في الذكرى التاسعة لرحيل الفنان فاتح المدرس
حين رسم فاتح المدرس لوحته الشهيرة «كفرجنّة» كان قد مضى على رسم «بيكاسو» لوحته آنسات آفينيون» 45 عاماً، ومع أن لا شيء يجمع بين العملين على صعيد الأسلوب إلا أن تيار الحداثة، مع ذلك، كان قد تأخّر طويلاً ليصل الى سورية، وكان لابدّ من الإقرار بوصوله على يد فاتح المدرس في لوحة ربّما نجدها الآن متواضعة جداً إلا أنها عيّنت في وقتها بأكثر من معنى بداية دخول الحداثة الى الفن التشكيلي السوري وربّما بداية قبول هذه الحداثة على صعيد الجمهور والمختصين إذ حازت اللوحة على الجائزة الأولى للمعرض الثالث للفنون التشكيلية في المتحف الوطني بدمشق.
تصوير «كفرجنة» واحدة من القرى الجارة لـ«حربتا» قرية طفولة فاتح المدرس التي تقف على تخوم الشمال السوري حيث الإنسان هناك شديد الاتصال بالأرض ـ الأم التي تحنو وتطعم وتمنح كما سيصورها دائماً وكما ستبدو لاحقاً في غالبية أعمال المعلم: فلاحة تحمل شيئاً من محصول الأرض على رأسها، مشلوحة في الفراغ متعامدة مع شجرة تهيمن على المشهد، الشجرة وهي تلتحمان تماماً بالأرض.
لن نرى مستقبلاً نموذجاً ثانياً من «كفرجنّة» المرسومة في العام 1952 والموجودة في المتحف الوطني السوري لأن المدرس كان قد تمرّد على نتاجه وما لبث أن سافر الى روما للدراسة.
ولكن الأرض والإنسان سيظلان الموضوعين المفضلين لفاتح المدرّس وشيئاً فشيئاً سيندغمان في أعماله وسنراهما في الكبيرة منها والمهمة يأخذان القيمة نفسها في مقدمة اللوحة حيث سيختفي العمق تدريجياً وتجري الدراما في البعد الأول والوحيد. هنا سيلتقي المدرّس بدراية تامة وببحث جدّي مع التراث السوري القديم، النحت التدمري والآلهة القديمة الصامتة بالهدوء والسكينة الفلسفية اللتين تلفّانها، الفن الآشوري وفنون ما بين النهرين. لكن الأسطورة ستدخل عمله بعد تطويعها ولن نلمح أبداً نقلاً حرفياً للرموز والأشكال الأسطورية وسنجد في بعض الأعمال رموزاً وآلهة وحيوانات بدائية من صنعه هو شخصياً.
أم فاتح المدرس كردية من الشمال السوري، فلاحة تزوّجها شاب غني من آل المدرّس ودفع الثمن.
قتل عبد القادر المدرس والد فاتح عن ستة وعشرين عاماً، وكان لم يزل في الشهر الثاني والعشرين من عمره، ولذلك لم يتعرّف على قيم الأب وسطوته كما يقول هو نفسه فيما بعد: «كانت الأم هي كل شيء.. الحب العميق والأمومي. المطر والثلج. المبعدة التي عاشت شبابها تقف بصلابة وقوّة أمام أهل زوجها الاقطاعيين» الذين رفضوا وجودها في مجتمعهم، والمقاتلة التي حمت أولادها وربّتهم وعاشت لأجلهم.
صوّر فاتح أمه العديد من المرات، أكثر واقعية في البداية ثم ما لبثت أن دخلت الى مناخاته ذات التربيعات المبهمة هي وأهلها في السهول الحزينة والرائعة مع أشجار الجبال في خلفياته التي نشتمّ منها رائحة التراب المندّى. وسنقرأ خلف لوحاته عناوين مثل: «أهل أمي من الشمال السوري»، «قصص الجبال الشمالية»، «بنات كفرجنّة»، «نازة وفائة خالات أمي»، «أمي عايشو»، «سيدة جبل الحص».
في آخر أيامه ذهب فاتح الى بيته القديم متذكّراً أرجوحة كانت تجمعه مع أمّه في ليالي الصيف، قال لزوجته دون أن ينتظر تعليقاً، أنه يرغب في النوم على الأرجوحة. كان ذلك أواخر حزيران 1999، تماماً قبل أسبوع من رحيله.
سافر فاتح الى روما للدراسة العام 1954 مصطحباً أمه وزوجته وابنة خالته الصغيرة للعناية بزوجته الحامل، وهناك ولدت له «نجد» و«هيلفستيا».
«نجد» و«هيلفستيا» سيشكلان منذ الولادة ألماً كبيراً للمدرس بسبب الإعاقة التي تمنع التواصل، وحاجتهما الدائمة للرقابة، وسيتحول هذا الألم شيئاً فشيئاً الى دراما لها تجلّياتها الإبداعية. ولن نستطيع أن نفهم شخصياته التي تقف بمواجهتنا دون حراك بأيد مضمونة ومتعثّرة الظهور، متوازية وصامتة وتنضح بالألم دون معرفة القصّة.
وهي قصة رواها هو بوضوح أحياناً، وبالتباس كبير أحياناً أخرى، وقد اختلط في الروايات مع مرور الوقت ـ وخصوصاً بعد رحيلهما ـ ألم الفقد مع الحقيقة مع الحب مع ذكريات ابتعدت رويداً رويداً واتحدت بغبش الخيال.
وسيتحدّث المعلم كثيراً بعد ذلك عن عالم الطفل ورغبته العميقة والدائمة في الرسم من منظور الأطفال، وسيرسم أعمالاً ينشد فيها البراءة، ويحاول بوساطتها التخلّص من المعرفة المسبقة واكتشاف العالم دون أفكار جاهزة عنه.
تشكّل لوحته «أطفال العيد» المرسومة 1981 واحدة من النماذج المهمة في قراءة تأثير هذا الحدث الشخصي على حياته وفنّه. تتوسّط اللوحة أمّ حولها أربعة أطفال على خلفية من منظر خلوي. الأطفال هنا أيضاً رسموا مجابهة بأياد قصيرة مضمومة نحو الجسد، يعيشون سلاماً داخلياً كاملاً مع وضع معقّد في الحياة. جرّب المدرس تكويناً وخطوطاً وألواناً أفلتت من رقابة القصد المسبق ودخلت في عوالم دهشة الأطفال.
شكّل مرسم المدرس طوال عقود من السنين مناخاً شديد الخصوصية على صعيد حضوره الفني والإبداعي وعبر اللقاءات والحوارات وجلسات الصفا التي تجمع الدنيوي الى الفلسفي وعبق السهر. وقد جمع المرسم طوال تلك السنين أسماء لامعة ساهمت في حقول ثقافية مختلفة في النهضة السورية الحديثة والمعاصرة أيام أحلام التفتح والنهوض والحرية وتفاعلات الأفكار والفلسفات الكبرى وتصورات قرب زوال الفوارق الطبقية بين البشر وتحقيق العدالة الاجتماعية.
سنشاهد على حائط المرسم صورة للمدرس مع الفيلسوف الوجودي «جان بول سارتر» أخذت لهما في روما ويحمل فيها «سارتر» لوحات ملفوفة للمدرس.
كما سنقرأ على أوراق علّقها فاتح في أكثر من مكان على حيطان المرسم: المطر لا يهطل على الفقراء. في قلب كل ملاك قاتل محترف. قال الإله والآن سأخلق وحشاً لا مثيل له فكان الانسان، الفقراء ينتظرهم الله بفارغ الصبر (1). وهمس رئيس الملائكة لآدم بعد طرده من الجنة: لا تحزن.. اصنع عدالة جميلة وستعود.
أذكر المرة الأولى التي دخلت فيها المرسم العام 1977. طرقت الباب وجاء صوته من الداخل: «تفضل» قوياً وطويل المقطع تتراكم في الداخل لوحات بيضاء ولوحات قيد الرسم وشاسيهات وطاولات علت ظهورها الألوان الندية وأخرى جفت وعلاها غبار قديم رسوم خفيفة على الجدران رغيف خبز معلق رسم عليه وجه انسان، رائحة رطوبة نفاذة، وكتب على مكتبات حديدية وعلى المقاعد يختلط الحي النابض بسديم الزمن الذي يتكاثف مثل قطرات جافة على الأشياء. تتوهج عينا المدرس دائماً مثل مرايا كاشفة فتبدوان وسط ظلمة خفيفة تحيط بكل شيء بؤرة جذب مدهشة يملك فاتح حضوراً طاغياً وقوة روحية هائلة تنتقل مباشرة الى محدثة، رأيتها في المرة الأولى العام 1974 في قاعة كنا ندعوها «المظلة» بكلية الفنون الجميلة القديمة بدمشق، دخل فجأة يمسك بيده قلم رصاص وخاطبنا نحن طلاب السنة الأولى المقبولون في الكلية وكأنه يكمل حديثاً سابقاً: كنتم تستخدمون هذا القلم للكتابة واللعب والخربشة وبدءاً من الآن سيكون عليكم استخدامه للرسم، كان وقتها خمسينياً ممتلئاً وقد رافقناه منذ تلك اللحظة التي توقفت وتأطرت في ذهني واستطيع ان استعيدها كلما أمعن الزمن في اصطياد أيامنا وحتى لحظاته الأخيرة التي كانت فيها عيناه أيضاً، وأيضاً تملكان تلك القوة الروحية نفسها التي تدل دائماً على مدى غنى الحياة وتنوع تجاربها وغوصه الذي لا يكل فيها.
