العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية
مؤلف هذا الكتاب هو الدكتور أحمد داود أوغلو المستشار السياسي لرئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان، وهو أول دبلوماسي يرقى لمرتبة سفير بوزارة الخارجية التركية من خارج النخب العلمانية، كما أنه أستاذ العلوم السياسية في العديد من الجامعات التركية.
وتعريب الكتاب من اللغة الإنجليزية إلى العربية يمثل جسرا مهما للتعرف على واحد من صناع الفكر الكبار في تركيا والعالم الإسلامي.
يتضمن الكتاب ثمانية فصول، أربعة منها تتحدث عن نقد الرؤية الغربية للعالم ومحاولة مصادرة مستقبله باسم أيديولوجيات مصطنعة كأيديولجية "نهاية التاريخ" التي ابتدعها "فرانسيس فوكوياما" وشرح الأزمة الحضارية التي يواجهها الغرب, والفصول الأربعة التالية تتحدث عن الرؤية الإسلامية للعالم كرؤية بديلة، وبحث إمكانيات تحقق هذه الرؤية في الواقع.
ينتقد المؤلف نظرية "نهاية التاريخ" التي بشرت بانتصار الليبرالية الرأسمالية على الاشتراكية واعتبارها الأيديولوجية التي يتوقف معها جدل الإنسان والتاريخ.
ويرى أن هذه النظرية تعيد صياغة نظريات تعود للقرن الـ19 عبر عنها "هيغل وماركس" وتتحدث عن أن مسار التاريخ هو مسار خطي متصاعد.
وعموما فأطروحات "نظرية النهاية" هي ظاهرة من ظواهر العالم الغربي تكتسي ثوبا عصريا، كما هو الحال مع نظرية نهاية الأيديولوجيا التي سادت فترة الستينيات، وقصد منها تبرير الوضع الراهن لدمج المفكرين مع أسلوب الحياة الأميركية وثبت أنها غير علمية.
كذلك نهاية التاريخ تتحيز لرؤية تاريخ الجنس البشري من المنظور الغربي وتتجاهل المساهمات الحضارية الأخرى، وهي في الواقع وسيلة دفاعية للنسخة الحداثية الخاصة بالحضارة الغربية ضد التحديات التي تواجهها وتشكل تهديدا لسلامة وأمن الجنس البشري.
ومن ثم فما يجري في العالم بعد سقوط الاشتراكية هو تعبير عن تحول حضاري أكثر شمولا واتساعا من مجرد قراءته كنصر نهائي للتقاليد الديمقراطية الليبرالية وللاقتصاد الرأسمالي، ونظريات النهاية ذات الطابع الحداثى تحاول نفي الدين وإعلان نهايته بينما الواقع يشير إلى عكس ذلك.
يرى المؤلف أن أزمة الحضارة الغربية تتمثل في عجزها عن تحقيق الحرية والأمن الوجودي المطلق، وهما هدف الإنسان الرئيسي عبر التاريخ.
فمع بزوغ نجم الحداثة الغربية كأمل جديد للإنسان الغربي يحقق له الحرية الوجودية المطلقة في مواجهة المؤسسات الرثة للكاثوليكية والإقطاع عن طريق الصيغة السحرية "العقل- العلم–التقدم"، وتصاعد الأمل بإمكان وجود جنة دنيوية على الأرض، إلا أن الصراعات داخل هذه الحضارة التي تمثلت في الحروب والكساد الاقتصادي قادت لتضاؤل التفاؤل بالإحساس بالأمن كما قادت التطورات التكنولوجية إلى شعور الإنسان بالاغتراب وفقدان الحرية.
الأمر ليس متعلقا بنظام سياسي بقدر ما هو نتيجة حتمية لرؤية العالم التي تقدم منظومة متناسقة من الفرضيات الوجودية والمعرفية والقيمية المنطقية والآليات الاجتماعية، وانهيار الحل الاشتراكي الذي هو الوجه الآخر للأزمة الحضارية في الغرب كان نتيجة لنموذج أساسي أو رؤية للعالم تحتوي على مجموعة معينة من التصورات المتعلقة بالإنسان والكون.
وترجع أزمة الحضارة الغربية -وفق المؤلف- إلى نسبية المعرفة الإنسانية وعجز العلم أن يحيط بكل الظواهر الطبيعية والإنسانية وأن يكون بديلا للدين، والاختلال الأخلاقي–المادي المتمثل في غياب التوازن بين القيم الأخلاقية والقيم المادية على نحو مروع يهدد علاقة الإنسان بأخيه الإنسان بل ويهدد علاقة الإنسان بذاته.
ثم اختلال التوازن البيئي المتمثل في ثقب الأوزون والتغييرات المناخية وخطر الإشعاعات المتزايدة.
وأخيرا نهاية التعددية التي تعني فرض نسق موحد عالمي لحياة الإنسان موافق للأسلوب الغربي الذي يعتمد على إخضاع الثقافة والسياسة للاقتصاد ومن ثم تكريس ثقافة الاستهلاك.
الإصلاحات العلمانية المستندة إلى النموذج الحداثي كانت أهم محاولات التغلب على الأزمة الحضارية له، والاشتراكية نفسها كانت محاولة لوجود حل لهذه الأزمة، كما أن الدراسات المعرفية لفترة ما بعد الحداثة حاولت التساؤل عن الثوابت الفلسفية ذات الطابع الاختزالي للحقيقة التي طرحتها الحداثة، وحركات البيئة والخضر وغيرها هي محاولة علمانية لتحسين علاقة الإنسان بالبيئة.
لكن هذه المحاولات لم تطرح بديلا يتحدى نموذج الحداثة الغربية، كما أنها لم تحقق للإنسان الغربي الحرية أو الأمن. وتجديد المسيحية التي حاولت التغلب على الفصل الثنائي بين الإله والطبيعة والعقل والوحي والأخلاق والنظم الاجتماعية.
وحدث تقارب بين منظري العلمانية والمرجعيات الدينية بحيث يدعم العلمانيون المناشط الدينية ويتبنى رجال الدين "لاهوتا" أكثر مرونة، وهناك توجه جارف لبناء ما يسمى "لاهوت ما بعد الحداثة" الذي لا يعادي العقل أو العلم أو المذاهب الأخرى الدينية، ومن هنا كان التعاون بين المذهب الكاثوليكي والمذاهب الأخرى في الغرب والشرق.
وأمام تصور أن الأزمة الراهنة هي أزمة المركز هناك محاولات لنقل هذا المركز من الأطلسي إلى أوروبا مرة أخرى عن طريق الوحدة الأوروبية.
كما أن هناك محاولات تسعى لبناء مركز حضاري في منطقة الباسفيك ممثلا في النهوض الياباني ونهوض النمور الآسيوية والصين ولكن تبقى قدرة هذا المركز الحضاري الجديد مرهونة بطبيعة الأسس الفلسفية والفكرية والدينية والحضارية التي يطرحها.
أطروحة المؤلف هي أننا بإزاء تحول حضاري واسع ولسنا بصدد "نهاية للتاريخ"، ومن ثم فهذا التحول له أبعاده السياسية التي تتجه لإعادة تشكيل للنظام العالمي القائم نحو نظام عالمي جديد، فبعد نهاية الحرب الباردة شهد النظام العالمي احتكار الولايات المتحدة للقوة فيه.
ثم رأينا بزوغا لقوى جديدة في أوروبا وآسيا تحاول منازعة أميركا احتكارها للنظام العالمي والمرحلة الثالثة محاولة بناء نظام لتوازن القوى بحيث يكون النظام العالمي أكثر توازنا في تمثيله للقوى الدولية المختلفة في مجلس الأمن والمنتديات والمؤسسات الدولية الأخرى.
وفي هذه المرحلة تسعى أميركا للحفاظ على تفوقها واحتكارها عبر تماسك مركز الأطلسي عن طريق تعزيز قدراته الاقتصادية والتلاعب بالأسس الداخلية للمراكز الحضارية البديلة وتأسيس آليات دفاعية وتحالفات إقليمية في مناطق متفرقة من العالم.
ومن المرجح أن يؤدي نشوء توازن في النظام العالمي إلى انتقال جديد للمركز الحضاري، بيد أن الأزمة الحضارية التي تواجه إنسان اليوم هي أكثر شمولية من أن يحلها انتقال المركز الحضاري القائم إلى مركز جديد لأنها أزمة تلف النظام العالمي بأكمله.
يذهب المؤلف إلى أن الإسلام هو القادر على أن يطرح بديلا للحداثة الغربية، فصمود الإسلام أمام محاولات القضاء عليه يشير إلى قوة وتماسك الرؤية التي يقدمها للعالم وتمثل بديلا للرؤية الحضارية الغربية.
فالإدراك الذاتي للإسلام من جانب المسلمين هو شرط تحقق إسلامهم، وهو ملازم للإنسان ما بقي حيا، فصمود أهل البوسنة راجع لذلك وحركات الإحياء الإسلامي هي نوع من تجديد الإدراك الذاتي بالإسلام.
وهذا الإدراك هو الذي يحدد حرية الإنسان وأمنه، فالحرية في المنظور الإسلامي هي تعبير عن نضج روحي يمكن الإنسان من أن يتحكم في أنانيته الذاتية، فالحرية ليست موضوعا من موضوعات القوة بقدر ما هي موضوع للوعي بالذات ومعرفة النفس وكذلك الأمن يكمن في شخصية الإنسان ووعيه الذاتي.
ينطلق النظام المعرفي الإسلامي من التوافق والاتساق بين جميع مصادر المعرفة والمبدأ الأسمى وهو "التوحيد"، ومن هنا لم يعرف الإسلام العلمانية التي هي تعبير عن عجز المؤسسة الدينية للإجابة عن أسئلة الواقع المتجددة، والعقل والاجتهاد يعملان بكل قوة ولكن في سياق الوحي الضابط لاحتمال سوء الاستخدام.
وينطلق النموذج الإسلامي من جعل القيم حاكمة على الواقع ومؤسساته فهي مطلقة ومتجاوزة للزمان والمكان، ولذا فالنظريات الاجتماعية الإسلامية لا يمكنها أن تتجاوز القيم الإسلامية ولا أن تؤسس نماذج اجتماعية وقانونية ضدها، وهكذا تظل القيم الإسلامية هي معيار الشرعية لأي مؤسسات أو نظم أو قواعد.
ويضمن النموذج الإسلامي السلام مع البيئة لأن الكون هبة الله وهو حق مشترك للجنس البشري ولذا لا بد من المحافظة علي البيئة سمة جوهرية لبقاء الكون.
ويعبر النموذج الإسلامي عن الأصالة والتعددية، فتصوره للتاريخ والزمن يؤكد على الطبيعة الدائرية وليست الخطية الأحادية، ومن هنا أهمية التجديد وقدرة الحضارة الإسلامية على استعادة مكانتها، فالسيادة الحقيقية لا تنطلق من التفوق المادي وإنما من التفوق القيمي والروحي.
أزمة الأفكار والمؤسسات في العالم الإسلامي لبناء نموذج حضاري جديد ترجع إلى انفصال النخب الفكرية العلمانية عن المرجعية الإسلامية، ومحاولة هذه النخب الحاكمة والمسيطرة فرض ثقافة جديدة مطابقة للمفاهيم الغربية وإنجاز التنمية الاقتصادية وبناء القوة العسكرية لتحقيق موقع أفضل على الساحة الدولية وفي نفس الوقت تسويغ السياسات الاحتكارية لهذه النخب في مختلف المجالات.
ولكن هذه النخبة تواجه مأزقا اليوم وهناك تحول حضاري جديد أهم ما فيه أنه يستلهم المرجعية الإسلامية ويقوده جيل جديد من المسلمين ذوي التعليم العالي فكثير من قيادات الحركة الإسلامية داخل المجتمعات الإسلامية تجدهم إما مهندسين أو علماء اجتماع أو أطباء.
وهناك أزمة اقتصادية حالت دون تحقيق وحدة بين دول العالم الإسلامي فحرص كل منها على الاندماج في النظام العالمي أكثر من حرصها على تحقيق الوحدة بينها وهناك أيضا أزمة سياسية متمثلة في الشرعية الشكلية المنفصلة عن منظومة القيم والميراث الاستعماري المتمثل في تكريس ميراث التجزئة المصطنعة. هذه الأزمات تحول دون تحقق الإسلام بديلا حضاريا.
يشير المؤلف إلى أن خلفية المواجهة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي راجعة إلى تطور داخل المركز الحضاري الإسلامي نحو بناء مركز مستقل عن الغرب بظهور حركات الإحياء الإسلامي وتنامي وعي متزايد لدى الجماهير الإسلامية بضرورة العودة إلى الإسلام ويضرب مثالا لذلك بتركيا التي يتنامي العامل الإسلامي بقوة في سياستها الداخلية والخارجية.
وهكذا يضعنا المؤلف في سياق إستراتيجي واسع لفهم ما يجري من أحداث على الساحة العالمية، حيث يهدف الغرب إلى منع قيام بديل حضاري إسلامي يمكن أن يمثل بديلا محتملا للمركز الحضاري الغربي الذي يواجه أزمة شاملة لا يمكن حلها من داخله.
كمال حبيب
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد