محمد مظلوم: عصر الانحطاط تسمية تليق بعصرنا
عمل محمد مظلوم (بغداد - 1963-) طويلاً على بحوثه ودراساته المضنية؛ منقباً في بطون الكتب وركام المكتبات العربية المنسية؛ للتعريف بتجارب أدبية ونقدية عديدة انتشلها من غياهب التراث العربي؛ إضافةً لما حققه الشاعر العراقي في مجال تحقيق كتب عديدة عن أدباء العراق وكتابه وبهاليله؛ فمظلوم المتخرّج من قسم الدراسات الإسلامية في كلية الشريعة ببغداد عام 1987؛ وبعد تدريسه اللغة العربية بكردستان العراق؛ غادر إلى دمشق عبر نهر الخابور عام 1991 ولا يزال مقيماً فيها حتى اليوم. كتبه أضافت حضوراً آخر للمكتبة العربية المعاصرة التي يسعى هذا الرجل إلى ترميمها باستمرار؛ مصدراً مؤخراً كتابه الشعري الآسر «معلّقة دمشق- دار نينوى» وكتابه الضخم «ديوان رثاء الزوجات- الجمل» مفتتحاً سِفر الرثاء الكوني بين النعش والسرير.
عن هذا وكله التقت السفير الثقافي الشاعر مظلوم وكان معه الحوار الآتي:
^ برأيكَ إلى أي مدى اليوم يمكن للباحث العربي معتمداً على جهوده الفردية أن يردم الهوة التي تركتها المؤسسة الثقافية العربية؟
نحن في عصر الشاعر الملفَّق، بحجة الفطرية! شعراء يكتفون بقراءة المجلات المنوعة والصحف اليومية، وبعض الكتب الخفيفة، ويكتبون قصائد أكثر خفَّة، ليس ثمة جهد حقيقي، وإخلاص تام للشعر وقضاياه، كل شاعر حقيقي ينبغي أن يكون له مشروعه في إعادة اكتشاف التجارب المضيئة في التراث، وإعادة مراجعة تاريخ القصيدة، وإلقاء ضوء جديد على التجارب المطمورة والمغفلة.. قديماً كان المعري، وأبو تمام والشريف الرضي وسواهم، وحديثاً فعل أدونيس الشيء ذاته، هؤلاء أفراد، لكن جهودهم تضاهي جهود مؤسسات. فقدموا لنا مختارات ودراسات عبرت عن ثقافتهم وأذواقهم الرفيعة، وكانت تلك الكتب الموازية لعطائهم الشعري، تكشف عن جانب من مصادرهم، وتكوينهم الثقافي، وتمنح الناقد والقارئ مقتربات إضافية لمقاربة أشعارهم على وفق تلك المعطيات القرائية.
^ نفهم أن اشتغالك على تحقيق كتب التراث والدراسات تجاري مشروعكَ الشعري؟
بهذا المعنى نعم؛ فإن كتبي الموازية لإصداراتي الشعرية، لا تبتعد كثيراً عن مشروعي الشخصي، بل أرى أنها في صميمه وجزء حيوي منه، فكل قراءة جديدة تنطوي على تأويل مختلف، هي نوع من الكتابة الأخرى، والشعراء الذي أقرأهم أو أعيد اكتشافهم يصبحون جزءاً من تاريخي الثقافي الشخصي، وهنا أؤكد أنني أسعى في تلك المختارات والدراسات، إلى إعادة الهيبة المفقودة للشعر في عصرنا بفعل تلك التلفيقات التي أشرتُ إليها، من خلال استحضار النماذج الخلاقة والمغايرة في تاريخ القصيدة العربية، لإدانة الرداءة والركام الذي يتعمَّد نسيانها لتقزيم مشهد الشعر العربي بما يتناسب مع القامات الخفيضة!
وعي جديد
هل من سبيل اليوم لصياغة مكتبة عربية قادرة على تكوين وعي جديد وجذري حيال التراث العربي المفقود؛ والمغيب؛ لا سيما ما يتعلق بمؤلفات الصوفيين والعرفانيين الذين همشّهم بلاط السلطان العربي وحاشيته القديمة الجديدة؟
هذا ما أحاوله في جانب من تلك الجهود، فقد قدَّمتُ مختارات من شعر الصعاليك، بوصفهم فئة منشقَّة ومتمرِّدة في الوعي التقليدي العربي، للقبيلة فالدولة فالأمبراطورية، والمجتمع.
أعمل منذ مدة على مشروع ضخم يندرج في السياق نفسه وبتكثيف أوضح، هو موسوعة عن أشعار الشعراء المغتالين، أولئك الذين اغتيلوا لأسباب مختلفة تتعلق أغلبها بوعيهم المغاير، وآرائهم التنويرية، ومواقفهم الجذرية تجاه السلطة.
بين يدي حتى الآن أكثر من خمسمئة أسم لشعراء اغتيلوا في عصور مختلفة من التاريخ العربي، واللافت أن كثيرين منهم تعرضوا لما أسميه الاغتيال المزدوج، فهناك من أُحرقَ مع كتبه في تنوُّر واحد، وهناك من ضاعت أشعاره ولم يدوَّن منها سوى أبيات، وهناك شعراء في مقتبل أعمارهم وبواكير تجاربهم، فلم يستمر عطاؤهم الشعري.
^ «رثاء الزوجات» كتابكَ الذي عملت عليه منذ عام 2008 يمتد من العصر السومري إلى قصيدة النثر، واعتمدت في تحقيقه على كتابَيْ: «التعازي والمراثي» للمبرد، و «المرثاة الغزلية» لعناد غزوان..هل ساعدكَ هذا الكتاب في تجاوز محنة المنفى وفقدانكَ زوجتكَ وتوأمكَ أثناء الولادة؟
كانت تجربة الفقدان تلك قاسية كما تعرف، ولم تكن كل التعازي من حولي بكافية لترميم خراب فادح حل بروحي، فلجأت إلى العصور السحيقة، متماهياً مع تجارب أخرى واجه أصحابها هذه التجربة الفجائعية، فحشدت الشعراء من شتى العصور، لأشركهم في التأبين الصعب، إضافة إلى ذلك فإنَّ رثاء المرأة ينظر له على إنه نوع من الضعف «الذكوري» لهذا أردت إقلاق هذه الفكرة المزعومة ودحضها فأوردت نماذج لمرثيات كتبها أنبياء وأئمة وخلفاء وملوك وأمراء في رثاء زوجاتهم. شعرت بنوع من التشارك التفاعلي مع تلك النماذج، وفي الوقت نفسه، أسهمت تلك الأنطولوجيا في خلق حالة من «التطهير» الذاتي، فحتى الجحيم يكون أحياناً نوعاً من ذلك التطهير، مثلما يحتاج الذهب إلى حرارة زائدة تذيب من حوله العناصر الأخرى، ليشتدَّ لمعانه، بهذا المعنى كان «رثاء الزوجات» كتاب استشفاء إلى جانب مرثيتي الشخصية في «كتاب فاطمة».
معلقة دمشق
^ في كتابكَ الشعري الجديد «معلّقة دمشق» تلجأ إلى دمج مقاطع مختلفة ووفق أشكال وزنية متعددة، متدرجاً من قصيدة النثر إلى الشعر العمودي..مستعيداً أسطورة الطوفان ونزول نوح بين حران ودمشق؟ هل يعكس ذلك عدم إشباعكَ شعرياً من شكلٍ فني واحد؟
في أغلب كتبي الشعرية، حرصت على تجاور الأشكال الشعرية، وتداخلها ضمن فهم شخصي لخلق قصيدة مركّبة، تتسم بالملحمية وتعدّد الأصوات، لأنني أدرك أن الشكل الأحادي قد يجعل أية قصيدة طويلة عرضة للحشو والإطناب والتراكم الكمي، كما أنني حرصت وأنا أكتب عن مدينة كدمشق، على أن أعكس المشهد الفسيفسائي لتكوينها الأهلي والتاريخي، كان ذلك التنوع والتعدد في الأشكال الشعرية، من نثر وتفعيلة وموشح وعمودي، في تناوب مقصود، جزءا حيوياً من البناء الفني والمضموني للقصيدة. أما الأساطير، فهي الجانب الآخر في الصورة الكلية للشام، ولحظتها الراهنة غير معزولة عن ذلك البعد الخفي الذي أرى أنه يخرج المدينة من زمنيتها الفيزيائية، إلى أزليتها الكونية. والقصيدة بمجملها هي تأرجح مقصود بين هذين الحدين البعيدين بل المتنافرين.
تقيم في دمشق منذ سنوات، ولم تغادرها برغم الحرب التي تدخل اليوم عامها الخامس..هل يعكس ذلكَ علاقة خاصة بهذه المدينة، أم أن بغداد تغيرت هي الأخرى بعد السقوط المدوي للنخب إبان الغزو الأميركي؟
لقد جئتُ من بغداد قبل ربع قرن هارباً إلى دمشق، فوجدت بها حنواً وألفة، وهي تنفض عن روحي غبار الحروب، لذلك لا أجد من الفروسية والنبل أن أتركها وهي في غبار حروبها. لقد عقدت حلفَ محبَّة مع المدينة، واللافت أنني لم أكتب عنها طيلة ربع قرن من إقامتي فيها، إلا وهي في محنتها! يبدو أنني شاعر كوارث! أزدهر في الحروب والكوابيس!
هذا ما يتعلق بدمشق، أما بغداد فقد كتبت مرثيتي المبكرة لها في «أندلس لبغداد» وصدرت عام 2002 أي قبل عام من احتلالها، وكنت أرى مصيرها بالتفاصيل الصغيرة. على العموم، كل طرق الهروب أصبحت الآن مزروعة بألغام حروب وتيه عربي أين منه التيه التوراتي. لم يعد يستهويني الهروب، فقد عبرت الفرات مرة ولم أجد أندلساً خلف النهر! وعليَّ أن أنشئ «أندلس» الكتابة.
كيف ترى اليوم إلى المشهد الثقافي العراقي لا سيما في ظل صمت المثقفين هناك ومعهم المثقفون العرب إزاء ما تقوم به (داعش) من إبادة للإنسان وآثاره في الموصل ومدينة نمرود الأثرية وسواها؟
سميت الفترة التي تلت سقوط بغداد على يد المغول، بالفترة المظلمة أو عصر الانحطاط، وهي تسمية جزافية، وهي أليق بعصرنا! فالواقع أن سقوط الخلافة، لم يكن متوازياً تماماً مع انحطاط ثقافي، بل ربما العكس، لقد كانت فترة تحول ونكهة جديدة في الثقافة العربية، كما أن سقوط بغداد في وقتها، أدى إلى نشوء مراكز ثقافية جديدة في الشام ومصر. أما بعد الاحتلال الأميركي العراق، سقطت الدكتاتورية، لكنها أسقطت معها الدولة، وأجهزت على ما تبقى من هامش «ثقافي» لم يندرج في ثقافة الطاعة.
نحن نتحدث هنا عن تدمير الآثار، لكننا في الواقع ننسى أن البشر المرتبطين بتلك الحضارات القديمة، كانت تجري تصفيتهم بانتظام حتى قبل مجيء داعش.. آلاف الكلدانيين والآشوريين من مسيحيي العراق أخلوا حواضرهم، أمام موجات العنف المتعاقبة، وبفعل الصراع السياسي على «أراض متنازع عليها» في لعبة الديموغرافيا التي لا تخلو من عنف ونزعة تطهير. وتهجير وإحلال.
^ إذن نحن نتحدث عن فترة انحطاط نموذجية متعددة الأطراف؟
أجل؛ الثقافة العراقية لم تكن يوماً بهذه الصورة المريعة، حتى وصلت المفارقة المحزنة، إلى صياغة تلك المفاضلة الموجعة بين حقبة الديكتاتورية وزمن الاحتلال! هذه المفاضلة العراقية، سنجدها وقد تحولت إلى بدعة جديدة، تستهوي الباحثين عن برابرة جدد، وهم يعيدون صياغتها في ربيع مزعوم!
وهكذا فإنَّ الانحطاط الواضح في الثقافة العراقية، انتقلت عدواه بسرعة، في جائحة فتاكة، لتشمل مشهد الثقافة العربية برمته.. وفي الواقع نحن نعيش عصر الانحطاط الحقيقي في الثقافة العربية، وهي التسمية المناسبة التي حان لها أن تنتقل من القرون الوسطى لتوصيف ألفيتنا الثالثة.
سامر محمد اسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد