من يذكر عبد الرحمن خليفاوي
بعد الاسم لا تعرف أين سيأخذك الحوار,وحول أي مقعد ستتكلم المالية أم الداخلية أم المحافظة أم رئاسة الوزارة أم مشروعه الذي وصفه بالمعجزة.
اللواء عبد الرحمن خليفاوي رئيساً سابقاً للوزارة متحدثاً عن أحلامه ورؤيته حول العمل والمنصب والمشروع الحلم في مكافحة السرطان بعد أن أمضى سنين طويلة وهو يقارع قسوة المرض فقال:
خلال تجربتي بالحياة, اتيحت لي ظروف كثيرة, شغلت فيها كل ما يخطر من أعمال ومناصب, ودخلت الحياة العملية منذ أن كان عمري عشر سنوات ,لأنني كنت معيلاً لأسرتي الفقيرة,فكنت أعمل الى جانب الدراسة,وبعد حصولي على شهادة الكفاءة, اتيحت لي ظروف وتعينت بالدولة معلماً بأقصى الشمال بقرية اسمها (تل الرماد) بعدها تقدمت للمسابقة التي أقامتها وزارة المالية لتيعين محاسبين,وكنت الناجح الوحيد بين ال45 متقدماً مع أن ؟أغلبهم كان يحمل شهادة الثانوية كان ذلك في عام 1945 حيث تعينت بمنطقة تدعى (عين العرب).
فتحت لي بعدها العديد من المجالات,نتيجة لجهدي وعملي, فنقلت من عين العرب الى مديرية المراقبة والموازنة في وزارة المالية,التي كانت تضم في تلك الأيام عباقرة المالية مثل (عزت الطرابلسي,ورفيق السوفي.. وغيرهم) هذا الأمر شجعني على متابعة دراستي,فحصلت على شهادة البكلوريا وبتفوق وأنا في وزارة المالية في عام 1948 بعدها صدر قرار بايفادي الى بلجيكا لمدة ست سنوات لدراسة اختصاص (مصارف اصدار) وتعني حالياً المصرف المركزي...
ولكن الوضع السياسي الذي كان موجوداً حينها حيث حرب ال48 كان الشغل الشاغل للجميع فدفعني الحماس للالتحاق بالكلية العسكرية رغم صدور قرار الايفاد.
وبعد عامين من التخرج تم ايفادي الى فرنسا ثم الى الاتحاد السوفييتي وخضعت لدورة أركان حرب ومهندس حربي ميكانيكي ثم خضعت لدورة قيادة عليا,بعدها استلمت (محافظ درعا) لمدة سنة, و(محافظ حماة) لمدة سنة أيضاً.
ومن المحافظة الى القاهرة حيث استلمت شعبة الاستخبارات لمدة خمس سنوات هذه التجربة الفنية كانت سبباً لاستلامي مديراً ادارياً لشؤون الضباط في سورية ثم أوكل إلي تقييم معركة حزيران ومحاسبة المتخاذلين والهاربين من المعركة.
في كل تنقلاتي والأماكن التي عملت بها,كان لدي ايمان كبير بالمتابعة والصبر والتصميم على كل شيء أفكر بإنجازه أو القيام به,وكانت حكمتي (كن مع الله ولا تبالي) فكان الفشل يدفعني للنجاح .
ولم أكن أقبل في كل حياتي الطرق الملتوية,فكانت لي دائماً استقلاليتي الذاتية وشعوري الكبير بهذا الوطن,الذي يشبه حماس الشباب في المرحلة الاعدادية.
نشأت في أسرة ليس فيها انسجام عائلي,كان والدي منفصلاً عن والدتي,عشت مع والدتي التي أصرت علي تعليمي رغم أنها أمية,ورغم الظروف المادية والاجتماعية التي كنا نعيشها,فكانت الدافع الأساسي بالنسبة لي في الصبر والعمل,فهي لم تكن تشبه سيدات اليوم.
وبالنسبة لوالدي,فلم يترك لي بعد وفاته سوى ديون للمصرف الزراعي بقيت خمس سنوات في تسديدها.
أما زوجتي فقد كانت سيدة فاضلة,تنسجم مع طباعي,وكانت تشرف على تربية الأولاد بمفردها باعتبار أن عملي كان يستغرق 20 ساعة في اليوم فكان يذهب معظم وقتي للعمل وما زال هذا الطبع يلازمني حتى أيام العطل.
فلا أستطيع الجلوس في البيت دون عمل (أهتم بالمزروعات وارتب المكتبة) حبي للعمل يدفعني أحياناً لتوجيه اللوم الى ابني الأصغر عندما أراه جالساً في وقت يجب أن يعمل به...
لو أعيدت الحياة من جديد,ما كنت لأغش,أو لأخدع كما خدعت ولو اعيدت الحياة لكنت سأستمر بمبدئي لكن بأسلوب اخر , والكثيرون يعرفون اسلوبي وطريقتي في العمل والتي تختلف عن الآخرين فلم تكن عندي حلول وسط أو حلول مجزأة والذي يخطئ أو يفسد كنت أقصي رقبته حتى لو كان أقرب الناس مني.
لا أستطيع وصف مشاعري,لأنني بالأساس لا أحب الصدارة ولست مغروراً بالوجاهة,لذلك فإن المنصب لم يكن يعني لي شيئاً سوى المزيد من العمل,وحتى أولادي وزوجتي لم يكونوا يشعرون متى أصبحت رئيساً للوزارة,أو متى تركت,لأن حياتي في البيت لم تختلف فزوجتي هي التي تطبخ وتنظف وتكوي,وأولادي لم يذهبوا يوماً بسيارات الدولة بل عاشوا حياة عادية جداً يذهبون الى مدارسهم القريبة مشياً ومن منهم مكانه بعيد يذهب بالباص حتى عندما استلمت رئيساً للوزارة لم يتغير الوضع بالنسبة لعائلتي ونحن بشكل عام لا نحب الظهور في المطاعم, وعندما أكون مجبراً على بعض الدعوات بحكم القيام بعملي كنت أدعو الوفود الى منزلي.
وبالامكان سؤال الآخرين عن أولادي وعن تربيتهم وقناعاتهم ابنتي ندى,تعمل في شركة الفرات وتحمل اجازة باللغة الانكليزية وابني أحمد طبيب عيون له شهرته وابني الثالث مخرجاً في قناة الجزيرة أما ابني الأصغر طارق يحب العمل في الزراعة .
وعائلتي هادئة ليس فيها ضجيج السهرات أو الحفلات أو المطاعم,ومنزلنا ليس فيه مظاهر الثراء أو العظمة التي قد يتوقعها البعض لشخص شغل كل هذه المناصب.
عندما كنت صغيراً كان عندي تفكيري المشابه لتفكير أغلبية أبناء جيلي وهو موضوع الاستقلال من الاحتلال الفرنسي,فكانت المظاهرات في المدارس ثم انشغالنا بحرب ال48 وبعدها الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ثم ثورة الجزائر..الخ.
لم نكن حينها نفكر ماذا سنصبح في المستقبل ولم تكن أحلامنا تشبه أحلام هذا الجيل (سيارة بيت فخم ترف تسوق) فهذه الأحلام لم تراودنا وأنا عشت بالجبهة فترة طويلة,لم أكن افكر حينها بأمور شخصية, كأن أملك بيتا مثلاً, بل كنت أستدين كما الحال لدى زملائي للنزول في اجازة لزيارة أهلي.
أهم مشروع نفذته في حياتي,وليس من أجل الافتخار به,بل ارضاء لربي وضميري وللانسان,هو (مجمع الشام الطبي لمكافحة السرطان) وهو مشروع الجمعية الأول الذي وضع حجر الأساس له عام .1977
وسبب اختياري لهذا المشروع هو اصراري على الحياة,ليس حباً فيها,بل تحد للأطباء الذين اعتبروا أنفسهم مؤهلين لتقرير حياة الانسان,فمنذ 35 سنة شخص الأطباء بأنني مصاب بالسرطان,وأكدوا بأنني لن أعيش أكثر من اسبوع واحد.
وفي ذلك الوقت كان هناك مجموعة من الأشخاص يهمهم الاساءة لخليفاوي لأنه كان عقبة في طريق مفاسدهم,باستقامته وعفته,فتلقفوا الخبر من الأطباء,وأخذوا ينشرونه بين الناس,وجاء أحدهم الى مكتبي (حينها كنت رئيساً للوزارة) وقال لي: لم يبق لك في الحياة إلا اسبوعاً واحداً أنصحك أن تترك الوزارة وتذهب لتمضي ماتبقى لك من أيام بين أطفالك الصغار.
هذا الكلام جعل عندي حافزاً لمقاومة المرض وللسير في هذا المشروع والحق أنني خلال مرضي كنت أعاني الألم,لكن لم يكن يهمني سوى ما يعنيه أهل بيتي,ولا أنسى عندما كنت أدخل المنزل وأرى الدمعة في عيون زوجتي,لا تفارقها والحزن مخيم على أولادي,الذي كان أكبرهم الدكتور أحمد حالياً,اذ كان عمره سبع سنوات.
ولأنني أعرف ما الذي يعانيه الناس عندما يكون لديهم مصاب بالسرطان من ضيق مادي ونفسي واجتماعي ولأنني من عائلة متوسطة الحال ولم أكن أملك ثمن العلاج,فتعالجت على نفقة الدولة كان لا بد أن أسير لتنفيذ هذا المشروع بكل طاقتي.
وأنا أعتبره معجزة نتيجة للظروف والعراقيل والصعوبات والازعاجات التي تعرضت لها أثناء تنفيذه وأيضاً هو معجزة لأنه الأول من نوعه في المنطقة في تشخيص ومعالجة الأورام.
وللأسف كان هناك من يحارب حتى التبرعات التي تأتي للمشروع بقولهم أنه حلم فهل تتبرعون من أجل حلم لن يتحقق.
لكنني كنت طوال الوقت أعلم أن الاستمرار بالمشروع يحتاج للثقة بالناس والعمل المتواصل,والآن هو على أتمه ولا ينقصه سوى أمور بسيطة أتابع انجازها مع أنني طبياً وصحياً أعاني واشكو من أمراض كثيرة لكن عقلي لا يزال يعمل بأقصى درجاته.
ميساء الجردي
المصدر: الثورة
إضافة تعليق جديد