هل ما زال العقل البشري مرتبطًا بالأسطورة؟
اعتُبرت الأسطورة أساس خلق كل شيء في العلوم الفلسفيَّة، واعتمدت أغلب الشعوب حول العالم على تفسير الغامض والمجهول من خلالها، كنوعٍ من اتِّكاءٍ على مجهولٍ أكبر، وتفسير الغامض بالغامض، ما أدَّى في نهاية المطاف إلى تثبيت بعض تلك التفاسير حتَّى بعد تطوّر العلوم والتقنيَّات بأنواعها. ورغم العلاقة المعقَّدة بين الأسطورة والعقل والتفسير المنطقي، بيد أنَّ العلوم والتكنولوجيا بأشكالها المختلفة حاولت أن تفكّ هذا الاشتباك، عبر تقديم تفاسير مثبتةٍ بالدلائل والبراهين القويَّة.
سنتعرّف في هذا المقال على الأسطورة كمكوِّنٍ للعالَم حتّى يومنا هذا رغم تطوّر العلم، وعلى منهجيَّة التفكير الأسطوري ومقارنته بالمنهج العلمي البرهانيّ.
الأسطورة
تعدّدت تعريفات الأسطورةِ وتفسيراتها، بيد أنَّ الأغلبيَّة تقسِّم هذه المفردة إلى تقسيماتٍ عدَّة، فلغويَّاً تأتي بمعنى سطَّر، أي دوَّن وكتب من الخيال، فيما تتقاطع المفردة مع أخرى منتشرة في الإرث الشعبيّ والذاكرة الجمعيَّة وهي مفردة: الخرافة.
يمكننا الاعتماد على تفسيرٍ منطقيّ لمعنى الأسطورة ورد في الموسوعة العالمية “الويكيبيديا“: “الأُسْطُورة (باللاتينية، legenda، “أشياء يجب أن تقرأ”) وهي حكاية تقليدية تروي أحداثاً خارقة للعادة، أو تتحدث عن أعمال الآلهة والأبطال. وهي تعبر عن معتقدات الشعوب في عهودها البدائية، وتمثل تصورها لظواهر الطبيعة والغيبيات.
في عقائد الإغريق القديمة، تحكي معظم الأساطير عن أُناس وأماكن وأحداث يمكن إدراكها، وفي عهود أقرب، تقوم بعض الأساطير على أشخاص حقيقيين، أو أحداث حقيقية، ولكن الكثير منها يتعلق بشخصيات “خيالية”، فيما يذهب في هذا الإطار العالِم الأشهر ميرسيا إلياد Mircea Eliade 1907 – 1986، أبرز علماء الأساطير ومن أشهر قادة الفكر في القرن العشرين إلى أنّ الأسطورة هي وحسب: “اللغة الدارجة في القرن التاسع عشر، هي كل ما يتعارض مع الواقع”.
أثر الأسطورة
تركت الأساطير أثرها على الفكر الجمعيّ لمختلف الشعوب، على الرغم من التناقضات الصَّارخة الموجودة داخل كل أسطورة، وقد ثُبِّتت بعض تلك الأساطير وكأنّها حقيقة علمية لا يمكن البتُّ فيها، هذا الأمر نابع من اليقين التامّ بالتفاسير الغيبيَّة للأمور الـ ما ورائيَّة، أو تلك التي لم يكُ ممكناً التثبُّت من صحّتها أو العثور على تفسيرٍ مقنعٍ لها آنذاك، على إثر تأخُّر العلم في إيجاد المخرَج التفسيريّ.
هذا ما دفع بالعالِم ليفي شتراوس C.levi-strauss 1829-1902 في كتابه الهامّ المعنوَن بـ “الأسطورة والمعنى” إلى القول في إحدى تعاريفه واشتغالاته على أنّ الأسطورة: “حكايةٌ عجيبة”، كما وأورد شتراوس في الكتاب نفسه مقتطفاً هامَّاً من كلام ألدوس هكسلي Aldous Huxley 1894 – 1963 في كتابه: أبواب الإدراك الحي Doors of perception:
معظمنا يستخدم كميَّة محدودة فقط من قواه العقليَّة، بينما البقية من هذه القوة تُعطَّل كاملةً، هل تعتقد أن في نوع الحياة التي نعيشها اليوم، نستعمل إمكاناتنا وقدراتنا الذهنيَّة أقل من الذين نكتب عنهم والذين يفكّرون بطريقة أسطوريَّة؟
هذا الكلام يدلّ بطبيعة الحال على أنّ الأسطورة والعقل صنوان متلازمان، ويكادان أن يكونا في مصافٍ واحد، سواء من ناحية التفسير أو ناحية الإيمان بتلك التفاسير مهما تعدّدت، أو حتَّى من ناحية النتيجة -علميَّةً منطقيَّة كانت أم غير ذلك- وهذا الأمر يدفع بإمبراطوريّة علميَّة مثل اليابان، التي آمنت وما تزال بالأسطورة وتستند إليها كما في كتابها المقدس (الكوجيكي)، إلى الأسطورة والكهَنة قبل البدء بأي مشروعٍ يُفتَرَض به أن يعتمد على أقصى درجات التقنيَّة في العالم وأشدّها قوَّةً وبرهنةً، ما يدلّ على أنّ الأسطورة حاضرة منذ غابر الأزمان وحتَّى وقتنا الرّاهن، دون أن يستطيع العقل البشريّ الأكثر تطوَّراً التخلّص من رواسبها أو الانفكاك من سطوتها.
