حكاية تنظيم "جبهة النصرة" في دير الزور
الجمل - ترجمة د. مالك سلمان: في رسالته الحصرية الأخيرة من محافظة دير الزور, غيث أبو العهد يلتقي مقاتلين تركوا ‘الجيش السوري الحر’ لصالح انضباط وإيديولوجيا الجهاد العالمي:
بينما كانوا واقفين خارج المبنى الحكومي المحتل في بلدة ‘موحسن’, كان من الصعب تمييز رجال أبي خضر عن أية مجموعة مقاتلة أخرى في الحرب الأهلية السورية بلباسهم الحربي وقمصان ال ‘تي شيرت’ واللحى.
لكن هؤلاء لم يكونوا أعضاءَ عاديين في ‘الجيش السوري الحر’. فأبو خضر ورجاله يقاتلون لصالح القاعدة, ويسمون أنفسَهم "الغرباء" تيمناً بقصيدة جهادية شهيرة تُمَجد الفترة التي قضاها أسامة بن لادن وأتباعُه في جبال أفغانستان, وهم يشكلون واحدة من عدة تنظيمات جهادية تعمل على ترسيخ وجودها في شرق البلاد الآن بعد أن دخل الصراع في سورية سنته الدموية الثانية.
يحاول هؤلاء التعتيم على وجودهم. يقول أبو خضر: "البعض قلق من حمل الرايات [السوداء]. يخافون من أن تأتي أمريكا وتحاربنا. ولذلك نقاتل سراً. لماذا نُعطي بشار والغرب ذريعة كهذه؟" لكن وجودهم معروف على نطاق واسع في ‘موحسن’, حتى أن عابري الطريق يمزحون مع الرجال حول السيارات المفخخة.
تبعاً لأبي خضر فإن رجاله يعملون بالتنسيق الوثيق مع المجلس العسكري الذي يقود فصائل ‘الجيش السوري الحر’ في المنطقة. يقول أبو خضر: "نلتقي كل يوم تقريباً. لدينا تعليمات واضحة من قيادتنا [في القاعدة] بتقديم المساعدة إلى ‘الجيش السوري الحر’ إذا دعت الحاجة. نساعدهم في السيارات المفخخة. موهبتنا الرئيسية تكمن في عمليات التفجير." فلدى رجال أبي خضر خبرة كبيرة في تصنيع القنابل اكتسبوها من العراق وأماكن أخرى, كما يقول.
بعد ذلك أسهبَ أبو خضر في الحديث. تمدَدَ على كومة من الوسائد في أحد المنازل في ‘موحسن’, ممدداً ذراعَه اليسرى التي أصابتها طلقة قناص, وكانت ملفوفة بالجبس والشاش. كان أربعة صبيان مراهقون يركعون على شكل هلال أمامه, مطأطئي الرؤوس, يستمعون إليه بخشية وإعجاب. كانت ملامح القلق بادية على وجوه القرويين الآخرين الموجودين في الغرفة.
كان أبو خضر ضابطاً في قوة سورية حدودية مُؤلَلَة تُدعى "الهجانة" عندما قرر القتالَ ضد النظام. قاتلَ قوات الأمن بمسدس وبارودة صيد خفيفة واكتسب سمعة كأحد أشجع وأشرس الرجال في محافظة دير الزور, كما ساهم في تشكيل أحد أول فصائل ‘الجيش السوري الحر’.
لكن سرعانَ ما خابَ أملُه من سوء تنظيم جيش المتمردين وعجزهم عن ضرب النظام. وقد وضح ذلك بشرح محاولة الهجوم على أحد المواقع العسكرية في ‘موحسن’. كان الموقع المحصن في معمل غزل سابق, والذي يقبع خلف الجدران الإسمنتية وأكياس الرمل والرشاشات والعربات المصفحة, عصياً على محاولات المتمردين الهزيلة في الهجوم عليه.
قال أبو خضر: "عندما هاجمنا الموقع مع ‘الجيش السوري الحر’, جربنا كل شيء وفشلنا. حتى مع وجود حوالي 200 رجل يهاجمون من عدة جهات, لم نتمكن من إصابة جندي حكومي واحد, كما هدرنا 1,5 مليون ليرة سورية قيمة الذخيرة التي أطلقناها على الجدران."
بعد ذلك, عرضت تقديم المساعدة مجموعة من المقاتلين الإسلاميين المنضبطين المؤمنين كانت موجودة في قرية مجاورة. أتوا بخبير من دمشق, وبعد يومين من العمل قدموا لأبي خضر عربونَ صداقتهم: سيارة بيك أب ملغومة ب 2 طن من المتفجرات.
قاد رجلان السيارة إلى بوابة القاعدة ثم قاما بتفجيرها عن بُعد. قال أبو خضر إن الانفجارَ كان ضخماً جداً بحيث تطايرت الشبابيك والحديد الذي يحميها مئات الأمتار, واقتُلعت الأشجار من جذورها, وظهرت حفرة ضخمة في وسط الطريق.
في اليوم التالي غادر الجيشُ البلدة وتم تحرير ‘موحسن’.
قال أبو خضر: "كلفنا تفخيخ السيارة 100 ألف ليرة سورية, كما ساهم أقل من 10 أشخاص [في العملية]. فبعد وصول خبير المتفجرات بيومين كان كل شيء جاهزاً, ولم نهدر طلقة واحدة. القاعدة تتمتع بخبرة كبيرة في هذه الأنشطة العسكرية وتعرف كيف تتعامل معها."
بعد التفجير, انفصل أبو خضر عن ‘الجيش السوري الحر’ وأعلن ولاءَه لتنظيم القاعدة في سوريا, "جبهة النُصرة". ثم أطلق لحيته وتبنى الخطابَ الديني للجهاديين, حيث أصبح قائداً لإحدى مجموعاتهم المقاتلة. يقول أبو خضر: "لايتمتع ‘الجيش السوري الحر’ بأية قواعد أو نظام عسكري أو ديني. كل شيء يتم بشكل عشوائي. أما القاعدة فلديها قانون لايمكن لأحد أن يخرقه, حتى الأمير. ‘الجيش السوري الحر’ يفتقر إلى القدرة على التخطيط, كما تنقصه الخبرة العسكرية. وهذا ما يمكن للقاعدة أن تؤمنه, إذ لديهم تنظيم اعترفت به كافة البلدان. في البداية كان عدد المقاتلين قليلاً. أما الآن, ماشاء الله, هناك مهاجرون ينضمون إلينا باستمرار ويأتون بخبراتهم," قال أبو خضر للناس المجتمعين, "رجال من اليمن والسعودية والعراق والأردن. اليمنيون هم الأفضل في دينهم وانضباطهم, والعراقيون هم الأسوأ في كل شيء – حتى في الدين."
عند ذلك قال رجل في الغرفة – وهو ناشط في منتصف الثلاثينات من عمره لم يرغب في ذكر اسمه: "ماذا تحاولون أن تفعلوا يا أبا خضر؟ هل ستباشرون في قطع الأيدي وتحولوننا إلى بلد مثل السعودية؟ هل هذا مانخوض ثورتنا من أجله؟!"
أجاب أبو خضر: "هدف القاعدة هو بناء دولة إسلامية, وليس دولة سورية. من يخافون من التنظيم يخافون من تطبيق شريعة الله. ليس عليكم أن تخشوا شيئاً إن لم ترتكبوا المعاصي."
الخطاب الديني
اكتسب الخطاب الديني والطائفي دوراً رئيساً في ‘الثورة السورية’ منذ الأيام الأولى. ويعود ذلك, جزئياً, إلى الحاجة إلى أموال وسلاح الخارج التي تتدفق عبر شبكات إسلامية قوية ومعروفة, وكذلك لأن الدين يشكل حافزاً قوياً للمقاتلين بالوعود التي يقدمها حول الشهادة والغفران.
لقد تبنت كل كتيبة من كتائب المتمردين تقريباً اسماً دينياً سنياً, بالإضافة إلى خطاب ديني يمجد الجهاد والشهادة, حتى عندما يقود هذه الكتائب أشخاص علمانيون ويقاتل في صفوفها أشخاص لايُصَلون حتى.
قال لي الناشط السياسي فيما بعد: "الدين حافز قوي ورئيسي في هذه الثورة – أنظر إلى العرعور [وهو داعية طائفي مسعور], إنه مصاب بالهستريا ونحن لانحبه إطلاقاً, لكنه يقدم دعماً كبيراً للمقاتلين, وهم بحاجة إلى ذلك."
وقد شرح أحد قادة ‘الجيش السوري الحر’ في دير الزور دورَ الدين في الانتفاضة: "الدين هو الطريقة المثلى لفرض الانضباط. فحتى لو لم يكن المقاتل متديناً, ليس بمقدوره أن يرفضَ أمراً دينياً في المعركة."
القاعدة موجودة منذ عقد تقريباً في هذه المنطقة الجرداء من سوريا الشرقية, حيث تمتد الصحراء والقبائل على الحدود العراقية.
وخلال الاحتلال الأمريكي للعراق, أصبحت دير الزور البوابة التي تدفق من خلالها آلاف الجهاديين الأجانب لخوض الحرب المقدسة. وقد هرب العديد من المقاتلين المعروفين هناك من الغارات الأمريكية والعراقية ولجؤوا إلى قرى وصحارى دير الزور.
كان أسامة – وهو جهادي شاب من وحدة أبي خضر يتمتع بابتسامة لطيفة – في السابعة عشرة من عمره في سنة 2003 عندما غزى الأمريكيون العراق, كما قال لي. هرب من المنزل وانضمَ إلى آلاف السوريين الآخرين الذين عَبَروا الحدودَ للقتال. وكمعظم أولئك المتطوعين استمدَ الإلهامَ, في البداية, من مزيج من الولاءات القومية والقبلية, لكن الدين أصبح دافعَه الوحيد فيما بعد.
بعد عودته إلى سورية, وجد نفسه ميالاً بشكل أكبر إلى الإيديولوجيا الجهادية. كان الأمر خطيراً وقتها, حيث زُجَ العديد من أصدقائه في سجون النظام الذي لعب لعبة مزدوجة طيلة سنوات, حيث كان يسمح للجهاديين بعبور الحدود لمحاربة الأمريكيين ويُحكم السيطرة عليهم في سورية في الوقت نفسه.
في الأشهر الأولى من الانتفاضة السورية انضمَ إلى المتظاهرين في الشوارع, وعندما قُتل بعض أقربائه انشقَ والتحق ب ‘الجيش السوري الحر’.
قال أسامة: "قررتُ الانضمام إلى الآخرين, لكن سرعان ما خابَ أملي في ‘الجيش السوري الحر’. كانوا رائعين وهم يقاتلون, لكنهم كانوا يقضون معظم الوقت في غرفهم, يدخنون ويثرثرون ويتحدثون على ‘سكايب’."
بعد أن طفحَ به الكيل من خلافات القادة ونزاعاتهم على المال, تحولَ أسامة إلى مجموعة مقاتلة أخرى في قرية ‘شهايل’, التي تقع على بعد 70 كم غرب ‘موحسن’ والتي أصبحت العاصمة الفعلية للقاعدة في دير الزور. كان أكثر من 25 من أعضائها الشباب قد قُتلوا في العراق. في ‘شهايل’ يتجول مقاتلو القاعدة في سيارات دفع رباعي بيضاء ترفرف عليها رايات القاعدة.
كان يقود المجموعة رجل دين. عرفَ اثنين من المقاتلين من الفترة التي قضاها في العراق. وفي أحد الأيام زار قائد المجموعة قريةَ ‘موحسن’, وهو سعودي يغطي رأسه بشماغ أحمر ويحمل بندقية كلاشنكوف صغيرة على شاكلة أسامة بن لادن. ألقى موعظة طويلة خلال جنازة أحد القادة المحليين, موضحاً للحاضرين أن الجهاد هو الوسيلة الوحيدة لشن ثورة ضد النظام الكافر لبشار الأسد, وأن السوريين لم يكونوا ضحية النظام فقط, بل أيضاً ضحية نفاق الغرب الذي رفض مساعدتهم.
قال أسامة: "كانوا ملتزمين, يطيعون قائدهم ولايناقشونه في شيء. في ‘الجيش السوري الحر’, إذا كان هناك 10 أشخاص فإنهم ينقسمون ويشكلون 3 مجموعات." أما الجهاديون فإنهم يستغلون الوقت في "أشياء مفيدة, وحتى الواجبات اليومية كانت تُوَزَع بالتساوي."
التحق أسامة بالمجموعة. "إنه [السعودي] رجل في غاية الطيبة, يقضي أيامَه في تعليمنا. تسأله عن أي شيء فيجيبك بآيات من القرآن. إذا رغبتَ في قراءة القرآن فبإمكانك أن تفعل ذلك, وإذا أردتَ أن تتعلم صناعة القنابل فإنه يعلمك ذلك أيضاً."
قبل الثورة, عندما كان النظام قوياَ, كنت تحتاج إلى سنة لتجنيد شخص واحد في المجموعات الجهادية, "أما الآن, الحمد لله, فنحن نعمل في العلن والعديد من الناس ينضمون إلينا," يقول أسامة.
في ‘شهايل’ التقينا سليم أبو ياسر, وهو من عجائز القرية وقائد كتيبة ‘الجيش السوري الحر’ هناك. كان يجلس في غرفة مليئة بمقاتلي العشائر والبنادق الآلية. العلاقة مع القاعدة كانت صعبة جداً, كما يقول, فالجهاديون متكتمون للغاية ويحتقرون ‘الجيش السوري الحر’, حتى أنهم ينعتونهم بالعلمانيين الكفَرَة. لكنهم انفتحوا على الآخرين الآن وبدؤوا يتعاونون مع مجموعات المتمردين الأخرى.
"هل هم مقاتلون جيدون؟" ألقى بالسؤال بصيغة بلاغية في فضاء الغرفة. "نعم, ولكن مشكلتهم تكمن في الإعدامات. فعندما يلقون القبض على جندي يضعون مسدساً في رأسه ويطلقون النار. أما نحن فلدينا محاكم دينية ونقوم بمحاكمة الأشخاص قبل إعدامهم. هذا القتل الكثير هو الذي يخيفنا. نخاف أنهم يحاولون جَرَنا إلى أيام العراق, وقد رأينا ما حدث هناك."
قال لي أسامة إن مجموعته حريصة جداً على عدم تكرار التجربة العراقية – "يعترفون أنهم ارتكبوا أخطاءً كثيرة في العراق وهم حريصون على تجنُب ذلك," كما يقول – لكن البعض, ومنهم طبيب شاب يعمل لصالح الثورة, لم يكونوا مقتنعين. على المعارضة الاعتراف بوجود القاعدة في صفوفها, وعليهم الانتباه والحذر.
ثم تساءَل: "من اختطفَ المهندسين الأجانب الذين كانوا يعملون في حقل النفط المجاور؟ لديهم تمويل أفضل من ‘الجيش السوري الحر’, وعلينا الاعتراف أنهم موجودون هنا. إنهم يسرقون الثورة منا, وهم يعملون من أجل الأيام القادمة."
تُرجم عن "الغارديان" البريطانية 31.08.2012
الجمل
التعليقات
حرف الدال
عااااادي
لايسلم الشرف الرفيع من
إنت مترجم يا وليد؟؟؟
إضافة تعليق جديد