لن أقول ان فاتح المدرس كان أفضل أساتذتنا أكاديمياً فرغم انه كان يؤكد على اتقان الرسم الواقعي الشيء الذي لم يساهم فيه عملياً إلا أن أفضليته كانت تكمن في حقل آخر تماماً الحقل الذي كان فيه الأفضل والأصدق ويتجلى في بعدين أساسيين الأول كنس الغبار عن الدماغ وارتياد آفاق مجهولة دائماً، والثاني الولوج في اللوحة وعدم الخوف من اللون.
يملك فاتح المدرس كفنان ميزتين رئيسيتين: الأولى حساسية مدهشة والثانية اهتمام بقضايا الانسان.
الميزة الأولى دون الثانية يمكن ان تساعد الفنانين الجيدين للمناظر الطبيعية والطبيعة الصامتة والتجريديين المحضيين ورسامي البورتريهات والمواضيع العامة والمجربين للمواد والتقنيات.
أما الميزة الثانية دون الأولى فهي تساعد الفنانين غير المجيدين الذين جلبهم الهم العام فلم يلتفتوا الى جماليات الفن ولعبة التقنيات وحساسيات التصوير أو أولئك المنتسبين للأحزاب العقائدية في الترويج لمبادئهم أو الترويج عن قادتهم أو تمجيدهم أو إنصاف المظلومين وأولي السبيل أو الظفر بمنصب أو منفعة أو ثناء ما.
ولكن اجتماع الميزتين ينتج فناً عظيماً إذ تملك الحساسية ترمومتراً لا يخطئ أو لنقل من الصعب ان يخطئ يمتد من الاهتمام بتقنيات التصوير والمواد الى اللون الى اختراع التكوينات وهي تسهم الى جانب الاهتمام بالانسان الى الدخول للجوهري واقتفاء الرائع في العادي.
أهمية فاتح انه أدرك مبكراً جداً ان الفن نشاط ثقافي وليس عملاً حرفياً رغم البعد الحرفي فيه. وقد رأيته ينصب على لوحته انصباب الحرفي العنيد يكابدها وتكابده ينشئ أشكالاً وخطوطاً لا تلبث ان تغيب تحت ضربات ريشة لاحقة، لا تستطيع ان تميز في لحظة الخلق تلك المدرس عن أيّ صانع حقيقي متقن لعمله، ولكن لتلك اللحظة امتداداً في عمق الذاكرة وربطاً لا يتزعزع مع كل ما كونه كل ما قرأه وكل ما آمن وكفر به ولذلك تحمل لوحته ذلك الخلط المدهش بين البصري والتعبيري البصري الممتع في تجليات اللون ولعب التكوين وحساسيات السطح، والتعبيري الذي يركز على وضع الانسان في مواجهة الآخر ومواجهة مصيره في الكون والقدرة على طرح الأسئلة الكبرى المحيّرة والمعقدة حول الوجود والعدم. يقع سحر المدرس في كل ما يلمسه يزهو لديه الرمل مخلوطاً باللون متدرجاً من غنى في العجائن سميكة ومترعة وطازجة الى تدرجات من لون واحد شحيح ومتصوف.
لن يفلح المدرس في رسم أي شيء حتى المنظر الطبيعي دون ادخالنا في مناخاته النفسية، تختزن ذاكرته فصول قرى الشمال الجبلية والسهول على مد البصر وجبال الحرمون المقدسة، ولكننا لن نراها كلوحات تزيينية في صالونات «الكيتش» الراقية بل كطبيعة من لحم ودم وطين، كتراب مجبول برائحة المطر والزعتر البري وهموم البشر.
قبل ساعات من رحيله على سرير المشفى تأملت المعلم جالساً مواجهته في برهة حزينة وعاجزة ينم وجهه المغمض العينين عن سلام كامل في لحظة استسلام هادئة وفكرت في ذلك الكم الهائل من الأفكار والآراء والنظريات والصور والتجارب التي عبرت هذا الدماغ الذي ينطفئ نوره الآن منسحباً للمجهول وسمعت صوته حين تحدث عن أمه التي بحثت عنه طويلاً في الحقول الى أن أمسكت به وعضته بحنو الأم الغاضبة، يضحك وهو يروي الحكاية حتى تدمع عيناه: «تلك كانت أجمل عضات تلقيتها في حياتي» واكتشفت فجأة من نقطة جلوسي مواجهته ووجهه أبعد نقطة إلي بفمه المضموم وخطوط العينين التي يرسمها غالباً بالأسود قريبة جداً من الجبهة تكاد تلتصق بها أنه برسمه أمه التي أحب وأهل قرى طفولته وأصدقائه وأعدائه ومعاصريه ومجايليه انما كان يرسم أيضاً وخصوصاً وجهه تحت سماء غامضة ومواربة، واتذكر الآن صديقي الشاعر «نزيه أبو عفش» الذي قال: «فاتح المدرس ليس مسيحاً ليمشي فوق الماء.. انه قادر ـ في لحظة قنوط ما ـ أن يغرق في الصخر».
عصام درويش
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد