دور المنظومة التّربويّة في الوقاية من التّشدّد الدّينيّ والإرهاب
إنّ إيديولوجيّات الإسلام السّياسيّ وتنظيماته الحركيّة المنتجة للتّشدّد الدّينيّ والإرهاب في الدّول العربيّة هي بمثابة الوباء الاجتماعيّ الأكثر خطورة في التّاريخ المعاصر، لأنّها تقوم من ناحية أولى على رفض المجتمع القائم واعتباره فاسدا ضالاّ، وتقوم من ناحية ثانية على إنكار مشروعيّة الدّولة والرّغبة في إقامة دولة طوباويّة محلّها. وهذا ما يستوجب استراتيجيّة كاملة لمواجهة هذا الدّاء تشمل الوقاية منه، إلى جانب العلاج والتّأهيل. فما أشير إليه في ديباجة الدّعوة الكريمة إلى هذه النّدوة يمثّل الأدوية واجبة الوصف للحالة الحاضرة، وهي أدوية تشمل الجوانب الاقتصاديّة والأمنيّة والقانونيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة. لذلك رأيت أن أركّز على ما تمثّله المنظومة التّربويّة من لقاح للأجيال القادمة حتّى لا تقع فريسة سهلة لهذا الوباء. فلا بدّ من أن تكون معالجتنا لموضوع الإرهاب معالجة وقائيّة وعلى المدى البعيد. إنّه الاستثمار في الإنسان والاهتمام بالرّؤية المستقبليّة. فليس ثمّة شعب أو دولة عربيّة أو إسلاميّة بمنأى عن الإصابة بهذا الوباء القاتل إذا لم تتّخذ بجدّيّة كافّة الوسائل للوقاية منه.
وسنعدّد فيما يلي أهمّ الملامح لما نعتبره تغييرا استراتيجيّا ضروريّا في سياسة التّربية والتّعليم، تقتضيه التّحدّيات الرّاهنة :
1-الفلسفة التّربويّة العامّة : التّربية الرّشيدة
التّربية الرّشيدة حسب رأينا هي تربية الإنسان جسديّا ونفسيّا وذهنيّا حتّى تتحقّق فردانيّته التي يجب أن تعتبر جزءا أساسيّا من الخير العامّ. وتحقيق الخير العامّ من وجهة النّظر هذه هي خلق المواطن الذي لا يكون في قطيعة مع مجتمعه ولا يكون في قطيعة مع القيم الكونيّة لحقوق الإنسان.
هذه التّربية تتعارض مع صوغ الإنسان في بوتقة محدّدة سلفا من قبل المجتمع أو جزء منه حتّى يسهل اقتياده إلى غايات محدّدة بدعوى الخير العامّ الذي يعرّف تعريفا إيديولوجيّا ضيّقا.
وما نعتقده هو أنّ الدّول العربيّة فضّلت النّهج غير الرّشيد في التّربية لسحق البعد النّقديّ في الإنسان حتّى تسهل قيادته وتقلّل المخاطر التي قد يسبّبها للنّظام العامّ. ومن ثمّة أصبح النظام العامّ هو الخير العامّ وليس جزءا منه.
وتتناقض التّربية الرّشيدة مع التّلقين. فالشّيوخ والوعّاظ والفقهاء لعبوا دورا هامّا في تعويض التّفكير النّقديّ بالحفظ وعدم المساءلة وعدم الشّكّ. فهم يعبّدون سبل التّشدّد والإرهاب عن قصد أو عن غير قصد، لجهلهم بالأدوات المعرفيّة الحديثة في تناول المواضيع الحياتيّة، ولكسلهم الذّهنيّ في مواجهة المشاكل الحادثة ومحاولتهم على الدّوام الرّجوع إلى مقولات السّلف في حلّ المشاكل الآنيّة بالرّغم من النّقلات المتسارعة في كلّ أوجه الحياة في العصر الحديث. إنّهم لا يعملون على خلق الإنسان الحرّ المسؤول، بل يجتهدون في تدجين الإنسان ليكون متقبّلا سلبيّا للأحكام والفتاوى، غير مجتهد بنفسه في النّصّوص المقدّسة.
ويمكن أن نضرب مثلا على الإخفاقات التّربوية للدّول العربيّة في مجال التّربية البرنامج التّربويّ في مصر إبّان الحكم النّاصريّ الذي استطاع بنجاح كبير أن يستبدل الهدف الطّوباويّ للخلافة بالهدف الذي كان يبدو أكثر واقعيّة وهو تحقيق الوحدة العربيّة. فقامت الفلسفة التّربويّة على أسس قوميّة، أي على محاولة صهر أفراد المجتمع في قالب أيديولوجيّ استعملت فيه كافّة الوسائل المتاحة التي بحوزة الدّولة من أمنيّة واقتصاديّة وتعليميّة من أجل بلوغ هذا الهدف. لقد كانت التّربية قائمة على تلقين شعارات تشبه إلى حدّ كبير الابتهالات الدّينيّة محذوفا منها كلمة اللّهمّ.
في تلك الفترة من الخمسينات والسّتّينات كانت هناك ثلاث قبائل إيديولوجيّة متصارعة على المسرح السّياسيّ : القبيلة الأكثر قوّة وهي التي تضم عشائر النّاصريّيين والبعثيّيين، وقبيلة الماركسيّين النّخبويّة، وقبيلة الإسلامويّين الشّعبويّة. وقد تعمّدت استعمال وصف القبيلة لكلّ هؤلاء لأنّهم جميعا ضحّوا بفكرة الفرد وكرّسوا فكرة الجموع في التّربية. وما إن بدأت الإيديولوجيّات التي توهّمت أنها تقوم على مرجعيّة العقل تحتضر بهزيمة 67 وبموت زعيم القوميّة الوحدويّة سنة 1970 حتّى برزت قبيلة الإسلامويّين لترث هذه الأنقاض مستعملة أيديولوجيّة تدّعي أنّها تنبع من الوحي، وساعدها في ذلك الانتشار إلى جانب فشل المشروع النّاصريّ الهواجس الأصوليّة التي اعتادت الجماهير عليها منذ أن ظهرت حركات أهل الحديث التي كانت تشعر المسلمين بأنّ الإسلام في خطر، ولذلك فلا بدّ من مواجهة أعدائه من داخل الأمّة الإسلاميّة ذاتها.
2-علاقة الدّولة بالتّعليم
يجب على الدّولة أن لا تتخلّى عن واجباتها في التّعليم وأن لا تسمح بإنشاء المدارس والمعاهد والجامعات لأيّ تنظيمات دينيّة أو غير دينيّة. وفي حالة السّماح بذلك، فيجب أن تشرف على المناهج الدّراسيّة وأن تراقبها بدقّة في إطار السّياسة الاستراتيجيّة العامّة للتّعليم والتّربية. وإشراف الدّولة على التّعليم لا يعني أنّها تحتكر أدلجته وتفرض عليه محتويات مذهبيّة أو إيديولوجيّة خاصّة، بل على الدّولة أن تترفّع عن مكافحة الأصوليّات بأصوليّات مضادّة وأن تحاول من خلال مناهجها غرس فكرة النّسبيّة المعتقديّة في المواطن لأنّ يقينيّة الاعتقادات المطلقة هي المسؤول الأساسيّ عن إيجاد مناخ التّطرّف والعنف المجتمعيّ.
ولنعد إلى التّجربة المصريّة. فتيّارات الإسلام السّياسيّ لم تجد ما يعيق سبيلها غير نظام هزيل ودولة تخلّت عن واجباتها المجتمعيّة لمصلحة هذه الجماعات التي تصل إلى المنكوبين قبل الدّولة لتقديم المساعدات عند حصول كوارث طبيعيّة، وتبني المساجد في العشوائيّات تبشّر من خلالها لأفكارها وتدشّن المصارف الإسلامية التي تساهم في تمويل مشاريعها. والأخطر من كلّ هذا انتشار مدارسها لتربية النّشء على تكفير إخوتهم في الوطن وإعدادهم كمجموعات طهرانيّة تسعى إلى الخلاص الوهميّ.
وما أن جاءت القلاقل فيما يسمّى يثورات الرّبيع العربيّ وسقوط النّظام المصريّ حتّى برزت هذه المجموعات بقيادة الإخوان المسلمين مدعومة بجماهيرها التي أعدّتها سلفا واستولت على النّظام.
3-التّربية المدنيّة بعد من أبعاد التّربية الرّشيدة
لا بدّ من غرس فكرة الدّولة الوطنيّة في قناعات النّشء باعتبار أنّ الدّولة، أيّا كانت مساوئها، هي الرّاعية الضرورية للخير العامّ وأنّها أهمّ تجلّيات الاجتماع البشريّ، فبدونها ينتقل الإنسان إلى الحالة الوحشيّة. وإنّ إصلاح الدّولة وليس هدمها هو ما ينبغي أن يكون شاغل المواطن. فالأصوليّات كلّها، كما أشرنا إلى ذلك، تعتبر أنّ الدّولة عائق يحول دون تنفيذ برامجها وغاياتها. وكما يعلّمنا التّاريخ فإنّ الدّولة وإن كانت غير مؤهّلة لاحتضان الخير العامّ فهي الوحيدة القادرة على تحقيق الأمن العامّ.
وهذا هو مجال التّربية المدنيّة التي تهدف إلى غرس قيم المواطنة، ومنها اعتبار الانتماء إلى الدّولة في المجال العامّ أهمّ من كلّ الانتماءات الأخرى الضّيّقة، واعتبار السّلوك المدنيّ في الفضاء العامّ مجال القوانين لا مجال المعتقدات، واعتبار القوانين سارية على الجميع بقطع النّظر عن اختلافات اللّون أو الجنس أو المعتقد.
4- العناية بالإنسانيّات
يجب أن يراعى في المناهج التّربويّة تدريس تاريخ الأديان المقارنة وعلم الكلام والفلسفة إضافة إلى الآداب والفنون. فقد تمّ تحريم الفلسفة في زمن الانحطاط وما زال الحظر مفروضا عليها في أغلب البلدان العربيّة. ولعلّه من المفيد التّذكير بأنّ المسلمين دخلوا عصر الانحطاط الفكريّ والدّينيّ عندما بدأوا يحرقون كتب ابن رشد وبدأت أوروبّا تستفيد منها.
ويجب أن يكون تدريس هذه المعارف والفنون في كافّة المستويات الدّراسيّة لأنّها الوحيدة القادرة على خلق الشّخصيّة المستقلّة والذّهنيّة النّقديّة لدى المواطن حتّى لا ينجرّ بسهولة وراء أيّ تبشير دغمائيّ يقدّم الحلول الجاهزة للمشاكل الحياتيّة الأكثر تعقيدا. فشعار “الإسلام هو الحلّ” مثلا قد رفعه الإخوان المسلمون وانجرّت وراءه الجماهير المؤمنة اعتقادا منها بأنّ هذه الوصفة السّحريّة قادرة على حلّ كلّ المعضلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة بضربة واحدة، وهي وصول من يحملها إلى سدّة الحكم.
وإنّ الذّهنيّة التي تكوّنت في إطار العلوم الطّبيعيّة كالهندسة والكيمياء، وبمعزل عن تأثير الإنسانيّات فيها تجعل هذه الذّهنيّة متشكّلة على أساس أنّ الحياة تخضع إلى قوانين صارمة كالتي تحكم هذه العلوم الطّبيعيّة وعلى أساس أنّ الإنسان نفسه يخضع إلى جبريّة قوانين لا فكاك منها هي الأحكام الشّرعيّة. أي أنّ الدّارس للعلوم الطّبيعيّة تتعاظم لديه ذهنيّة الحتميّات اليقينيّة التي تمثّل أدوات المعرفة عنده فيطبّقها بشكل أوتوماتيكيّ على كلّ الموجودات في الطّبيعة، سواء كانت حيّة أم جامدة. وبما أنّ الله هو خالق كلّ شيء، وأنّه وضع لكلّ مخلوق سننا وقواعد أزليّة، وجب عند هذه الفئة من النّاس إسقاط فلسفة هذه القوانين على الموجودات كلاّ في مجاله وبشكل آليّ. فمثلما يفهم سقوط الأشياء إلى الأسفل بفعل الجاذبيّة، يفهم قانون رجم الزّانية في الشّريعة، ومثلما يطبّق قانون الأواني المستطرقة في السّوائل، يطبّق قانون قطع يد السّارق وهكذا دواليك. فالفارق عند أصحاب هذه الذّهنيّة بين حتميّة العلوم الصّارمة وقوانينها اليقينيّة والفقه الذي يقوم على التّأويل والاختلاف لا وجود له. وذلك بسبب عدم تأنسن هذه الملكات وتشذيب هذه الذّهنيّات بالإنسانيّات.
هذه الصّلابة النّاتجة عن توهّم اليقينيّات حيُث توجد النّسبيّة ويوجد تعدّد الممكنات والتّأويلات هي ما يفسّر كثرة الإرهابيّين في صفوف المشتغلين في العلوم الصّحيحة، لا سيّما الهندسة. فقد بيّنت دراسة نشرتها “المجلّة الأوروبّية لعلم الاجتماع” European Journal of Sociology أنّ عدد المهندسين أو طلبة الهندسة في عيّنة متكوّنة من 400 إرهابيّا يمثّل 44 بالمائة، رغم أنّ نسبة المهندسين من السّكّان لا تفوق 3.5 بالمائة. وتصل هذه النّسبة إلى 60 بالمائة من الإسلاميّين النّاشئين في أوساط أوروبّيّة والمتورّطين في قضايا الإرهاب.
5-تجديد مناهج التّربية الدّينيّة
إضافة إلى ما ذكرناه من تعارض بين التّربية الرّشيدة ومنهج التّلقين الدّوغمائيّ الذي يعتمده الوعّاظ والدّعاة ورجال الدّين عامّة، فلا بدّ من مراجعة الكثير من أبواب التّربية الدّينيّة لتنقيتها من الشّوائب المتعارضة مع قيم حقوق الإنسان. من هذه الشّوائب احتقار المرأة واعتبارها كائنا شيطانيّا، ومنها كراهية المختلف في المذهب والدّين. ولا بدّ من مراجعة مفهوم الجهاد، لإفراغه من محتواه الحربيّ الجهاديّ، وتأويله على نحو مغاير كما فعل الزّعيم الحبيب بورقيبة، فقد اعتبار الجهاد الحقيقيّ جهادا ضدّ التّخلّف والجهل والفقر.
والملاحظ عامّة أنّ التّربية الدّينيّة في أغلب البلدان العربيّة، مع بعض الفوارق، هي تربية تغلّب فكرة الشّريعة على فكرة الدّين وتقلّص حيّز الوعي الإيمانيّ الرّوحانيّ في الضّمير لمصلحة الطّقوس والشّعائر الخارجيّة. وباعتبار أنّ السّياسة والأنشطة الحياتيّة هي سلوك اجتماعيّ يتجلّى في الواقع المعيش، فإنّ هذه الحركات الدّينيّة تستفيد من خلط هذا السّلوك بالمقدّس الذي تجب مراعاته، بحيث يسهل عليها اقتياد الإنسان المؤمن بأكثر سلاسة إلى مراميها في التّحكّم في المجتمعات وضبطها من خلال السّلطة الزّمنيّة التي تسعى إليها بالاستيلاء على الحكم. فيصبح السّلوك السيّاسيّ للمؤمن البسيط، كالتّصويت في الانتخابات مثلا، فعلا يعتريه القصور ويشوبه البطلان لأنّ إرادته الاقتراعيّة لم تعد حرّة، وإنّما إرادة موجّهة لإنتاج سلوك دنيويّ استغرقه المقدّس الزّائف وأوقعه تحت طائلة العقاب الأخروي الذي يخشاه المؤمن. وقد كان هذا جليّا في الانتخابات التي أعقبت سقوط الأنظمة في بلاد ما يسمّى بالرّبيع العربيّ. ويكفي لإثبات ذلك تصريحات رجال الدّين السيّاسيّين مثل القرضاوي وآلاف الدّعاة والفقهاء. ففي تونس دعا الكثير من الأيمّة في خطب الجمعة إلى انتخاب “من يخاف اللّه”، وكان ذلك من العوامل الأساسيّة التي رجّحت كفة حركة حزب النّهضة الإسلاميّ.
فلكي تدافع الدّولة عن نفسها وتحصّن مجتمعاتها في مواجهة الإسلام السّياسيّ والحركات الإرهابيّة، يجب أن تعيد النّظر في محتويات المناهج الدّينيّة وذلك بتغليب فكرة الله الرّحمان الرّحيم على فكرة الله شديد العقاب. إنّ صورة الإله الباطش التي يروّج لها رجال الدّين منذ عصر الانحطاط وحتّى الآن لا تنتج إلاّ إنسانا يخاف من الحياة وينظر إلى مباهجها كخطايا تحاصره بإغواءاتها طيلة حياته. هذه التّربية تخلق إنسانا مشوّها متنكّرا لإنسانيّته. ولأنّ هذا الإنسان لا بدّ له أن يعيش هذه الحياة، ولا بدّ أن يتمتّع بمباهجها التي قد لا تقع كلّها في دائرة المباح بالرّغم من مشروعيّتها المدنيّة، فهي ليست ممنوعة بالقانون، فإنّ شعوره دوما هو الإحساس بالذّنب. وهذا الأمر قد يكون اعتياديّا ولكنّ إحساسه السّاحق بالذّنب نتيجة لهذه التربية الدّينيّة المتشدّدة، يضطرّه إلى محاولة الخلاص والتّطهّر، ومحاولة الخلاص والتّطهّر هذه تؤهّله إلى التّضحية بشرعيّة الدّولة والمجتمع، فيرتكب الجرم المضادّ للدّولة للخلاص من الشّعور بالخطيئة. وهذا واضح من سلوك الكثير من أثرياء البلدان العربية الإسلامية فهم يموّلون حركات الإرهاب والإسلام السّياسيّ اعتقادا منهم بأنّ أصحابها مجاهدون في سبيل الله، يسعون إلى إعلاء كلمته. وهم يفعلون هذا بانتظار المقاصّة الأخرويّة بين ما اعتقدوا أنّه خطيئة كبرى بفعل التربية وبين أوهامهم في الثّواب وما يمكن أن يقدّموه مرضاة لله شديد العقاب.
إنّ الخزّان الفكريّ الضّخم الذي يغذّي التّشدّد والإرهاب مازالت تتعهّده الدّول والحكومات العربيّة بالتّوسيع والصّيانة في سباقها مع الحركات الإسلاميّة للاستيلاء على الرّأسمال الرّمزيّ لهذه الشّعوب وهو الإسلام. غير أنّ مزايدتها عليهم لم تفلح إلاّ في إعطائهم المزيد من القوّة في حركاتهم الاحتجاجيّة، لذلك يجب على الدّول العربيّة الرّشيدة أن تأخذ مسارا مختلفا عمّا سلكته حتّى الآن، وذلك بتحديث مناهج المعاهد وإدخال كافّة المناهج والمعارف البحثيّة الحديثة وتطبيقها على كافّة العلوم الدّينيّة. إنّ الخطة الأولى التي يتوجّب على الدّول العربيّة والإسلاميّة المبادرة باتّخاذها هي إحداث نقلة حقيقيّة في الميدان التّربويّ للأجيال القادمة إذا أرادت لشعوبها أن تخرج من شرنقة الكراهية والعداء المجّانيين للعالم وتفريخ الإرهاب والتّشدّد والاستهتار بحياة البشر كما هو واقع الحال في هذه الأزمنة.
إنّ التّربية الرّاشدة هي التي تحقّق القطيعة الواعية بين جماهير المسلمين ومستعملي الدّين الإسلاميّ بقصد السّيطرة عليها.
وهذا يؤدّي بنا إلى طرح مسألة أعمّ هي قضيّة الإصلاح الدّينيّ الذي تأخّر في ديار الإسلام قرونا عديدة، ولا يمكن لرجال الدّين وللمؤسّسات الدّينيّة الإقليميّة والمحلّية أن تقوم به كما حدث في أوروبّا في نهاية العصور الوسطى وبدايات العصر الحديث. ولاستحالة الوصول إلى الموعد التّاريخيّ للإصلاح بعد كلّ هذه القرون من الغياب التّراجيديّ، وجب على العرب والمسلمين اجتراح نمط مختلف في الأسلوب والوسائل للقيام بهذا الاستحقاق بالرّغم من أنّ الكثير من المفكّرين والمصلحين العرب اعتقدوا على مدى عقود في إمكانيّة محاكاة ما حصل في أوروبّا على أرض الإسلام، ولكن بدون جدوى.
هذه الوسائل الجديدة التي نتحدّث عنها تتمثّل في الدّولة الرّاشدة ومؤسّساتها التي يجب أن تخوض هذه المغامرة الحضاريّة الكبرى، وذلك باستعمال القوّة النّاعمة للوصول إلى هذا المبتغى. لهذا السّبب ننصح الدّولة الرّاشدة المناط بعهدتها هذا الدّور بعدم استعمال طرق المصادمة العنيفة مع المؤسّسات الدّينيّة على الطّريقة الأتاتوركيّة، بل التّغيير التّدريجيّ والثّابت في استبدال مناهج المؤسّسات الدّينيّة بمناهج جديدة، باستعمال الأدوات المعرفيّة الحديثة وكلّ ما وصلت إليه العلوم الإنسانيّة من طرائق في البحث لتطبيقها على كافّة مجالات البحث، بما في ذلك الفقه وأصوله الذي سيتراجع قليلا ليصبح من دروس تاريخ الفقه وتاريخ الأفكار القانونيّة، وليس الفقه كما عرفه القدامى، أي كعلم للقوانين المسيّرة للحياة. فالفقه لا يكون حريّا بهذا الاسم إلاّ بعد أن يتخلّق في مقولات وحلول وأفكار جديدة تطمح إلى حلّ مشاكل النّاس بما يتناسب مع التّطوّرات العمليّة والفكريّة.
محمد عبد المطلب الهوني
عن موقع إيلاف
إضافة تعليق جديد