هالة الفيصل: عن العري والفن والموقف
لا تزال الفنانة التشكيلية السورية هالة الفيصل المقيمة بين ألمانيا والولايات المتحدة الأميركية تحتج ضد القتل والحرب على طريقتها، ففي العام الفائت وقفت في ساحة واشنطن بارك في نيويورك بعد أن استخدمت جسدها قماشة للوحة احتجاجها، وكتبت عليه عبارات تطالب بوقف الحرب والقتل في العراق وفلسطين، وتندد بها. ومؤخراً أقامت في دمشق معرضاً في منزلها احتجاجاً ضد العدوان الإسرائيلي على لبنان وضد استمرار الحرب عليه، وعادت أخيراً إلى مدينتها حمص لتعرض فيها لأول مرة.
حول ضرورة مواكبة الفن لأحداث الحرب، وتنوع تجربتها بين التصوير والتمثيل والغناء، الحوار الآتي:
ما هي أسباب إقامتك مؤخراً في دمشق معرضك الفني الذي قدمت فيه لوحة تعبّر عن صرخة احتجاج ضد العدوان الإسرائيلي على لبنان، في منزلك وليس في صالة معارض، وهي اللوحة التي ضمها أيضاً معرضك الأخير الاسترجاعي في حمص؟
} العدوان الإسرائيلي على لبنان لم ينذر أحداً، ولم يقدّم لنا فسحة لنهيئ أنفسنا لنتفق مع صالات عرض لنقدّم فيها ما نستطيع أن نعبّر من خلاله عن احتجاجنا كفنانين ضد هذه الحرب. وعندما اشتدت الحرب لم يكن في أيدينا نحن الفنانين سوى الاحتجاج بلوحاتنا. وبالعودة لسؤالك ارتأيت أن أفتح منزلي لأعرض فيه لوحتي التي رسمتها كصرخة احتجاج، مع لوحات أخرى لي، ليكون المعرض بمجمله أقوى وأصدق عن قوة رفضي واحتجاجي ليس ضد العدوان الإسرائيلي على لبنان فقط بل ضد القتل وسفك دماء البشر في أي مكان، ففي المنزل وجدت مكاناً أكثر حميمية وحرارة لتقديم احتجاجي ضد الحرب، وللتعبير عن تعاطفي مع الناس الذين يعانون ضراوة القتل، فلوحاتنا هي السلاح الوحيد الذي بين أيدينا كفنانين لرفض الحرب والقتل بشكل عام. وقد لاقى المعرض قبولاً وحضوراً مهتماً بشكل جيد على مدى أيام عدة.
جاءت لوحتك بتكوين جيد، وبرموز واضحة الدلالة، ولم تلتفت إلى التشريح، فهل أردتها بهذه التلقائية كرسوم الأطفال لتقدّم اللوحة صرختها لمطلق متفرج، وهل أنت مع ضرورة تقديم موقف مواكب للحدث حتى لو جاءت اللوحة بسوية غير جيدة ؟
} طبعاً لست مع اللوحة التي ينسجها فنان ما بأدوات فنية غير جيدة، دون أن أصادر حقه بالتعبير عن موقفه. ولكن اسمح لي أن أنوه إلى أن السوية الفنية مهمة جداً، إذ كلما ارتفعت ازداد الموقف قوة. ثم إني كفنانة لست سياسية، أعتبر من واجبي كإنسانة في هذا المجتمع أن يكون لي رأي تجاه ما يحدث، ورأيي هو لوحتي، ونحن جميعاً قدرنا على ما يبدو أننا نعيش في جغرافية، تاريخها المعاصر زاخر بالحروب الاستعمارية علينا! منذ العام 1948 وحتى الآن، إذاً رد فعلي كفنانة مختزن في داخلي وقد عبّرت عنه في لوحتي خلال أيام العدوان الإسرائيلي على لبنان. بمعنى آخر تفاعلنا مع حدث الحرب ليس مواكبة بل تفاعلاً يحمل جذوراً وموقفاً إنسانيا. فالحرب دائماً رمز للهمجية لأنها ضد الإنسان وضد العقل.
