزية الفرد في الكون والوجود، بل ان هناك من ذهب إلى أبعد هذا، حيث رأى ” ألان تورين ” انه من المتعين ان نسعى إلى تدشين ” تحليل لا اجتماعي للواقع الاجتماعي ” وذلك نابع من تصوره الذي مفاده ان الفرد في المجتمع الحديث آل للبيدودة والزيلولة .
ليس هذا فقط بل إن ” تورين ” مضى في تشائمه إلى حد بعيد، حيث رأى انه ينبغي القبول بتقويض المقولات الاجتماعية جميعها كنقطة انطلاق للتحليل، فالتطورات الراهنة للمجتمع الصناعي المتقدم تؤدي إلى نقطة واحدة، هي انهيار العالم الذي سميناه اجتماعياً وزواله، وهو حكم لا يفاجئنا طالما أن ملايين الناس يعربون عن أسفهم لانقطاع الروابط الاجتماعية وانتصار الفردانية المفككة ان هذا الانتصار للفردانية المفككة وغياب الاجتماعي وتلاشيه ليس ناتجاً الاعن سيطرة المؤسسات الرأسمالية وهيمنتها على الحياة الاجتماعية بشكل كامل، على الرغم مما توفره هذه المؤسسات من وسائل رفاهية ودعة.
لقد أصبح في وسع الرأسمالية أن تنتج عدداً هائلاً من أدوات الراحة والارتياح أكثر بكثير من ذي قبل، وهذا يتيح لها أن توائم موائمة سلمية بين منازعات الطبقات، إلا ان ذلك لا يمحو عنها سمتها الأساسية، أي استملاك القيمة الزائدة لحسابها الخاص، وتزامن بالطبع مع سطوة هذه المؤسسات الرأسمالية ومع انتاجها الهائل والوفير من الأدوات والمنتوجات، رغبة جامحة في الاستهلاك إلى حد صار هذا الاستهلاك صنماً ووثناً جديداً، وهو ما دفع ” اريك فروم ” إلى الظن بأن المجتمع الحالي بحاجة إلى “علم للأصنام”، ففي هذا المجتمع لم يعد هناك ” بعل ” او ” عشتروت ” بل ان الأمر اختلف تماماً، فالسلع والمنتوجات وأدوات الرفاهية هي الأصنام الجديدة.
وعلى الرغم من كثرة المنتجات المتاحة أمام إنسان العصر الراهن، الا انه ليس حراً بحال من الاحوال، فهو من جهة تم السطو على وعية من خلال صناعة الثقافة ووسائل الدعاية والاشهار التي تروج له ان هذه السلع حتمية وضرورية، وان حياته بدونها لن تكون ذات معنى، ومن جهة أخرى، فهذه الحرية مصابة بالمحدودية والنقوصية، فهي فقط مؤطرة ومحددة بالمنتجات المتاحة فحسب، ومن ثم فقد تحولت مجتمعات الرخاء الحديثة إلى نظام شامل للقمع والسيطرة، وعرضت الإنسان لأشكال مختلفة من القهر الظاهر والباطن، والقمع الواعي أو غير الواعي الذي ينطلق من أجهزة الإنتاج الضخمة، والمؤسسات الإدارية والبيروقراطية والاستهلاكية والإعلامية التي تشبه آلات هائلة يحاول الناس أن يكيفوا أنفسهم مع ضغوطها ومطالبها ويضطرون في سبيل ذلك إلى قمع طبيعتهم، بل يبلغ الأمر بهم في بعض الأحيان إلى عدم الإحساس بالقمع الذي يمارس عليهم من قبل تلك الأجهزة التقنية.
وهذه المؤسسات الرأسمالية فاشلة فشلاً ذريعاً، سوى أن هذا الفشل سوف يظل وإلى أمد بعيد فشلاً مستتراً مقنّعاً، فالإنتاج مستمر والنظام الإجتماعي قائم، واشباع الحاجات متحقق، ومع ذلك فالإخفاق يضرب بجذوره في الأعماق، وما علينا سوى ان نميط اللثام ونزيح ورقة التوت عن جسد هذه المؤسسات حتى يبدو الفشل ظاهرا للعيان.
وأكبر دليل على فشل هذه المؤسسات كونها تسببت في خفوت الفرد واضمحلاله، فالمسألة الآن لم تعد كيف يستطيع الفرد ان يؤمّن احتياجاته دون أن يلحق ضرراً بغيره؟ بل أصبحت كيف يستطيع ذلك دون أن يضر بنفسه؟ أي دون أن يحدث بتطلعاته وتأمين حاجاته تبعيته لجهاز الاستغلال؟ مادام أن هذا الأخير لا يؤمًن احتياجاته إلا بأن يحافظ أكثر فأكثر على عبوديته.
ولخفوت الفرد وزواله واضمحلاله في ظل المجتمع الصناعي المتقدم مظاهر شتى، منها مثلاً أن الانسان قد تحول، في ظل علاقات العمل الصناعية والرأسمالية، إلى مجرد عنصر أو جزء ضئيل من جهاز الإنتاج الهائل الذي تحدده الأتمته والمكننة، وصار عجلة صغيرة قابلة لأن يستبدل بها غيرها داخل العالم التقني الضخم الذي يصعب الإطاحة بشبكته المعقده أو بالقوى التي تحرك خيوطه. فالإنسان واقع تحت ضغط الآلات التي تعرض عليه ألواناً من السلوك النمطي الرتيب، وتسد عليه منافذ المبادرة الشخصية الحرة، وتعوق عملية تحديده لذاته، بل وتخنق فاعليته الخلاقة. فالناس في ظل هذا المجتمع وعلى حد قول هوركهايمر، لم يعودوا يتصرفون إلا كدواليب صغيرة في الآلية الاقتصادية الضخمة.
ولأجل هذا رأى هوركهايمر أن الفكرة التي كانت رائجة في مطلع الثلاثينات، والتي مؤداها أن العمال الموحدين وبجانبهم الانتلنجسيا، أي الطليعة المثقفة، بإمكانهم أن يقفوا كحائط سد منيع أمام الرأسمالية الوطنية لم تكن سوى نوع من الترف الفكري، ففي بداية البربرية الوطنية، وبخاصة في الوقت الذي ظهرت فيه سلطتها المرعبة، صارت الرغبة في التحرر تعني التمرد على كل القوى الخارجية والداخلية.
فالفرد، في نظر هوركهايمر، يعاني، في ظل المجتمع الحديث من أزمة عميقة تلك التي تتمثل في اضمحلال أهميته كفرد، فلقد كان النظام الرأسمالي في بداية ظهوره يعتمد على المجهود الشخصي والأفعال المستقلة للأفراد، ولذك كان هناك أساس اقتصادي قوي للفردية في بواكير العصر الحديث ، أما الآن، ومع انهيار الرأسمالية الليبرالية وظهور رأسمالية الدولة، فقد اختفى الأساس الاقتصادي للفردية، إذ أصبحت الرأسمالية لا تعتمد على الأفراد، بل على وحدات انتاجية أكبر مثل الشركات والمؤسسات الضخمة والعملاقة.
وهوركهايمر هنا لا يقصد نقد الرأسمالية ذات نفسها إنما مآلاتها الخطيرة وأثارها السلبية على الموجود الإنساني، وهذا بالضبط عين ما فعله ماركس من قبل، حيث أن جوهر النقد المركزي الذي وجهه كارل ماركس للرأسمالية ليس فقط في انعدام العدالة في توزيع الثروة، وإنما في حرفها للعمل إلى شكل عمل لا هادف، مُغَرّب، قسري، وتبعا لذلك، تحويلها للإنسان إلى شئ شاذ ومشلول.
إن مفهوم ماركس للعمل كتعبير عن الفردية يتم التعبير عنه بشكل محكم في رؤيته الداعية إلى الإلغاء التام للإنغماس المستمر مدى الحياة للإنسان في مهنة واحدة. المجتمعات القائمة، إذن، لن تتمكن من بناء عالم الحرية الإنسانية، لأنها تولد حاجات ومسرات وقيماً ليس من شأنها إلا أن تعيد توالد العبودية في جوهر الوجود الإنساني، فالفرد سيظل مأخوذاً بالاستهلاك مفتوناً بالسلع ومن ثم لا مناص من تحرره الفيزيقي ما لم يتحرر وعيه أولا وفي المقام الأول، ليدرك بعد ذلك أن هذه السلع ما هي إلا سجن لوجودة وانتهاك صارخ لذاتيته وقمع لخياله المبدع والخلاق.
وطالما أن الإنسان لم يع تلك الحقيقة، فسوف تتم المهادنة الأيديولوجية بينه وبين جلاديه، أي بين الفرد وبين المجتمع الذي يقهره ويسترقه، وحينذاك سوف تكتسب امتثالية المستهلكين، كما صفاقة الإنتاج، مزيداً من الوعي، أما النتيجة فهي إعادة إنتاج نسخ طبق الأصل إنها عملية توالد آلي لصورة أصلها مشوه. والسبب الذي جعل الفرد ماخوذاً بالسلع التي تستعبده هو، على حد تحليل ماركيوز، أن اقتصاديات الإستهلاك وسياسة رأسمالية الإحتكارات لفقا للإنسان طبيعة ثانية تربطه بالشكل التجاري على نحو صميمي بل غريزي أيضاً إنها أوهمته انه من الطبيعي والعقلاني أن يستغرق في الاستهلاك، وأن يستهلك ذاته في السلع. والفرد في ظل هذا الوضع المأساوي يجد نفسه مشدود الوثاق إلى عجلة هائلة من التنظيمات الإنتاجية التي لا يستطيع منها فكاكاً أو خلاصاً.
ولهذا فان سلطة عالم السلع باتت نوع جديد من السلطة، والواقع أن هذا الشكل الجديد من السلطة قد نشأ مع هيمنة عالم السوق، حتى لقد تحولت السلطة إلى وثن أو صنم جديد صار الإنسان عبداً له، ومن ثم فإن سيطرة العالم الوثني للسلع لهو من أخطر التحديات التي تواجه الإنسان في القرن الحادي والعشرين وهيمنة هذه الآلهة الوثنية الجديدة تتناسب طردياً مع خفوت الفرد وزواله وانمحاء وجوده. إن الفرد يزداد تشبعا بالبضائع يوماً عن يوم، ومن ثم بأن ينهي وجوده كمستهلك يستهلك نفسه في شرائه وبيعه، كما ان هذه البضائع تعتبر ترسيخاً لجذور ثورة مضادة في أعمق أعماق البنية الغريزية.
ومن ثم فإن مؤسسات الدولة الاصلاحية تسيطر على حياة الذين ينعمون بفوائدها ومزاياها بفضل هيمنتها على مستوى معيشتهم، وذلك لأن زيادة الإنتاج كفيلة بإضعاف حوافز تقرير المصير فالخيرات المادية السارة تتحول إلى عناصر شقوة وتعاسة، ففي غياب الذات الإجتماعية تتفتح الفاشية عالمياً ويتحول التقدم نكوصاً وتأخر.
إن التحليل المبثوث هنا تحليل فاجع حقاً، مفعم بالسوداوية، حتى إنه لقد يتراءى للمرء منذ الوهلة الأولي أنه من الواجب عليه أن يضحي بوجوده المتعين في سبيل التمتع بنعم الرأسمالية أو يتخلى عن ذلك تماماً ويرجع أدراجه إلى الحياة البدائية، سوى أن ” اريك فروم ” قد اقترح حلاً قد يكون ملائماً لمثل هذه المعضلة الكئداء، حيث رأى انه من الممكن تنمية الوجود الإنساني الحق والأصيل عن طريق عقلنة الإستهلاك، الذي من خلاله يتم اقتناء الضروري والإستغناء عن الثانويات مثلاً، وكذلك عدم الخضوع للعوالم المصنعة ” ماكدونالد وديزني على سبيل المثال “.
سوى أن ذلك لا يمكن أن يتأتى إلا إذا وعى الفرد بأن اغراءات السوق تتأسس، قبل كل شئ، على سذاجة المستهلكين وليس على ذكاء مهندسي هذه السوق. قد يكون الاستهلاك الواعي، إذن، هو الحل الوسط الذي يمكن من خلاله التنعم بنعم الرأسمالية دون التضحية بالذات الإنسانية.صناعة الثقافة وتخدير وعي الجماهير:
لقد انصب اهتمام أعضاء مدرسة فرانكفورت على ما يسمى في النظرية الماركسية بـ ” البنية الفوقية “، حيث رأى هؤلاء المنظرون أن وسائل الإعلام الجماهيرية قد حالت دون أن يتخذ التاريخ مجراه الحتمي، وطبقاً لتحليل هؤلاء المفكرين فإن وسائل الإعلام قد أفسدت عقول الجماهير، كما ان البشر في الطبقة العاملة قد تم استدراجهم إلى ثقافة الاستهلاك حيث انغمسوا في الثقافة السطحية والمبتذلة التي تقدمها الثقافة الشعبية، ومن ثم فقدوا الاهتمام بهوية طبقتهم فضلاً عن الإحساس بلازمية الثورة سوى أن ما تجدر الإشارة في هذا الصدد أن مدرسة فرانكفورت لا تهاجم تطور الثقافة الجماهيرية بوصفها كذلك، انما فقط تهاجم الشكل القمعي المحدد الذي تريده هذه الثقافة أو يتم فرضه عليها برعاية رأس المال الاحتكاري .
