في معرّة النعمان.. حياة صفراء وأطفال بلا آباء
وهل تسع الأرض قسوة أن تفترش الأم وحيدة رصيفاً على باب مستشفى يرقد رضيعها فيه؟
أتمت ريماس يومها الأربعين في مستشفى الأطفال في دمشق، بعدما جاءت بها أمّها من معرة النعمان في ريف ادلب، إثر إصابتها بالتهاب كبد حاد، أو ما يُعرف بـ«اليرقان» بعد ولادتها بأيام.
أجرى لها الأطباء الفحوص اللازمة، وزوّدوها بالأدوية المتوفرة، لكن امرأةً شاء لها القدر أن تكون أمّها، حاصرها حظها العاثر في شوارع دمشق، وجدت نفسها من دون نقود، بعدما أنفقت كل ما بحوزتها ثمناً للتحاليل التي طلب المستشفى إجراءها في مختبرٍ خاص، إضافة إلى ثمن الأدوية، فافترشت الرصيف ونامت إلى جوار أنين صغيرتها.
تحكي والدة ريماس قصتها بفزع الغريبة. وتقول «تزوجت من ابن عمي قبل نحو عامٍ ونصف العام. كان يعمل مياوماً في ورشات البناء، لكنه أضحى من دون عمل منذ أن أصبح الهدم هو الحرفة الوحيدة في هذا البلد، سافر قبل أن ألد ببضعة أيام إلى تركيا ليبحث عن عمل بعدما ساءت الأوضاع المعيشية في الريف الادلبي بشكل كبير، وخاصة في المعرة. لم تعد هناك أي وسيلة لجلب ما يُسدّ به الرمق، لا زراعة ولا تجارة ولا حتى حرف بسيطة».
كانت السيّدة خائفة من التصريح بشكل مباشر أن ذاك الريف استحال إلى ما يشبه القفر، بعدما تركه شيبه وشبابه والتحقوا بركب «الثورة». كان همها أن تنجو طفلتها التي تركها والدها قبل أن ترى النور، غير آبهٍ بما سيحل بها وبأمّها من بعده.
وضعت الأم مولودتها في مستشفى ميداني، غابت عنه على ما يبدو أبسط أولويات النظافة والتعقيم والرعاية.
تستعيد والدة ريماس ألم ليلة إجراء «العملية القيصرية»، وتعترف بقهر الجريحة «كنت أصرخ وأتألم بعد الولادة، نمت على الكراسي، وخرجت في اليوم الثاني مباشرة، وما زالت نوبات الألم تصيبني من وقت إلى آخر».
الطبيب الذي أشرف على عملية الولادة أخبر الأم أن طفلتها بحالة جيدة ولا تعاني من شيء، لكن يبدو أن الأمر لم يكن كذلك على الإطلاق. فبعد أسبوع من ولادة ريماس بدأت أعراض التهاب الكبد تظهر عليها، وأخذ وجهها بالاصفرار بشكل مخيف، وبطنها بالانتفاخ. أخبرها أحد أطباء معرة النعمان أن الطفلة بحاجة إلى فحص الكبد و«خزعة» بشكل عاجل.
احتارت الأم في حالها، ووجدت نفسها وحيدة تماماً، مع غياب الزوج المعيل والأخ والجار والقريب، فاتخذت قراراً بالسفر إلى العاصمة، إلى حيث أخبروها أن هناك مستشفى يؤمّن علاج ابنتها بالمجان، وهذا ما كان لتجد تلك الأم نفسها، وعلى مدار ثمانية أيام بلياليها تفترش الطريق، وقلبها معلق بباب المستشفى الرئيسي حتى يسمح لها بالدخول لرؤية صغيرتها في الوقت المسموح للزيارة، إذ تمنع قوانين المستشفى مرافقة الأهل أطفالهم لأسباب وقائية، إلا في حالات خاصة.
الاتصالات الأرضية والخلوية شبه مقطوعة في المعرة، لكن أهالي المنطقة يتواصلون مع أبنائهم في تركيا عبر الانترنت. هكذا تواصلت أم ريماس مع زوجها بعدما سافر، فأخبرها أنه وجد عملاً وسيبقى في تركيا، وسيؤمّن لها ولطفلتها مكاناً ليعيشوا جميعاً فيه عندما يستقّر، ثم انقطعت أخباره تماماً.
تناظرك عينا تلك الأم التي احتفلت بعيد أمومتها الأول على الرصيف، فتجرحك مخالب القهر الذي تحمله في صوتها، وهي تبوح «أتمنى لو أنّه (زوجها) هنا، أنا أحتاجه جداً بجانبي، أشعر بالضعف كلما رأيت آباء الأطفال هنا إلى جانب زوجاتهنّ. أتمنى لو تنتهي الحرب ونعود إلى منازلنا، لا أريد أكثر من الحياة لابنتي».
إذا افترضنا أن للآباء الحرية في تقرير مصيرهم، هل من العدل أن يدفع الأبناء فواتير خطأ الحسابات؟
إذا كانت ريماس ستحيا وتسامح والدها على فرحة أمها المبتورة بها، وانكسارها وتشريدها على أرصفة الشوارع، فهل ستسامحه على كل هذا القبح الذي يحاصرها منذ يوم مولدها؟ هل ستسامحه على حرمانها من ضمة لم تذق دفئها أبداً، وعن أمان لا تعرف طعمه ولا معناه؟
سناء علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد