عن الأمــن الغذائي والمائي وألعاب الجـوع الوطني
1
الافتراس ابن الجوع، وكلاهما متوحش لا يَعقل، لهذا فإن الحكومات الناجحة تعمل على إشباع بطون رعاياها حرصاً على عدم استيقاظ وحش الجوع والافتراس بداخلها، بينما الحكومات الفاشلة تأكل طعام رعاياها، وإذا احتجوا سلطت عليهم كلاب الحراسة المفترض أنها لحمايتهم.. وقد يكون للجوع أسباب أخرى خارجة عن إرادة السلطات كالكوارث والحروب، غير أن الحكومات الرشيدة هي التي تعمل على التخفيف من شدة تأثيرها على حياة مواطنيها.. فكيف هو حال العرب وحكوماتهم مع الجوع والأمن الغذائي والمائي، وكيف نخفف من حدة المجاعة المتوقعة سنة 2030 حسب تقارير الأمم المتحدة المخيفة، خصوصاً بعد تفاقم أزمة نهري النيل والفرات اللذين تتحكم بتدفق مياههما دول غير عربية؟
إن المتأمل للسياسات الاقتصادية العربية سيجد أن التنمية مجرد مصطلح للاستهلاك الإعلامي، وأن الواقع يقول إن دول جامعة الدول العربية بسوقها الوهمية إنما تُديرُ ألعاب الجوع الوطني منذ منتصف القرن الماضي، لهذا لم نحصل منها سوى على اقتصاد ريعي يذهب جله كنفقات أمنية وعسكرية بينما بعضه مرصود لرفاهية الحكام المتفاهمين عربياً على نقطة واحدة هي: فن إدارة الجوع وترويض الشعوب..
2
سنة الجوع: عنوان يتكرر في تاريخ الأقاليم العربية، ففي بلاد الشام والعراق ونجد والحجاز ضربت المجاعة خلال الحرب العالمية الأولى بين 1914 و1916 بعدما تراجع الإنتاج الزراعي 25 % وتقلصت الأراضي الزراعية 40% بعد إصدار السلطنة العثمانية فرمان "سفر برلك" أي النفير العام، والذي صادرت بموجبه مواسم الحبوب والمؤن والدواب والشباب (المسلمين وغير المسلمين) لصالح جيشها، حيث كان العثمانيون يطوقون القرية من جميع منافذها ويمسكون الرجال القادرين على الحرب باستثناء رجال الدين، طاردوا حتى الرعاة والفلاحين. وقد كانت هذه السياسة المتوحشة سبباً في هزيمة العثمانيين أمام الحلفاء، بعدما حاصرت سفن فرنسا وبريطانيا سواحل سورية من إسكندرون إلى حيفا ومنعت وصول الإمدادات والمؤن، وغزا الجراد أراضيها من دمشق إلى بيروت فحلب فأضنة فدير الزور وتسبب الجوع بموت 70 ألفاً في حلب و200 ألف في جبل لبنان من مجموع سكانه البالغ آنذاك 400 ألف وكانت الجثث تملأ الشوارع. وأقدم الناس على أكل الجراد وجثث الحيوانات والتراب وحشائش الأرض..
وفي زمن الفاطميين حصلت مجاعة بمصر نتيجة غياب مياه النيل نهاية عصر الخليفة المستنصر بالله في مستهل النصف الثاني من القرن الخامس الهجري وعرفت بالشدة المستنصرية، ويروي ابن إياس أن "الناس أكلت الميتة وأخذوا في أكل الأحياء وصنعت الخطاطيف والكلاليب لاصطياد المارة بالشوارع من فوق الأسطح وتراجع سكان مصر لأقل معدل في تاريخها". ويذكر تقي الدين المقريزي، في كتابه إغاثة الأمة بكشف الغمة: "أكل الناس القطط والكلاب بل تزايد الحال فأكل الناس بعضهم بعضاً، وكانت طوائف تجلس بأعلى بيوتها وعليهم سلب وحبال فيها كلاليب فإذا مر بهم أحد ألقوها عليه ونشلوه في أسرع وقت وشرحوا لحمه وأكلوا".
ويضيف المقريزي في كتابه اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء: "ظهر الغلاء بمصر واشتد جوع الناس لقلة الأقوات في الأعمال وكثرة الفساد وأكل الناس الجيفة والميتات ووقفوا في الطرقات فقتلوا من ظفروا به، وعم مع الغلاء وباء شديد وشمل الخوف من العسكرية وفساد العبيد فانقطعت الطرقات براً وبحراً" وينهي المقريزي بقفلة درامية : لما أغاث الله الخلق بالنيل لم يجد أحداً يحرث أو يزرع.
ويرجع المقريزي هذه المحن التي تعرضت لها البلاد إلى: " توصل الجهلاء والظالمين بالرشوة إلى تقلد أعلى مراتب الحكم في الدولة، كالمناصب الدينية، وولاية الخطط السلطانية من وزارة وقضاء ونيابة وغيرها، واضطرارهم لتسديد ما وعدوا به السلطان من أموال إلى تعجلها من أعضاء حاشيتهم وأعوانهم فيقرروا عليهم ضرائب تدفعهم أن يمدوا أيديهم إلى أموال الرعايا الذين يضطرون إلى الاستدانة وبيع ما يملكون من أثاث وحيوان. وارتفاع إيجار الأطيان، وغلاء نفقات الحرث والبذر والحصاد، وارتفاع ثمن المحاصيل مما نتج عنه خراب كثير من القرى وتعطيل الأراضي الزراعية ونقص فيما تخرجه الأرض من غلال لموت كثير من الفلاحين والزراع وتشردهم في البلاد وقد هلكت دوابهم ".
وفي المغرب مازالت الذاكرة الشعبية تذكر عام الجوع وعام الطاعون وعام الكوليرا وعام التيفوس وعام البون، والبون هو بطاقة تموين كانت توزع على الأفراد تحدد بموجبها كمية شرائهم للطحين والرز والسكر والشاي والزيت والصابون والقطن، وكانت البطاقات توزع على المواطنين كإجراء لمواجهة الجوع بسبب الجفاف والسياسات الاقتصادية السيئة.
3
كانت نسبة الولادات في البلدان العربية مرتفعة والوفيات أيضاً، وبقي عدد السكان ثابتاً حتى نهاية الحرب العالمية الثانية حيث شهد النمو السكاني زيادة كبيرة. ويرجع الباحث المغربي عماد الميغري ذلك إلى تحسن مؤشرات التنمية البشرية بعد إدخال الطب الوقائي إلى المنطقة إبان الحقبة الاستعمارية وما بعدها خلال بناء الدولة الوطنية. حيث اختل التوازن التقليدي بين ظاهرتي الولادات والوفيات الذي كان سائداً، وكان من نتائج ذلك ارتفاع معدل النمو السكاني بسبب تراجع الوفيات فيما بقيت الولادات مرتفعة. فعندما دخل الاستعمار البلاد العربية وجد العديد من الأمراض والأوبئة التي كانت تمثل بالنسبة للمستعمر عدواً شرساً و ظهيراً للمقاومة المسلحة للاستعمار، مثل حالة الجزائر مع الاستعمار الفرنسي إذ لم تفلح الحملات الفرنسية العسكرية للسيطرة على الجزائر إلا بعد وضع برنامج لمقاومة الأمراض والأوبئة التي فتكت بجندها، حيث مات من الأمراض حوالي 14.032 ألف جندي فرنسي خلال ثلاث سنوات من 1840 إلى 1843، في حين قتل في المعارك في نفس الفترة حوالي 311 جندي، فقط فكان لا بد من القضاء على هذه الأمراض في أسرع وقت، فاختارت الإدارة الاستعمارية الطريقة الأسرع في النتائج وهي تقنية جماهيرية تتمثل خاصة في اللقاحات وتوفير الماء الصالح للشرب في المدن. فقد كان المستعمر يعمل على تحسين ظروف المعيشة للشعوب المستعمَرة من خلال بناء الطرقات ومد شبكات الاتصال والهندسة وتحسين الخدمات الصحية والزراعية، بهدف زيادة قوة العمل المطلوبة للسكان لاستغلال الموارد الطبيعية للبلاد.
ونتيجة لهذه السياسة الاستعمارية تراجعت الوفيات، في حين ظلت نسب الولادات مرتفعة في ظل بقاء البنية التقليدية للمجتمعات المستعمَرة، وهي تقاليد تمجد الكثرة، حيث إن اقتصادها يقوم على الزراعة أساساً، والمجتمع الزراعي ينظر إلى العائلة الكبيرة والممتدة بعين الهيبة والاحترام، عكس نظرتهم للعائلة قليلة العدد. وهكذا فإن استمرار البنية العائلية التقليدية مع تراجع نسب الوفيات في الحقبة الاستعمارية وما تلتها من مرحلة بناء الدولة الوطنية التي واصلت برامج التثقيف الصحي للسكان حسَّنت أكثر من أوضاعهم الصحية وتسببت بنمو ديمغرافي لا مثيل له في تاريخ الإنسانية، مما زاد في اليد العاملة والإنتاج الزراعي فحصلت وفرة في المحاصيل كان عائدها يعود على التجار والإقطاع الأمر الذي فاقم الظلم الاجتماعي في البلدان غير النفطية ومهد لانتشار الأفكار الماركسية والاشتراكية التي تبناها العسكر وقاموا بسلسلة انقلابات على الأنظمة ذات التوجه الرأسمالي في مصر وسورية والعراق واليمن والجزائر وليبيا والسودان والصومال مدعمين بأحلام الكادحين، وهنا مكمن الخلل حيث جاء التغيير على ظهر الدبابات ولم يكن نتيجة لاختمار ونضوج اجتماعي كما حصل في أوروبا، فبقيت القطعان في واد والرعيان بوادٍ آخر ولم يتم التقاؤهما بعد ..
4
نسجت المنظمة الصهيونية العالمية منذ سنة 1897 شبكة عالمية من الأجهزة السياسية النشطة في أوروبا، وأنشأت الصندوق القومي اليهودي لشراء الأراضي العربية منذ عام 1901 وشجعت هجرة اليهود حيث وصلت إلى فلسطين شرائح عمالية مشبعة بالفكر الاشتراكي والقومي، فأسسوا أحزابا عمالية "اشتراكية صهيونية" تدافع عن مصالحهم، وكان إيمان هذه الأحزاب قوياً بضرورة أن يكون القطاع العام محركاً للاقتصاد الصهيوني، فقاد نفوذ الأحزاب إلى تبني نظام قريب من الديمقراطية الاشتراكية بتحالف "رأس المال والدولة والعمال.
أقام المستعمرون الأوائل تعاونيات زراعية فكان أول "كيبوتس" سنة 1909 جنوبي مدينة طبريا، ومنذ ذلك العام حتى 1998 أقيم 300 كيبوتس سكن فيها 126800 نسمة يساهمون في 40% من إنتاج "إسرائيل" الزراعي، مع التنويه أن أغلب قادة "إسرائيل" جاؤوا من هذا المجتمع التعاوني. وفي عام 1999 تأسست "الحركة الكيبوتسية" التي ضمت 85% من المزارع الجماعية الاستيطانية. ويعتمد نظام الكيبوتس على الحياة الاشتراكية في الانتاج والاستهلاك والتعاون المتبادل بين اعضاء الكيبوتس. ويمكن اعتبارها حركة مختلفة عن التجارب الإشتراكية في دول الشرق الأوسط، والتي شكلت مشروع الحركة الصهيونية لإدماج المهاجرين اليهود من كل بلدان العالم، وكان نجاحها أحد أسباب اعتراف الاتحاد السوفيتي بالكيان الإسرائيلي بعد إعلان دولته. ويمكن القول إن الكيان الإسرائيلي نظام اشتراكي تدعمه مؤسسات رأسمالية. وخلال ست سنوات من إعلان دولة الاحتلال تمكن قادته من إقامة مؤسسات تعليمية وصحية وجيش وأحزاب ونقابات وبرلمان مع استيعاب لكامل المهاجرين وإدماجهم في حركة الاقتصاد ليشكلوا نظاماً اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً ناجحاً. وكان يفترض أن ينعكس هذا على الأنظمة العربية المعادية له من باب التضاد وتعزيز قوة المواجهة، لكن ذلك لم يحصل! كما كان يؤمل أن تعمم الثورة الفلسطينية نموذجها في البلاد العربية ولم يحصل أيضا، فقد تلاشت الثورة ذاتها ولم يبق منها سوى رسمها وشعبها المقهور!؟
قدمت هزيمة 1967 دفعة قوية للاقتصاد الإسرائيلي؛ حيث أغرقت أسواق الضفة وغزة بالسلع الإسرائيلية، وحصلت "إسرائيل" على أيد عاملة عربية رخيصة، وأيدت الهستدروت والدولة عملية الخصخصة أمام اندفاع رأس المال المتعاظم؛ حيث دخلت الهستدروت في شراكات مع القطاع الخاص، وباعت الحكومة شركات حكومية للقطاع الخاص. وسميت المتغيرات المذكورة (وحدة رأس المال) أي تعاون رأس المال الخاص والحكومي والعمالي في اتجاه إعطاء رأس المال الخاص سلطة قيادة النظام الاقتصادي بالتدريج. وبعد 18 سنة من برنامج الإصلاح كانت ملامح النظام الاقتصادي الإسرائيلي قد تبلورت باتجاه قيادة رأس المال للاقتصاد، واستعادة الدولة استقلاليتها عبر تقليص دورها المباشر في الإنتاج والتوزيع ودعم رأس المال وتقليص دور الهستدروت والنقابات العمالية.
اتسم الاقتصاد الإسرائيلي طوال نصف قرن بالنمو والتطور والتقدم؛ حيث زاد عدد السكان خمسة أضعاف، في عام 1948م فكان متوسط دخل الفرد ضعفي مثيله العربي، أما الآن فيبلغ ثمانية أضعاف، وتشارف النسبة على المقاربة مع الأجور في بريطانيا وإيطاليا. وكان معدل نمو الناتج القومي 2%، وأصبح 17%. ويعادل حجم الاقتصاد الإسرائيلي 73% من مجموع الإنتاج العربي في مصر والأردن وسوريا ولبنان، مجتمعة، ومتوسط دخل الفرد الإسرائيلي يعادل عشرة أضعاف دخل الفرد العربي ومستوى معيشته يعادل خمسة أضعاف دخل الفرد العربي. غير أن تطوير وتحسين الاقتصاد الإسرائيلي مرهون بتقليص موازنة الأمن إذ تبلغ نسبة ميزانية إسرائيل الأمنية 8% من الناتج القومي في حين تصل في أمريكا إلى 4% إذ يحتاج الإسرائيليون إلى الحفاظ على تفوقهم العسكري في المنطقة. كما يعاني النظام الإسرائيلي صعوبة تنفيذ سياسات فعالة بسبب التنوع السكاني الكبير، وبالطبع فإن الاقتصاد الإسرائيلي يعاني من دودة الفساد التي تنتشر في البيئات الشرق أوسطية بشكل يفوق معدلات الفساد العالمي.
5
منذ العام 1950 طرح المفكرون القوميون والاقتصاديون فكرة السوق العربية المشركة كخطوة متقدمة في مجال التكامل الاقتصادي العربي، وتلكأ السياسيون في مناقشتها حتى عام 1959 ثم كونوا مجلساً اقتصادياً في عام 1963 ثم تلكأوا 14 عاماً أنشأوا بعدها المجلس الاقتصادي والاجتماعي المنبثق عن جامعة الدول العربية الذي صاغ اتفاقية تيسير وتنمية التبادل التجاري بين الدول العربية عام 1980، وفي عام 1981 أقرّت قمة عمان استراتيجية العمل الاقتصادي العربي المشترك. ثم تلكأوا 15 عاماً أخرى ليصدروا قرار إنشاء المنطقة التجارية الحرة الكبرى في قمة القاهرة الطارئة في عام 1996 وأقرت اتفاقية تيسير وتنمية التبادل التجاري بين الدول العربية بنسبة تخفيض 10 في المئة سنوياً عام 1997، وتتماشى أحكام هذه المنطقة مع منظمة التجارة العالمية. وتضمنت الاتفاقية تحرير كل السلع العربية المتبادلة بين الدول الأطراف وفقاً لمبدأ التحرير التدريجي الذي طبق بدءاً من 1998، على أن يجرى إنجاز التحرير الكامل لكل السلع العربية مع نهاية الفترة المحددة لإقامة منطقة التجارة الحرة العربية في كانون الثاني 2005، ويمكن باتفاق الدول الأطراف وضع أي سلعة تحت التحرير الفوري، كما يشمل التحرير المتدرج كل السلع الزراعية وإعفائها من كل الرسوم الجمركية والضرائب ذات الأثر المماثل.
بلغ عدد الدول العربية التي انضمت إليها 17 دولة، ورغم توقيع اتفاقيات كثيرة وعقد مؤتمرات وقمم أكثر تمخض عنها تفعيل جزئي لبعضها فإن العرب لم يصلوا إلى التكامل الاقتصادي الكامل أو تدشين سوق عربية مشتركة موحدة أو إصدار عملة موحدة على غرار دول الاتحاد الأوروبي.
ويرى خبراء اقتصاديون أنه تحققت خطوتان نحو التكامل الاقتصادي والوصول إلى سوق عربية مشتركة، وهما إنشاء منطقة عربية تجارية حرة، وتحرير السلع من الرسوم الجمركية في التجارة البينية العربية، بانتظار إقامة السوق العربية المشتركة، وتفترض التنسيق في مجال الانتاج ومجالات التجارتين الداخلية والخارجية وفي مجال اقامة المشروعات بدلاً من تكرارها في هذا البلد او ذاك، وتفترض أيضا إزالة الحواجز الجمركية جزئياً أو كلياً. وكان الرئيس اللبناني ميشال عون قد طرح مؤخرا مبادرة لإنشاء سوق اقتصادية مشتركة، تضم لبنان والأردن والعراق وسوريا، وتتكامل مع السوق العربية الأوسع، لدعم السياسات الاقتصادية والاجتماعية في مكافحة الفقر والتطرف في المنطقة.
6
تمثل مساحة البلاد العربية 10 % من مساحة اليابسة، و5% من عدد سكانها، وتمثل مواردها المائية 1 % من الموارد العالمية إذ يوجد فيها 34 نهراً 62 % من موارد مياهها تأتي من خارج حدودها، ورغم ذلك فإن العرب لا يستغلون سوى نصف مواردهم المائية، ويزرعون ثلث الأراضي القابلة للزراعة، ويستوردون 50 % من احتياجاتهم الغذائية من الخارج. وتعتبر دول شبه الجزيرة العربية والأردن وفلسطين الأكثر فقراً في المياه. وتقول إحصاءات التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2020 أن نصيب الفرد من المياه العذبة سنويا في المنطقة العربية بلغ 800 متر مكعب في عام 2019، وسيتعرض للتناقص عام 2025 ليصل إلى 667 مترا مكعبا، وهو ما يعني أن متوسط نصيب الفرد من المياه عام 2025 مع احتساب التكاثر السكاني سيمثل نسبة 20% مما كان عليه عام 1955، وفي حال استمرار الوضع المائي والزراعي في المنطقة العربية على ما هو عليه، يتوقع ألا تستطيع المنطقة العربية تأمين سوى ربع احتياجاتها من الغذاء. وفي ضوء التقديرات الواقعية لإنفاق حكومات المنطقة العربية على قطاع المياه وُجد أنها تتراوح بين 1.7 و 3.6% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما نسبة الاستثمار التي يحتاجها القطاع تقدر بنحو 4.5% من الناتج المحلي الإجمالي.
