معرض أحمد معلا: حشود في لجة العاصفة
انتبه، فما تراه في لوحات أحمد معلا الجديدة، ليس مسرحاً إغريقياً، وهذه الأجساد المتلاصقة والمتجاورة بأقنعتها ورعبها وفزعها، ليست فصلاً من جحيم دانتي،أو حفلة إبادة جماعية.
على بعد خطوات هناك من يتمسك بخشبة خلاص وسط أمواج بحر متلاطم، هؤلاء، ربما خرجوا من أوديسة هوميروس، بعد رحلة تيه مضنية. ولكن ماذا يجري تماماً في جداريات أحمد معلا في معرضه الجديد في صالة«آرت هاوس» الدمشقية؟
حشود بشرية في لجة العاصفة، كما لو أنها هاربة من حريق أو زلزال أو لعنة إلهية، نساء مسربلات بالألم والفجيعة في مسرح كوني، ورجال بلا ملامح يكتبون مراثي الحياة، في حركة لولبية مستمرة ومحتدمة بالتحولات، فهذا الملوّن لا يقف في منطقة تشكيلية صريحة، فهو ليس تعبيرياً صرفاً أو واقعياً ولا حتى تشخيصياً. تجربته مغامرة مستمرة ، تستمد موضوعاتها من مرجعيات متعددة، ألم يصغ ، قبل سنوات، نص سعدالله ونوس «طقوس الإشارات والتحولات» بالأبيض والأسود بكل فجائعيته وانكساراته، وإذا به يصبغ الجدران بالأسود، ويفرش أرضية الصالة بالزفت ليدخلك في مهب الرعب ، وكذلك رسم ملصقاً صارخاً عن «النساء والحرب»، ورؤية تشكيلية لنص ونوس الإشكالي «مغامرة رأس المملوك جابر». هذا فنان يسعى إلى تفجير الأسئلة الغريزية الأولى بكل طاقته وتمرده وفوضاه ، أسئلة الجسد والعقل،الخصب والفناء، الأمل والعدم، بضربات ريشة نزقة تطيح التفاصيل والملامح ، لتحيل الكتل إلى مسوخ أو ملائكة، فيشكلّ مسرحاً افتراضياً في سينوغرافيا تضيء حركة المجاميع في حركيتها التراجيدية نحو قدرها المحتوم، ومصائرها الغامضة. هكذا تحتشد السطوح بمناخات مشحونة بغنى حركي ودرامي يشي بكارثة أو مأتم،أو عرس، على خلفية غرافيكية صارمة، في نزهة لونية تتناوبها طقوس الألم والفرح، وتكوينات طربية يتحكم بها الضوء والظل من منظور جمالي مغاير، يبرر رحابة المساحة. هذا التعبير المشهدي ينسحب على كل مقترحات معلا الجديدة، حتى تلك التي تختزل المجاميع إلى ثنائيات متجاورة أو متنافرة، بقسوتها وشفافيتها، وتوترها وتمردها،وحوارياتها المضمرة. لكن هذه العجائن في شكلها النهائي تخضع إلى تصورات ميتافيزيقية عن الحياة والموت، ما يكشف عن حيرة وجودية لدى هذا الفنان، خصوصاً حين يمنح بعض أشكاله المتطاولة ملامح حسيّة ورغبات في تجاوز برزخ الجحيم إلى مطهر دنيوي، للتمرد على أقدارها. في جداريته البحرية الغارقة في الأخضر، تتجاذب عشرات الأجساد أرواحها من غرق محتّم ، كما لو أنها في سفينة نوح تواجه الطوفان، وهنا على وجه التحديد، تتوضح مقدرة معلا على التحكّم بخطوطه وألوانه ومشهدياته الضخمة، ما يحيل مرة أخرى إلى محاولته المزج بين ما هو ذهني ميتافيزيقي ، وحسي دنيوي في ملامح تزيينية تراوده خلال اللمسات اللونية المبهجة. ولعل اللافت في أعمال معلا الجديدة، تلك الخلائط اللونية الداكنة، وخصوصاً البني المحروق، ما يمنح المتلقي ذاكرة أخرى تحيله إلى أجواء مختبر عصر النهضة الأوروبية، وكأنه بإعادة الأسئلة القديمة، يسعى إلى تحقيق رغبة دفينة في نسف تاريخية الفن وحقبه المتعاقبة وخلخلة إيقاعه العمودي، ووضعه في وعاء واحد ، تبعاً لتطلعاته وهواجسه الشخصية وفوضاه في رسم خريطة تمزج التضاريس على سطح واحد. هذه التطلعات، ليست جديدة،على أية حال، في محترف هذا الفنان، فهي بشكل ما ، استمرار لمشاغل قديمة، وتجارب تخفت وتحتدم بين عمل وآخر، من دون إهمال مغامرته في التجريب المستمر، سواء لجهة الموضوعات،أم لجهة الخلائط والأصباغ التي يركبها في مختبره اللوني، وهي في الغالب مواد محلية خاصة، كما علينا أن نتذكر هيمنة اختصاص أحمد معلا في الاتصالات البصرية، على مشاغله الجمالية والغرافيكية، مايقود لوحته بالضرورة إلى صبغة إعلانية،على رغم محاولته محو الأثر في مرثياته وشهواته التجريبية ورهاناته على قوة الضوء في ختم رؤاه البصرية.
المصدر: تشرين
إقرأ أيضاً:
إضافة تعليق جديد