- موقفك هذا استمرار لموقفك العام الفائت من الاحتلال الأميركي البريطاني للعراق، ومن الاحتلال الصهيوني لفلسطين، الذي ثمة من رأى أنه قادم من لوحاتك، إذ كثيراً ما تناولت فيها العري بدلالاته المختلفة. فهل هذا صحيح؟
} هو ليس استمراراً فقط بل تكريس لموقفي ضد الحرب، أمّا بالنسبة لموقفي العام الماضي فيمكنني القول إن العري في تاريخ الفن شيء أساسي، وبالأحرى رسم الموديل العاري شيء أساسي لتكوين الفنان المكتمل. ففي عصر النهضة رسموا الجسد العاري وهذا يحصل دائماً في الأكاديميات ما عدا كلية الفنون في سوريا، ولذلك أقترح إغلاق هذه الكلية، إذ كيف يمكن تكوين طالب فنون دون أن يعرف كيف يرسم جسد الإنسان العاري. أنا استفدت من دراسة جسد الإنسان خلال دراستي في موسكو وباريس ونيويورك، ولأنني امرأة فنانة شعرت بضغوط المجتمع أكثر من الرجل الفنان، فالرجال بينهم نسبة كبيرة يتحققون من شرف عائلتهم ووجودهم بطريقة معينة مع جسد المرأة. وفي ضوء أن الإنسان عندما يكون عارياً يكون ضعيفاً ومجرداً من الأسلحة وغير قادر على الخوض في أي حرب، كان اختياري في المظاهرة التي احتججت فيها في نيويورك، ضد القتل في العراق وفلسطين، وفي أي مكان، لجسدي ليكون القماشة التي أعلنت عليها موقفي، فلم يكن سوى ميتافور لفكرة الاحتجاج التي أردت أن أعلن عنها بلغة يفهمها الغرب.
بعد معرض دمشق معرض استرجاعي في حمص، لماذا ليس معرضاً جديداً؟
} أعتقد أن من حق مدينتي عليّ بعد غيابي عنها لأكثر من عشرين عاماً أن أعرض فيها لناسها الذين اشتقت إليهم، كما اشتقت لحارات حمص وأشجارها المنحنية وللهواء الذي فيها، فبعد الغياب لا بد من العودة للجذور، فكان هذا المعرض في صالة نقابة الفنون الجميلة وهي أول مرة أعرض فيها في مدينتي. والمعرض ضم أعمالاً جديداً كما لا بد أن لاحظت، وسررت جداً باحتفاء الأصدقاء والزملاء من الفنانين التشكيليين وغيرهم ومن مطلق متفرج على لوحات المعرض.
يلاحظ أن في بعض لوحاتك التي رصدت فيها جلوس الرجل العربي في المقهى يتعاطى النارجيلة، أنها نقد لذكورته، فهل هي لوحات نسوية؟
} عندما رسمت اللوحات التي تشير إليها لم أتقصد أن أنقد أي ذكورة، فأنا ضد السلبي فيه وفي المرأة أيضا. ولقد بات معلوماً أن أنكيدو كان وحشاً عندما كان في الغابة ولم يتحول إلى إنسان يحمل ذكاءً وحساً مرهفاً إلاّ بعد أن أتته المرأة وأنسنته. إذاً أنا لست ضد الرجل بل ضد مفهوم البطريركية الذي نرى حضوره وتأثيره في مجتمعاتنا العربية أكثر بكثير من حضوره في المجتمعات الغربية. وأزعم أنها حضرت في مجتمعاتنا بسبب ما فعلته الأنظمة السياسية التي ضربت الإنسان على يديه منذ طفولته بالمسطرة ليرسم البيت بخطوط مستقيمة بدلاً من منحنية، فهي بفعلتها تلك ربّت فيه هذه النزعة الديكتاتورية.
هل تشعرين بتقصير العناصر الفنية في نسج اللوحة حتى تقومي بتدوين بعض الجمل على بعض اللوحات؟
} اسمح لي أن ألفت انتباهك وانتباه من يشاركك الرأي إلى أنني بدأت الكتابة قبل أن أبدأ رحلتي مع الرسم، ولم تفارقني الرغبة الدائمة في الكتابة، فأنا أكتب باستمرار وهي حاجة لدي كما الرسم، على الرغم من أنني لم أنشر كتاباتي حتى الآن في كتاب. في ضوء ذلك، يخطر في بالي بعض الأحيان وأنا أرسم مقطعاً شعرياً أو نثرياً فأقوم بتدوينه على اللوحة في لحظة إبداعها، ولم يخطر في بالي ما ورد في سؤالك؟
هل ثمة عناصر فنية تحاولين من خلالها الضغط على وعي المتفرج، أم أن لكل لوحة عناصرها؟
} شخصياً كفنانة وكإنسانة لا أحب أن أضغط على وعي المتفرج، إذ يكفيه ما يتعرض له من ضغوط يومية، ضغوط يتحمل قهرها من الآخرين سواء كانوا مسؤولين أم غير مسؤولين. فلوحتي هي محاولتي للتخفيف من سطوة تلك الضغوط التي يعاني منها الإنسان بشكل عام في هذا الكون. فاللوحة تبدأ بشكل ما وتتكون وترشدك إلى حقيقتها بالتدريج، بوساطة ما تراكم لدى مطلق فنانة أو فنان من رؤى وخبرة.
ما الذي يفرض لديك تقنية الزيتي أو المائي أو الباستيل؟
} كما انني ضد الضغط فأنا ضد الفرض. في الغالب الأعم أرسم بالتقنية التي تتوافر لدي، سواء كانت الألوان المائية أو الاكرليك أو الباستيل، لكنني إذا لم تتوافر لي شروط المكان المفتوح لا أستخدم تقنية الزيتي، وهذا بسبب ظروفي الصحية، فالمكان المغلق يجعلني أتحسس من الزيتي. ورغم ما قلته لك، أحياناً اللوحة الصغيرة تنادي تقنية المائي لأنني أجدها أكثر شفافية وحرارة.
- هل تعتقدين أنك وصلت إلى المرحلة التي يمكن معرفة انتماء لوحتك لك دون توقيعها؟
} قال لي مؤرخ فني وطبيب نفسي كل لوحة من لوحاتك هي أنت دون أن يظهر توقيعك عليها وسأكتفي بتعليق هذا المؤرخ كجواب على سؤالك.
ما أسباب عدم تكرار تجربتك السينمائية في فيلم وقائع العام المقبل مع المخرج سمير ذكرى؟
} لقد كان لي من العمر ثلاث وعشرون سنة، أي خضت التجربة في عمر صغير، ولأسباب عائلية لم أكرر التجربة، لكن عشقي للسينما لم يتوقف، فقد درست في موسكو في قسم أفلام الكارتون، والتقيت بمخرجين عالميين، من أكثر من بلد عربي وغير عربي. ولم يفارقني هذا العشق، وعندما عدت مؤخراً إلى سوريا كان بدافع رغبتي في أن أنفّذ فيلماً وثائقياً، لكن بسبب العدوان الإسرائيلي على لبنان أجّلت المشروع. وقبل أن تسألني عن موضوع الفيلم اسمح لي أن أتحفظ على ذلك إلى حين البدء بالتنفيذ.
لديك تجربة غنائية، هل تعرفيننا عليها؟
} بدأت الغناء منذ الصغر وكنت الصوت السوبرانو الرئيسي في أوبريت زنوبيا التي كتبها الشاعر الراحل عيسى أيوب ولحّنها الموسيقي مرشد عنيني، كما انني درست آلة الكمان في المعهد الموسيقي، وفي موسكو بالإضافة إلى دراستي الرسم وأفلام الكارتون درست الغناء والعزف على البيانو على يد أستاذة روسية، وفي ألمانيا درست على يد أستاذة مغنية سويسرية. وأنا أغني من كلماتي وأشارك فرقة فرنسية في الألحان، وأقمت في آذار المنصرم حفلة في باريس، وكان لدي مشروع حفلة في دار الأوبرا في دمشق مع طلاب المعهد العالي، توقفت تدريباتنا أيضاً بسبب العدوان الإسرائيلي على لبنان، وسنتابع هذه التدريبات قريبا.
تتنقلين من التصوير إلى فنون أخرى كالتمثيل والغناء دون الابتعاد عن التصوير أو هجره، وتسافرين وتتنقلين بين أكثر من مكان، ما أسباب هذا القلق؟
} يمكن أن تكون أسباب القلق هي شعوري بالمسؤولية الكبيرة، فأنا أعتقد أن الإنسان عندما يوهب الشيء العظيم الذي نسميه الحياة، عليه أن يكون جديراً بها وأن يكون مخلصاً لمبادئ تبنّاها في حياته. فأنا مثلا، أحزن دائماً لأن ثمة بشراً بيدهم سلطة يمارسون القهر والسطوة على الذين لا يملكون سلطة، أي على المستضعفين في الأرض، الذين لا صوت لهم. وأنا اخترت أن أكون مع المستضعفين، وهذا يسبب لي القلق، خصوصاً أن الموت حين يأتي يوماً، سيأتي كعادته بشكل غادر، إذاً لا بد أن أكون قد أنهيت رسالتي، وطريقتي الوحيدة لنصرة المستضعفين إضافة لمسة مضيئة لحياتهم وذلك من خلال ممارستي للفن بأي حقل كان، فممارسة الفن أجمل بكثير من صنع الحروب. أمّا السفر فاكتشاف ومتعة وإغناء للبصر والبصيرة، وهو أيضاً يوسّع الرؤية ويبعد الكسل ويخلق الحوافز على العمل وتطوير التجربة الإبداعية.
نضال بشارة
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد