لماذا تزدهر إسبانيا بزراعتها ونجوع نحن؟ (حقائق وأرقام)
في ظل الارتفاع الجنوني لأسعار المواد الغذائية والمتطلبات الأساسية، تدور في الأذهان تساؤلات كثيرة تتمحور حول الأسباب الحقيقية لهذه المعضلة، منها: هل سيزداد الفقر في عالمنا العربي؟ هل سينتشر المرض؟ هل ستتهدد اقتصادياتنا النامية؟ هل سنموت جوعاً؟
مع خطورة الموضوع، قد تكون الإجابة بسيطة وبثلاثة حروف "نعم"، لأن كل المؤشرات تدل على أنه لا توجد جهود حقيقية لمواجهة المشكلة وكل ما يتم فعله هو الاكتفاء بتسكين آلام هذه الكارثة دون معالجة جوهرها.
فمن خلال تحليل سريع لهذه الظاهرة نجد أنها بنيوية، وليست ظاهرة طارئة تمر ضمن الدورة الاقتصادية التي تمر بكل دول العالم.
صحيح أن الاقتصاد العالمي ككل يعاني من هذه الظاهرة الآن ولكن الاقتصاد العربي يعاني من هذه المعضلة لأسباب أخرى أكثر خطورة.
وأهم هذه الأسباب يتمثل في "الجهل وتبعاته"، فهل يعقل أن تجوع أمة أغلب العاملين فيها مزارعون وعاملون في القطاع الاستهلاكي والخدمي؟ أليس من المفترض أن نكون دولاً مصدرة للغذاء بمختلف أنواعه الحيوانية والنباتية بدلاً من استيراد قوت يومنا من الخارج؟
ألا يجب علينا أن نتعلم من دروس الأمم الأخرى؟ فهذه إسبانيا التي كانت من أفقر دول الاتحاد الأوروبي نهضت باقتصادها دون التخلي عن الزراعة بل على العكس من ذلك عملت على دعم هذا القطاع وجعلته "فاتحة" لنهوضها في باقي القطاعات الاقتصادية، فالنجاحات الاقتصادية التي تحققت في ميادين الصناعة والبنوك والخدمات بنيت بشكل مترافق أو تابع للنهوض الزراعي، وبذلك تحولت إلى دولة تنتج أكثر مما ينتجه العالم العربي بكل دوله النفطية وغيرها، بل تنتج تقريبا ضعف ما ننتجه، فقد بلغ الدخل القومي لإسبانيا عام 2007 حوالى 1.4 ترليون دولار بينما لم يتجاوز الدخل القومي للعالم العربي (بما فيه الدول المصدر للنفط) أكثر من 0.8 ترليون دولار.
كل ذلك، على الرغم من أن أغلب دول العالم العربي دول مصدرة للنفط والغاز والثروات الطبيعية بينما إسبانيا دولة مستوردة للنفط والغاز والكثير من الثروات الطبيعية فهي تستورد كل يوم 1.72 مليون برميل نفط بينما تنتج الدول العربية أكثر من 21 مليون برميل نفط يوميا. وتستورد إسبانيا حوالي 31.76 مليار متر مكعب سنويا من الغاز بينما تنتج الدول العربية اكثر من 450 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً.
فإسبانيا دولة مصدرة للغذاء الزراعي والحيواني، إذ تنتج في هذا القطاع ما قيمته حوالي 80 مليار دولار بينما لا ينتج العالم العربي مجتمعاً أكثر من 70 مليار دولار، أضف إلى ذلك أننا نستورد المواد الغذائية بشكل يفوق انتاجنا أي لدينا فجوة غذائية تتزايد سنوياً. والشيء المثير للأسف أن مساحة إسبانيا نصف مليون كيلو متر مربع بينما مساحة العالم العربي 14.2 مليون كيلو متر مربع، أي (إسبانيا) تعادل تقريبا 3.5% من مساحة العالم العربي، وعدد سكانها 40 مليون نسمة بينما عدد السكان في العالم العربي تجاوز 300 مليون نسمة، مما يعني أننا نفوقها تعداداً بحوالي 7.5 مرات، وعدد الاسبان الذين يعملون (القوى العاملة) 22 مليون نسمة وعدد الذين يعملون في الزراعة 2 مليون نسمة ونسبة البطالة 7.6% بينما عدد العرب الذين يعملون (القوى العاملة) حوالي 111 مليون عامل وعدد الذين يعملون في الزراعة حوالي 37 مليون نسمة ولا توجد تقديرات دقيقة للبطالة في العالم العربي ولكن أكثر التوقعات تؤكد أن البطالة في طريقها إلى حوالي 20%.
أما أسباب ارتفاع أسعار السلع الغذائية عالميا تتثمل فيما يلي:
- انخفاض قيمة الدولار وبالتالي انخفاض قيم الكثير من العملات المرتبطة به وبالتالي ارتفاع أسعار السلع.
- ارتفاع أسعار النفط وبالتالي ارتفاع تكاليف انتاج السلع والخدمات حيث يظهر ذلك جلياً في أسواق الدول المستوردة للطاقة التي بدأت تعاني من ارتفاع الأسعار وهيجان التضخم.
- التحسن الاقتصادي في بعض الدول النامية التي تقود النمو في العالم مثل الصين والهند وجنوب شرق آسيا، مما يعني أن مستويات المعيشة تشهد تطوراً متصاعداً وبالتالي سينعكس ذلك على طبق الغذاء الذي سيتسع للمزيد من اللحوم والأسماك والحبوب والفاكهة بينما كان مقتصرا على حفنات قليلة من الأرز أو ما شابه ذلك، فهذا الطلب المتزايد من طبيعي أن يسهم في رفع أسعار السلع الغذائية.
- ظهور ميل دولي نحو الاعتماد على مصادر الطاقة البيولوجية التي تصنع من المواد الزراعية التي بدأت تزاحم وتنافس زراعة المواد الغذائية نظراً لجدواها الاقتصادية وسرعة مردودها. ففي ظل سياسات غربية لتخفيض أثر الانبعاثات على المناخ تم اعتماد خطط تتبنى زيادة استهلاك الطاقة النظيفة الناتجة عن مصادر زراعية، فبدأت سياسات الطاقة للدول الغنية تلتهم طبق قوت الفقراء.
كل هذه الأسباب لعبت أدواراً في زيادة الطلب على السلع الغذائية عالميا، وبالمقابل شهد العالم ترجعاً في انتاجه الزراعي لأسباب بيئية ومناخية، مما يعني أن ارتفاع الأسعار ظاهرة منطقية تواكب تطورات قوى العرض والطلب في السوق في ظل الدورة الاقتصادية التي يمر بها العالم من كساد إلى رواج وبالعكس بشكل دورات اقتصادية طبيعية.
أما في عالمنا العربي، فالوضع يبدو مختلفاً، فالأسباب الواردة أعلاه هي جزء من المعضلة التي تواجهنا ولكنها ليست كلها. المشكلة تكمن في الجهل وعدم الاكتراث بالمستقبل ويمكن توضيح ذلك كما يلي:
- عمدت كثير من الدول العربية إلى ايقاف الدعم عن المزارعين والصناعات المرتبطة بالزراعة عملاً بنصائح صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، على مبدأ، لماذا ندعم منتجا يمكننا شراؤه من الخارج بثمن أقل ؟.
للوهلة الاولى يبدو قرار رفع الدعم قراراً اقتصادياً صائباً سيما أن هناك تعهدا أمام هذه المؤسسات الدولية بالسير نحو اقتصاد السوق. ولكن لو أخذت الدول العربية مجموعة من الحقائق بعين الاعتبار لوجدت أنه من المعيب أن تمتنع عن دعم الرزاعة حسب "وصفة" صندوق النقد الدولي دون التفكير في سيادة قرارها بل ومصير شعبها. ومن هذه الحقائق التي لم تؤخذ بالاعتبار: أن أكثر من 40% يعملون في الزراعة ومشتقاتها.
إن العالم العربي بطبيعة الحال يعاني من بطالة خيالية، فهل نحن بحاجة إلى المزيد من البطالة؟ أليست الزراعة عصب اقتصاد عالمنا العربي؟ وبالتالي يعني دعم هذا القطاع دعم الاقتصاد ككل، لانه ما إن يعمل المزارع ويحصل على دخل سيتحول إلى عامل محفز يدعم الطلب على منتجات أخرى، أي أن الدعم لن يكون فقط للزراعة بل سيتوزع بشكل غير مباشر على باقي القطاعات، وسيسهم الدعم بدفع عملية التنمية بهذه الطريقة، على شرط ان يكون دعم الزراعة مدروسا اقتصادياً حيث يتم اقتناء منتجات محددة اذا ما قدم الدعم لها ستتحول مع الزمن إلى منتج مربح اقتصادي أو على الأقل أن تكون من السلع الاستراتيجية (القمح مثلا). ويجب أن تأخذ الدول العربية بعين الاعتبار أن نصائح تلك المؤسسات الدولية وخصوصا "وصفة صندوق النقد الدولي" هي مجرد نصائح وليست أوامر ولنا الحق أن نطبق ما يناسبنا ونهمل ما لا يخدمنا. فلماذا يجب على الدول العربية ايقاف الدعم بينما تستمر دول الاتحاد الاوروبي بدعم الزراعة. فهذه النصائح يجب أن لا تتحول إلى "وصفة للتبعية" بشكل أعمى.
- أكثر من خمسين عاما والعالم العربي يؤكد أنه سيتم دعم السودان لتتحول إلى مزرعة العالم العربي ولتكون "سلة غذائنا" والمصدر الاستراتيجي للموارد الزراعية والحيوانية، ولكن لم يتحقق من ذلك سوى المزيد من الوعود بينما استثمارات الدول العربية النفطية ستبلغ 2000 مليار دولار تستثمر في الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر أسوأ مكان للاستثمار في العالم في ظل انهيار عملتها. بينما لو تم استثمار 20 مليار دولار سنويا لمدة خمس سنوات في السودان التي تبلغ مساحتها 2.5 مليون كيلومتر مربع، أي ما يعادل خمس مرات مساحة اسبانيا، لتوقعنا انتاجا زراعيا يعادل على الأقل 100 مليار دولار سنويا (بعد خمس سنوات من بدء الاستثمار) وهذا أفضل من اي فرصة استثمارية خارج العالم العربي.
- إقامة مشاريع صناعية متممة للقطاع الزراعي، الكثير من الدول العربية غير قادرة على زيادة انتاجها الزراعي لانه في فترة المواسم يزداد الانتاج على العرض وينهار سعر السلع الزراعية مما يجعلها غير مجدية للاستثمار فيها. وجدير بالذكر أنه يوجد في دول الاتحاد الاوروبي صناعات رديفة تقام في المناطق الزراعية تتولى تصنيع هذه المحاصيل لتصبح سلعا تجارية ذات جدوى اقتصادية وبالتالي تحفز على المزيد من التوسع الزراعي.
- إقامة مشاريع للترويج والتسويق والتعبئة تتناسب ومتطلبات السوق الدولية، المنتج الزراعي العربي غير قادر على المنافسة لعدم تطابقه مع المواصفات الدولية. فبتوجيه استثمارات نحو هذه القطاعات سيتحول القطاع الزراعي إلى مصدر داعم للدخل القومي بدلا من بقائه معتمداً على الدعم.
- غالبا ما ينأى المستثمرون عن الاستثمار في القطاع الزراعي لما فيه من مخاطر تتعلق بالموسمية والطقس، فلابد أن تعمل الدول العربية على تشكيل صناديق استثمار تتخصص في الميدان الزراعي والحيواني.
- دعم القطاع الزراعي له أهداف أبعد من تأمين القوت اليومي فحسب، بل هو وسيلة لمواجهة التغير المناخي، فانتشار التصحر وارتفاع دراجات الحرارة وقلة الأمطار تعود إلى تقلص المساحات الخضراء.
- التغلب على أزمة قلة المياه، فبدلا من أن تنفق الدول النفطية المليارات على إقامة محطات نووية للحصول على الطاقة (بحجة أنها يوما ما ستتحول من دول مصدرة إلى مستوردة للطاقة)، الأولى بها أن توجه هذه المليارات المهدورة إلى مشاريع لتحلية مياه البحر وتنقية الانهار وإقامة شبكات ري حديثة والاستثمار في مجال البحث الزراعي واستنباط نباتات تتأقلم مع مناخنا والعمل بهذه الطريقة سيحد من التصحر وسيحول الكثير من الزراعات في الدول العربية من مرحلة الدعم إلى مرحلة المنافسة. وذلك لأن أحد أهم أسباب ارتفاع التكلفة للمنتجات الزراعية هو تكلفة تأمين مياه الري. أما قضية تأمين مصادر بديلة للطاقة التي بدأت تنضب، فهي واضحة وضوح الشمس. عالمنا العربي ينعم بنعمة الشمس التي تسطع أكثر من 80% من أيام السنة (يعتبر العالم العربي من أكثر مناطق العالم عرضة للشمس)، فلماذا هدر الأموال في الطاقة النووية وعدم الاستثمار في الطاقة الشمسية الرخيصة؟ هل القضية تحتاج أمراً اوضح من الشمس؟
إن ارتفاع الأسعار مؤخراً قد فتح الباب أمام التفكير والبحث من جديد حول قضية الأمن الغذائي لعالمنا العربي والتساؤل هل ننتج من الغذاء ما نستهلكه؟ فهل نحن أمة تأكل مما تزرع وتلبس مما تصنع؟ هل "أمننا الغذائي" آمن؟ ما هي الفجوة الغذائية التي تواجهنا؟ وما هو مستقبلها؟
إن استهلاك العالم العربي من سلع غذائية يفوق انتاجه (الفجوة الغذائية) بمقدار يتراوح بين 15-20 مليار دولار سنوياً. ويتوقع بعض الباحثين أن يصل إلى 50 مليار في عام 2040. فإذا ما استمر الوضع على ما هو عليه الآن سيكون الفقر والجوع في انتظار الأجيال القادمة وإرثا ثقيلا نتركه لهم في وقت لن تكون هناك ثروات كافية من النفط أو الغاز ولا استثمارات عربية لا في الخارج ولا في الداخل. فحتمية جوع الأجيال القادمة قائمة على جهل الأجيال الحالية.
لنجعل من مشكلة ارتفاع الأسعار منبهاً ومحرضاً لعلاج جوهر المرض وعدم الاكتفاء بالمسكنات، فهذه الأزمة هي نعمة لنا في حال أيقظت إحساسنا بالخطر وحرضتنا على عدم التخلي عن القطاع الزراعي من منطلق أننا أمة زراعية، فإذا لم نعمل بالزراعة فماذا سنعمل؟
وليتذكر كل من يعتبر الزراعة في العالم العربي عبئاً على الاقتصاد وكل من يدعي أنه يوجد الكثير من العقبات تحول دون تحول الزراعة إلى قطاع مربح اقتصادي أن إسبانيا تعاني كما هو الحال في العالم العربي من أزمة مياه ولديها مساحة من أراضيها جافة ومناخها حار نسبيا وسكانها على قلتهم لا يختلفون عن شعوبنا في الكثير من العادات والقيم (نسبة كبيرة من الإسبان لهم جذور عربية) فما هو مبرر تفوقهم علينا؟؟
الاجابة أننا نجوع بسبب جهلنا وليس بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية. وهذا الارتفاع ليس إلا نعمة إذا دفعنا إلى التفكير بمستقبلنا قبل أن نصبح أمة تجوع لجهلها.
غسان إبراهيم
المصدر: صحيفة «العرب الأسبوعي»
إضافة تعليق جديد