علاقة الأسطورة بالعلم وتشابه المنهج
ذهبَ العلماء والمفسِّرون إلى أنّ المنهجيَّة الأسطورية في التفسير هي ذاتها المنهجيَّة العلميَّة، إذ أنّ المنهجيَّتان تُفضيانِ إلى نتائجَ ما، سوى أنَّ تلك النتائج تختلف، من حيث البنية وطريقة التفسير، أو البراهين المُقدَّمة والحُجج، أو اعتقاد الناس بها من عدمه، لذا اعتبرت علاقة الأسطورة بالعقل أو بالعلم، علاقةً تاريخيَّةً معقَّدة، وتفيد معنى نشأة العقل البشري وبداية التفكير والتدوين اللذين انطلقا من الأسطورة، فعبر التاريخ، تعتبر الأسطورة هي الأولى ومن ثمّ أتت الفلسفة وتأسّس الخطاب العقلاني ونظرية المعرفة، هذا هو التدرّج التاريخي المُثبت.
العقل العلمي يتقاطع مع الأسطورة، لأنّ منهجية الأسطورة هي ذاتها المنهجيَّة المتّبعة في العلم، فالأسطورة تحمل على عاتقها تفسير الظواهر الطبيعيَّة الغامضة بغية الوصول إلى النتيجة الأخيرة التي تكون غالباً تفسيريَّة، وهذه وظيفة العلم، لأنّ العلم بحدّ ذاته يفسِّر الغامض كي يصل إلى النتيجة والتي تتلخّص بالمعرفة، وهذا فعل الأسطورة تماماً.
الأسطورة مستمرة بالتوازي مع العلم، أو لعلّه يمكننا القول أنَّها داخل العلم على إثر تطابق المنهجين، كما أن الأسطورة تتشابه إلى حد ما مع الدين وتفاسيره كتفسير البرق والرعد، حين كان يقال إن الآلهة غاضبة فتقرع الطبول، ما ينجم عن ذلك البرق والرعد كظاهرتين طبيعيتين غامضتين. الفارق البسيط أنّ العلم يفسّر مثل هذه الظواهر بطريقة علميَّة، سوى أنّ الأسطورة تفسِّرها من ضمن الخوارق الموجودة على سطح كوكبنا، النتيجة والمنهج لا يختلفان، ها هنا يمكن الاستنتاج أنَّ العقل البشري لا يزال مسكوناً بالأساطير.
العلم يقلِّد الأسطورة
نستطيع القول إن جذور العلم تتمحور حول الأسطورة، وفي هذا السياق يعتبر الفيلسوف الألماني أوغست كومت Auguste Comte أن التاريخ البشري مقسم عبر ثلاث مراحل: الطفولة والمراهقة والنضج، فطفولة العقل البشري هي الأسطورة، لأن العقل لم يملك وقتذاك آليات التفسير الصحيحة، ولكن حين بدأ العقل يفكر أكثر فأكثر واشتدّ عوُدهُ، دخل تلقائيَّاً إلى مرحلة ثانية أكثر تطوَّراً، وخرجت إلى العيان أبحاث معمَّقة وتفاسير أكثر نضجاً، فتكوّنت على إثر ذلك نظرية المعرفة وهي مرحلة النضوج الكاملة للعلم، فالمراحل الثلاثة على ارتباط وثيق مع بعضها البعض.
إذاً العلم لديه جذور قويَّة، وتلك الجذور هي عبارة عن الأساطير التي سبقتها أو سبقت مرحلة تطوّرها. وحتّى الآن، وعلى الرغم من طريقة العلم التي تتحكَّم في كل شيء حتّى المستقبل، والدرجة المرعبة التي وصل إليها من التطوّر، فإنَّه يوجد ما يجعله متطابقاً مع الأساطير، لسبب وحيد وهو، محاولة العلم تجاوز وظيفة الأسطورة، والتي هي البحث عن تفسيرات، وهذا ما كانت تفعله الأسطورة في قديم الأزمان نتيجة عدم تطوّر المعرفة والعلم، وعدم مقدرة العلماء آنذاك على التفسيرات العلميَّة، الأمر الذي دفع بـ شتراوس إلى القول كنتيجة: “لعلّنا نكتشف ذات يوم أنّ المنطق المؤسِّس للفكر الأسطوري هو عينه المنطق الذي يؤسّس الفكر العلمي، وأنَّ الإنسان ما انفكَّ يُحسِن التفكير”.
الأسطورة والعالم الرّاهن
ما انفكّ العقل البشريّ حتَّى يومنا هذا وهو يستند بظهره إلى التفاسير الأسطوريَّة للظواهر، أو حتَّى الأحداث اليوميَّة، وهذا ما عقَّد العلاقة بشكلٍ أكبر معرفيَّاً وفلسفيَّاً فيما بين الأسطورة والعقل، الأولى بوصفها تفسيراً نابعاً من الخيال التفسيريّ للأمور بالاعتماد على خلفيَّات ما ورائيَّة معقَّدة، والثاني بوصفه تحليلاً معتمداً على مقاييسَ وتجارب تمرُّ بمراحل كثيرة، سوى أنَّها تعودُ للأصل، أي الأسطورة ذاتها.
وربمّا من الممكن القول عن هذا التفسير: العلميّ المعتمِد على الأسطورة كفكرة موجودة قبل وجود العلم وتطوِّره، فالأسطورة لا تزال تعيش في مكان مظلم ومعتِم لم يصل إليه العلمُ حتَّى وقتنا الرّاهن، والسبب لا يعود بالطبع إلى تخلّف العلم، على العكس من ذلك، بل لأنّ الذاكرة الجمعيَّة لدى شعوب العالم، ما تزال تؤمن بالخوارق والأساطير والمعجزات وتأخذ بها على أنَّها مؤكَّدة ويقينيَّة، رغم محاولات العلم في الإقناع.
أراجيك
إضافة تعليق جديد