وكما كان متوقعاً منذ ثمانينات القرن الماضي، فإن مصر والسودان قد دخلتا في أتون الخلاف مع أثيوبيا التي أقدمت على بناء سد النهضة على نهر النيل، كما أن سورية والعراق في حالة خلاف مع تركيا التي تحتجز حصة الدولتين في سدودها رغم أن الفرات والنيل نهران دوليان خاضعان للقانون الدولي ومعاهدتي هلسنكي والأرجنتين.
أيضا فإن المياه العربية تشكل جزءاً من أطماع "إسرائيل" في المنطقة بحيث أن مؤسسيها تخيلوا أن حدودها ستجمع بين الفرات والنيل، وقد أرسلت الحركة الصهيونية منذ العام 1850 خبراء لدراسة المياه في فلسطين ومدى الاستفادة من نهر الأردن لتوليد الطاقة الكهربائية، بهدف إسكان 5 ملايين مهاجر يهودي. فقد حرصت الصهيونية على استثمار كل قطرة ماء، وبعد قيام كيانهم بعام أصدروا قانون تأميم المياه مخالفين بذلك قانون لاهاي والقانون الدولي اللذان يؤكدان على احترام الملكية الخاصة وعدم مصادرتها. وكان ديفيد بن غوريون قد اعترف "بأن اليهود يخوضون مع العرب معركة المياه وعلى نتائج هذه المعركة يتوقف مصير إسرائيل"، وهي اليوم تبحث عن مصادر جديدة للمياه بعد تمكنها من استغلال 95 % من مياه فلسطين واستنفادها كل الوسائل المتاحة داخلياً، حتى أنها تقوم بتحلية مياه البحر وترفض الجلاء عن الأراضي اللبنانية والسورية المحتلة حيث تنبع من أراضيها معظم ينابيع وأنهار فلسطين كالحاصباني والليطاني والدان وبانياس واليرموك والأعوج وخزان جبل الشيخ والجولان المائي وبحيرة طبريا، وكانت مسألة المياه سبباً في رفض الرئيس حافظ الأسد توقيع معاهدة سلام مع "إسرائيل" بعدما طالب شمعون بيريس سوريا بالتخلي عن مياه الجولان لتل أبيب. وهي تنسق مع تركيا لبيع مياه دجلة والفرات ضمن مشروع (أنابيب السلام) مقابل احتجاز المياه عن سورية والعراق، حيث تنتهج تركيا بدورها سياسة مائية عدوانية تصب في بحيرة الناتو وتعمل على ابتزاز عطش سورية والعراق.
وتعود أطماع الصهيونية في مياه النيل إلى عام 1903عندما طالبت الحركة الصهيونية بريطانيا بإرسال بعثة لدراسة إمكانية تحويل مياه النيل إلى شبه جزيرة سيناء وبناء مستعمرات في النقب. ومنذ سبعينات القرن الماضي وطد الإسرائيليون علاقتهم بإمبراطور أثيوبيا والدول الأفريقية التي يمر بها النيل، وأقاموا الكثير من المشاريع المائية على حوض النيل، وحرضوا هذه الدول (كينيا وتنزانيا وأوغندا وأثيوبيا) ضد السودان ومصر بحجة أنهما تهدرا مياه النيل بحيث أن كينيا طالبت مصر بدفع أموال مقابل المياه التي تحصل عليها وساندتها أوغندا بذلك. وقامت الشركات الإسرائيلية بإنشاء ثلاثة سدود كجزء من برنامج يشمل 26 سداً على النيل الأزرق، وقدمت خبراتها في الري والزراعة، كما أقامت قواعد عسكرية في جزيرة دهلك وفاطمة، وكل ذلك بهدف الضغط على مصر للحصول على موافقتها بجر مياه النيل إلى "إسرائيل"، ويبدو أنها قد تقطف ثمارها بعد مئة عام على حلمها بسرقة مياه النيل حيث يؤكد خبير المياه الإسرائيلي أليشع كالي بأن "تكاليف نقل المياه من النيل إلى النقب أرخص بكثير من نقلها من طبريا إلى النقب". ويمكن القول إن "إسرائيل صنعت مشكلة مائية في أفريقيا تهدد وجود مصر التي لا تساوي شيئا من دون النيل.
7
كان للثروة النفطية أثر سلبي على مصير المنطقة، فقد ساهمت بنمو الاقتصاد الريعي وهيمنة الأنظمة الاستبدادية، وفشل التحول الديمقراطي والحداثة في البلاد العربية. ويرى المفكر اللبناني جورج قرم في كتابه عن الفكر والسياسة في العالم العربي: أن الشرق الأوسط وقع فريسة شكل جديد من الاقتصاد الريعي مؤسس على الإتجار بالمواد الأولية مقابل السلع المصنعة، ونجم عن ذلك كسل تكنولوجي كبير سببه تدفق الثروة المالية الجديدة، بينما اختلف المشهد في دول جنوب شرق آسيا المحرومة من مصادر الطاقة والمواد الأولية الأساسية حيث اضطرت إلى الدخول في عالم التحديث والتنافسية الصناعيين تبعاً للنمط الياباني.
هذا التطور العربي السلبي استقطب المهاجرين العرب إلى بلدان شبه الجزيرة العربية، من العامل العادي إلى الكادر المصرفي. أما بالنسبة للبلدان المصدرة للعمالة (سورية لبنان الأردن مصر تونس السودان والجزائر) ، وخاصة أصحاب الأدمغة والتقنيين، فقد اختفت منها شرائح واسعة من النخب المحلية ومن الطبقة الوسطى، وشكل ذلك خسارة اقتصادية واجتماعية وثقافية كبيرة ساعدت في بقاء الأنظمة المستبدة، بينما باتت الدول المصدرة للنخب اليوم أكثر فقراً مما كانت عليه في السبعينات، في الوقت الذي تجمع المصدرون النفطيون الكبار في شبه الجزيرة العربية في نادٍ للأغنياء هو "مجلس التعاون الخليجي" الذي أنشئ عام 1980 وازدهر في ظل الوجود العسكري الأمريكي والانقسامات والأزمات العربية التي تضاعفت منذ أن استحوذ النفط على اقتصاد المنطقة.
لقد ساهم النفط في تفاقم البؤس العربي، والأمر الأكثر خطورة هو إقدام أثرياء النفط على بناء امبراطوريات إعلامية عابرة للأقطار العربية من صحف ومجلات وقنوات يديرها خبراء مختصون ويغذيها مراسلون منتشرون في كل العواصم العربية ويقيمون ندوات ومنتديات وجوائز فكرية وأدبية وفنية، بينما خبراتها مستوردة من الدول العربية النافية لمثقفيها ومفكريها لعدم توفر مثل هذه الخبرات بين رعاياهم المشغولين بحوريات الجنة، وقد تم استخدام أغلب هذه الخبرات بشكل عكسي لغير صالح المستقبل العربي بقدر ما هو لصالح أعدائهم..
8
كانت ومازالت السياسات العربية الممتدة تاريخيا من شعرة معاوية حتى أمير ميكيافيللي، تنتهج فن إدارة الجوع وتنظيم عمليات الافتراس الشرعي في دورة ألعاب الجوع داخل نطاق الغابات الوطنية، حيث يتم ترويض الشعوب عبر بطونها مثل النمور في اليوم العاشر.
فقد أدى تطور الرعاية الصحية إلى نمو سكاني سريع، بينما شكل انتشار التعليم العالي نمطاً جديدا من الرعايا المتنورين والمتعطشين إلى نمط الحياة الحديثة، مما أوجد معضلة لدى الأنظمة العربية التي كان عليها أن تغير قوالبها السياسية الموروثة من زمن ما بعد الاستقلال، لكن الأنظمة العسكرية رغم ادعاءاتها التقدمية لم تتمكن من تغيير البنى الاستبدادية بسبب هيمنة المؤسسات الأمنية، منذ أيام صلاح نصر وعبد الحميد السراج القائدان الأمنيان اللذان ضيعا دولة الوحدة وحلم الرئيس ناصر وصولاً إلى اليوم، وزادت عليها بالتقارب والتعاون مع المؤسسة الدينية المتوارثة كما هي من عصور الانحطاط في العراق ومصر وسورية واليمن والجزائر والسودان، حيث انعكس ذلك سلباً على النمو الاقتصادي الذي لم يواكب متطلبات النمو الديمغرافي، مما أدى إلى هجرة النخب العلمية والتقنية والعمالة إلى الدول النفطية التي امتصت أدمغتهم وقوتهم ثم بصقت عظامهم ليعودوا إلى بلدانهم بما يكفيهم من مال للتقاعد دون خوف الجوع. بينما كانت الدول النفطية الغنية تضع أموالها في الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا بدلاً من تشغيلها في البلدان المصدرة لنخبها ومنتجاتها الزراعية إليها، حيث أكلت خيرها وصدرت إليها التطرف الإسلامي لتدميرها، كما حصل في ليبيا وسورية والعراق ومصر، لتغدو هذه الدول هدفاً سهلاً لأطماع "إسرائيل" فيها.
إن استمرار التزايد السكاني سوف يضاعف الحاجة إلى فرص عمل وإلى المزيد من حصص المياه والإنتاج الزراعي والتعليم والرعاية الصحية، ومن دون تأمين ذلك فإن بقايا الأنظمة العربية العلمانية سوف تضطر لمضاعفة ميزانياتها الأمنية لضبط اندفاعات الشباب الذين تستقطبهم المجموعات الجهادية التي تتلقى تمويلاً من الأجهزة الأمنية المعادية، حيث تتحول ألعاب الجوع إلى ألعاب العنف الديني الذي يفترس الطرفين المتقاتلين. لذلك فإن إعادة تعويم العلمانية المدنية التي تنضوي على الحداثة والديمقراطية هو الحل، كما هو الحال في الدول الأوروبية التي لا تملك نفطاً أو غازاً وإنما تستثمر في عقول وخبرات مواطنيها لتحافظ على مستوى الحياة الرغيدة فيها دون حاجة لإدارة ألعاب الجوع على الطريقة القديمة.
وفي الختام نتساءل: هل مستقبلنا كامن في حاضرنا كشكل من أشكال التوقع؟ هل كان المستقبل الذي توقعه آباؤنا يشبه ما نحن فيه اليوم؟ هل ما نحن فيه اليوم يشبه الماضي الذي سمعنا عنه من آبائنا؟ هل نحن فعلا ركبنا قطار المستقبل أم مازلنا ملتصقين بالمحطة؟ إن قراءة المستقبلات يجب أن يبدأ بتعريف ما هو المستقبل، وعلى هذا الأساس يمكننا أن ننتقل إلى تحديات المستقبل الذي يكمن فيه مستقبل المستقبل.
الأمر يشبه: كيف تتوقع الشجرة أن يكون زهرها، وكيف تتوقع الزهرة أن تكون ثمرتها، ومتى يتوقع الغصن سقوط أوراقه؟ كذلك يجب أن يكون سياق منطق توقعات الشجرة لمستقبلها من خلال: تربتها ومناخها ومائها وسمادها، وهل سيكون هناك تدخل خارجي لتقليمها أو تطعيمها،
هل تنتظرها عاصفة أو درجات حرارة مضطربة أو جفاف أو مرض؟ ذلك أن توقع مستقبل الشجرة ينبني على منطق علمي يعمل على مجمل الاختصاصات المعرفية والعملية لحماية الشجرة وتنميتها كما سائر أشجار البستان الوطني.
نبيل صالح
إضافة تعليق جديد