والنقد الذي ساقه أصحاب النظرية النقدية ضد الصناعة المعلبة والمسلعنة يتوافق تماماً مع آرائهم وأطروحاتهم المؤيدة والداعمة لتفتح الوجود الإنساني الحديث، والتي حاولت تطبيب مشكلاته وأدوائه الراهنة، خاصة وأن هذه السلعنة وتلك الأليلة قد عمت الحياة برمتها، حتى ان المواهب نفسها أمست في خدمة صناعة الثقافة ،كما أن النظام الرأسمالي، وعبر مؤسساته الإعلامية والإشهارية، قد أطر الناس جميعهم في أطر محددة، حيث وضع لكلٍ ما يناسبه حتى لا يستطيع أحد الفلتان منه، وعلى كل واحد أن يتصرف بعفوية لكن بما يتناسب مع مستواه المحدد سلفاً تبعاً لإحصائيات معينة، وأن يختار فقط من المنتوجات المعمولة للجمهور بما يتناسب مع نموذجه ، انه، إذن، نظام طاغ، جامع أفلح في سجن الفرد في قمقم الاستهلاك حتى لا يمكنه ان يفلت أو حتى أن يفكر في مجرد التغيير فضلاً عن التثوير.
غير أن النظام الرأسمالي العاهر Obscene – والتعبير لماركيوز – لم يتوقف عند هذا الحد، بل انه انطلق، وعبر مؤسساته الإعلامية الضخمة، ليذكر الزبائن باستمرار عن طريق الشاشة أو وسائل الإشهار المختلفة بمآثر الحياة الاستهلاكية التي يحيون في كنفها.وعلى كل الإحوال، فإن الأفراد في ظل هذا المجتمع المؤديت قد صاروا أغراضاً ومواضيع ، بل دمى يتلاعب بها الرأسماليون كيفما شاءوا. إن عالم وسائل الإعلام هو حقاً ما يشوه الذات الفاعلة الساكنة في كل فرد، ويتلاعب بها في المجتمعات المعاصرة. وهدف هذا الإعلام المساير للنظام واللاعق لحذائه هو نزع الفتيل الثوري من جسد كل قوى اجتماعية يمكنها أن تغير مجرى التاريخ وتستبدع نظاماً اجتماعياً أكثر إنسانية تسترد فيه كرامة الإنسان المهدرة ويُدافع فيه عن تفتحه الحر والخلاق.
ولذا فانه لا غرو ولا غرابة أن نجد أن قطاع الاعلام قد احتل مكانة القلب من الجسد في المجتمع الرأسمالي، ليس هذا فحسب، بل إن كل القطاعات صارت تابعة له، فهو القطاع المسؤول عن قولبة وعي الجماهير وكيه وتعليبه ووضعه في إطار واحد وعلى سكة واحدة وهي سكة الدولة والسلطة والنظام، حتى لقد أمسى المجتمع والفرد كليهما أحادي البعد، لا يسير إلا في اتجاه واحد ولا ينظر إلا بعين واحدة.
إن مؤسسات الإعلام لا تكف عن ممارسة العهر ليل نهار، إذ لا تنفك أبدا عن تغذية سعار الإستهلاك وتشكيل الأذواق والإحتياجات عبر آلياتها وميكانيزماتها الخاصة، كما ان هذه البضائع المتوافرة بكثرة خلقت لإنسان العصر الحديث نوعاً من التسلية، سوى أن هذه التسلية لا تُقدم لهذا الإنسان من أجل سواد عينية، بل إن الهدف منها هو تأبيد النظام الراهن بنزعته الشمولية الكليانية، فالتسلية تعني، كما يحلل الرفيقان هوركهايمر وأدورنو ، ألا تفكر بشئ، وأن تنسى العذاب حتى يبدو ظاهراً للعيان، يتعلق الأمر فعلاً بشكل من أشكال العجز حتى إن هذا الموقف قد يعد هروباً من حجيم الواقع وعذاباته .
إلا أن الخديعة لا تكمن في كون الصناعة الثقافية قد عرضت التسلية، بل في كونها تفسد كل لذة، إذ تسمح للإعتبارات المادية والتجارية باستثمار كليشيهات أيديولوجية لثقافة تسير نحو التصفية الذاتية([85])، فالتسلية المقدمة للأفرد لها دور واضح ومحدد، فهي من جهة، تقنعه بأفضلية الوضع الراهن وتوهمه بأن المجتمع الحالي هو الفردوس الأرضي، ومن أخرى، تسد الأفق امامه ليفكر في مجرد التغيير، إذ أنه لا يستفيق أصلاً من خُمرة البضائع والمنتوجات التي تعج بها حياته كلها، إلى حد صار هذا الإنسان عبداً لهذه الأدوات التي هو يملكها والتي صنعها هو أصلاً بيديه.
العلاقة واضحة وجلية، إذن، بين ” الوجود والتملك ” وهي قضية محورية تصدى لها من قبل القس ” جابريل تارد ” ومن بعده ” اريك فروم ” وحاصل القول فيها أن الأشياء تستعبد الإنسان قدر ما هو يملكها تماماً، والرأسمالية تفهم هذه الحقيقة جيداً وتعمل على استثمارها الاستثمار الأمثل. ولن يكون بوسع الفرد في ظل هذا المجتمع المؤتمت أن يفكر حتى في مجرد التخلي عن هذه التسلية حرصاً منه على وعيه الشجاع والثوري، حيث أن التسلية صارت مفروضة بالقوة على الجميع، حتى أنه لم يعد ثمة من مهرب للسلع والبضائع إلا إليها، فكل الطرق تؤدي إليها، وفي عصر التوسع الليبرالي راح اللهو يتغذى من إيمان لا يتزعزع بالمستقبل: فالأشياء ستبقى هكذا بل ستكون أفضل فيما بعد.
واللافت حقا أن الصناعة الثقافية لا تكف عن كبت المستهلكين والتنكب عن ما وعدتهم به، فصك اللذة أو بالأحرى صك الحصول عليها صك مؤجل إلى ما لا نهاية، فالوعد بالمتعة واللذة والتسلية ما هو إلا وهم لا يمكن الوصول اليه. واضح أن رأسمالية الاستهلاك والإحتكارات قد أحكمت قبضتها على الواقع الإجتماعي برمته، وقد نالت الحسنين معاً، فلا هي منحت اللذة والتسلية ولا هي تعرضت لأزمات جراء القوى الثورية، التي كوت هي وعيها عبر وهم الاستهلاك وايديولوجيا الترف.
يمكن القول مع ” فردريك جيمسون ” بأن نظرية صناعة الثقافة ليست نظرية في الثقافة بل هي نظرية في الصناعة، ذلك لأن آثار الصناعة على الموجود الإنساني كانت وخيمة، وما الثقافة في هذا الصدد إلا حدث طارئ وعابر، حيث أنه تم استخدامها لتحقيق أهداف الصناعة فقط، ولقد بلغ تأثير الصناعة الثقافية مبلغا كبيرا في المجتمع الرأسمالي المتأخر ”أن نسبة ضخمة ، يقول أدورنو ، من الناس الذين ليست لديهم فكرة عن الفن قد اقتيدوا ليصبحوا مستهلكين لهذه الثقافة الجديدة ” ويواصل كلامه ” إن رسالة الثقافة الجماهيرية هي رسالة خفية للتماثل والتوافق مع الوضع القائم الذي يصبح نمط الإستجابة لدى الأفراد ”، وفي التحليل الأخير، فإنه لا مناص من القول بأنه قد تم أدوته الثقافة وسلعنتها وإخضاعها لمنطق العرض والطلب وهو عين الأمر الذي حدث مع الإنسان تماماً.
محمد علواني - حكمة
إضافة تعليق جديد