وثائق طه حسين السريّة
قبل أعوام، تحديداً في أثناء الاحتفال الذي أقامه المجلس الأعلى المصري للثقافة عام 1998 بذكرى ربع قرن على وفاة طه حسين، ثارت ضجة لبعض المثقفين من تلامذة الكاتب الكبير وغيرهم اعتراضا على استحواذ الأكاديمي في دار العلوم عبد الحميد إبراهيم على رسائل طه حسين ووثائقه، وطالبوه بإيداعها لدى المختصين خوفاً عليها من الضياع وحفظاً لها من التبدد. إلا أن عبد الحميد إبراهيم رفض ذلك بشدة، مؤكدا أن الدكتور محمد حسن الزيات، صهر طه حسين، ائتمنه عليها قبل وفاته، على أنه يقوم بتصنيفها وتبويبها تمهيداً للدراسة التي تستحقها. وها هو عبد الحميد إبراهيم ينشر الرسائل في كتاب ضخم يقع في 1080 صفحة لدى "دار الشروق" مثبتاً أنه حفظ الأمانة من جهة، لكنْ مثبتاً، في المقابل، أن مخاوف المتخوفين كانت في محلها.
يبدو الكتاب ملتبساً من أولى صفحاته. لا مقدمة عن علاقة الكاتب بطه حسين، ولا منطق في التبويب، ولا نفهم معنى إقحام المؤلف لمفهومه عن الوسطية وشرحه هذا الموقف الفكري في صفحات مطوّلة بين رسائل الى طه حسين من المفكرين والمثقفين والكتّاب ورجال السياسة، فضلاً عن أصدقائه وأهله، وخصوصاً أن جوهر فكرة الوسطية هذه هو "عبقرية الصحراء"، على ما يقول عبد الحميد إبراهيم. فأيّ تناقض! كما أن هناك رسائل تركها المحقق بلا تعليق. الأهم أن موقف المحقق نفسه من طه حسين ملتبس، فهو للوهلة الأولى يبدو عدائيا، لا يخلو من الانتقاد المشحون بالسخرية من موقف حسين التغريبي العلماني. ثم سنجده في مواضع أخرى من الكتاب، مفتونا بطه حسين؛ سواء في تعليقه على بعض الرسائل التي أرسلها تلامذة العميد إليه وخصوصاً أمينة السعيد ومحمد مندور وسهير القلماوي، أو في تقديمه المتأخر للكتاب (صفحة 401) في الجزء الثاني من حيث يشرح علاقته الملتبسة بطه حسين.
في مقدمة الجزء الأول، وتحت عنوان "مستقبل الثقافة في مصر والعالم العربي" يشير المحقق عابرا إلى محطات من حياة طه حسين وينتهي إلى أنه "وضع البذور الأولى لتفريغ الحضارة العربية من عنصر الدين لأنه يؤدي إلى استلاب الإنسان، والقضاء على عوامل المبادرة والفاعلية"، مرددا أن طه حسين كان يستخدم في ذلك أسلوبا نادرا لا يجاهر فيه بفكرته، لكنه يدسها خلال لغة جذابة موحية تتسلل إلى عصب القارئ من دون أن يشعر. ويضيف بنبرة لا تخلو من الإدانة: "ثم أثمرت هذه البذور، وما كان مناورة أصبح مجاهرة، وما كان حالة فردية أصبح ظاهرة عامة (...) تحتفي بها الأوساط الأدبية وتقدم حولها التفسيرات والشروح". لكنه لا يكتفي بطه حسين، إذ يشير إلى أدونيس زاعما أنه أول المتطرفين فكريا (هكذا!) الذين خرجوا من معطف طه حسين، مستنداً في هذا الزعم إلى قراءة جد مبتسرة لـ"الثابت والمتحول"، يخلص منها إلى أن "الكتاب من أوله إلى آخره يقوم على التنظير والتسويغ والتبرير لعناصر هدم الحضارة العربية الإسلامية". وهو يتعسف في تفسير فكرة التغيير كما يقترحها أدونيس في كتابه ذاك، بوصفها تقتضي هدم البنى التقليدية، فيقول إن أدونيس "يريد أن يهدم الحضارة العربية من داخلها وليس من خلال نموذج خارجي".
إذا كان هذا هو موقف عبد الحميد إبراهيم من طه حسين ومن سار على نهجه (يقدم انتقادات لاذعة لاحقا الى كل من جابر عصفور ونصر حامد أبو زيد)، فلماذا يهتم، وبهذا الإصرار، على الاحتفاظ بوثائق الرجل ورسائله الشخصية؟ ولماذا يقبل الانتفاع بحقوق نشرها طالما أنه يرى في الرجل كل تلك السلبيات التي ذكرها هنا وهناك؟ ولماذا لم يتركها لمن يهتم فعلا بتراث طه حسين التنويري؟
الإجابة يمكن أن يتوصل اليها القارئ في صفحة 401 عندما يصل الى مقدمة عنوانها "أنا وطه حسين"، وأظنّها المقدمة الأصلية للكتاب، التي تسبق الرسائل الخاصة بطه حسين من والده وعائلته، وخصوصاً شقيقاته. يقول: "ثلاثة لا أنساهم... محمد رسول الله (ص)، وأبي، رحمه الله، وطه حسين، غفر الله له". ثم يورد فقرتين في توضيح تأثره بالنبي محمد، ثم بأبيه، قبل أن يصل إلى قصته مع طه حسين التي أظنها مأساة تراجيدية تكوّنها تلك العلاقة الخاصة التي يمتزج فيها الحب والغيرة بالكراهية والنفور، ويصفها هو بأن فيها قدراً كبيراً من القدرية، وأنها تأرجحت بين الحب الشديد والتمرد عليه. ولعل هذا هو مفصل الالتباس الذي يسم الكتاب من أوله إلى آخره.
وإذا كانت هذه المقدمة توضح أخيرا موضع المشكلة لكنها لا تقدم تفسيرا لأسباب تأخرها إلى هذا الموضع، فهل هي هفوة غير مقصودة، أم حيلة مقصودة يخفي بها المحقق ولعه المدفون بصاحب الرسائل لصالح المولعين بعبقرية الصحراء؟!
فالكاتب الذي يبدأ كلامه عن طه حسين بالحب الى درجة تمنّيه أن يرتدي، حتى، نظارة سوداء مثله، يتأثر بأفكاره إلى درجة اليقين، ويورد ذلك في كتاب له بعنوان "شواهد ومشاهد" واصفا نفسه بأنه ظل على تلك الحال حتى هداه الله إلى الوسطية، فانتهى الى الثورة على نموذجه الأعلى واصفا إياه بأنه مارس على المجتمع المصري تأثيراً لا يماثله إلا تأثير أتاتورك في تركيا. "وبينما يعتمد أحدهما على السلاح العسكري الذي يتناسب مع الشعب التركي، فإن الآخر يعتمد على السلاح الثقافي الذي يتناسب مع طبيعة الشعب المصري".
مع ذلك، بذل المحقق جهدا في التعليق على الكثير من الرسائل وخصوصاً تلك المرسلة من تلاميذ طه حسين، وبعض أصدقائه، مثل العقاد وتوفيق الحكيم، وفي إلقاء الضوء على المناخ الثقافي السائد بعض المراحل التاريخية ومنها الفترة التي شهدت الرقابة على الأدب، وتعرض بسببها الكاتب إحسان عبد القدوس للتحقيق عن روايته "أنف وثلاث عيون"، وبعث برسالة مطولة الى طه حسين يشرح له فيها ملابسات القضية والظروف النفسية التي مر بها.
تلقي الرسائل بشكل عام الضوء على مرحلة تاريخية مهمة من تاريخ مصر المعاصر، كما تلقي الضوء على شخصية طه حسين نفسه، ودوره المؤثر في الحياة الأدبية والأكاديمية، ونفوذه الذي يجعل الكثيرين يلتجئون اليه للمساعدة، وأحيانا للمساعدة في تقديم ما ينشرونه، كما فعل الدكتور أحمد حسن الباقوري، وكان آنذاك مدير جامعة الأزهر، وغيره كثيرون.
تقدم الرسائل أيضا طه حسين الإنسان البسيط مع أهله، الضعيف، الذي يتعرض لظروف مادية فيقترض من باحث الآثار اللامع سليم حسن، الصديق الودود الذي تربطه صداقة خاصة بمحمد كامل حسين، كما تبدو رقته تلك أيضا في علاقته الودودة بتلميذته سهير القلماوي.
لكن الرسائل تكشف أيضا عن خصوصية علاقته بالعقاد ونديتها التي كانت تجعل هذا الأخير، مع الحكيم، ومحمد كامل حسين، من الاستثناءات التي لا تراعي الأساليب التقليدية في مخاطبة طه حسين، بل وتردّ اليه الصاع صاعين كما يقول العقاد في واحدة من الرسائل: "أشكر لك ثناءك واهتمامك، وأبادلك التحية مدحا وقدحا بالصاع صاعين وبالباع باعين، وأعجب بشجاعتك في تقريظ كتابي ونقده في صحيفة "السياسة" وإن كنت أسأل نفسي: هل هي شجاعة حقا؟ فإن الشجاعة هي معالجة المكروه والإقدام على المحظور، ولا أظنك إلا ملتذا بما في شجاعتك الأدبية من إيذاء عقائد الناس وإحراج صدورهم ولو كانوا من أنصارك وأصحابك...".
تبقى إشارة أخيرة إلى خلو الكتاب من الصور، رغم إشارة المحقق إلى صورة منشورة لوالد العميد الشيخ حسين، بالإضافة إلى سوء حالة الوثائق المنشورة كلها والتي يبدو أنها صوِّرت عن نسخ وليس عن الوثائق الأصلية، فهي في غالبيتها غير واضحة، كأن المحقق أبى أن يظهر الوثائق الأصلية حتى لدار النشر، رغم أن الكثير منها نشر سابقا في كتاب لإبراهيم عبد العزيز، مما يضيف علامة استفهام أخرى الى قائمة الاستفهامات التي يستدعيها هذا الكتاب.
إبراهيم فرغلي
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد