«حبر الحرب» في «الرواق العربي للفنون»: سيجارة لؤي كيالي تتابع حريقها!
فستان العروس المحترق في صندوق الجدّات إلى جانب كومة من حجارة البناء المدمّرة، سيستقبل الزائر لمعرض «حبر الحرب من سطر الفن» (صالة لؤي كيالي). فاتحة بصرية أرادتها كل من الفنانات ضحى ضوا وماريانا الشماس وكارولين نعمة ولوليانا رميح وديمة الفياض (إشراف) بمثابة عتبة للمعرض الذي جعل من مخلفات الحرب مادةً تشكيلية صادمة. المحاولة التي أتت لتدوير ما تركته آلة الخراب واستعادته في سياقات مختلفة، جعلت منها تحدياً أمام الفنانات المشتركات لتقديم خلاصات تعبيرية قوامها أثاث بيوت نهبتها المعارك الدائرة منذ ست سنوات.
المكتبة المشغولة والتعليقة من فوارغ الرصاص والمشاجب المطرزة بالبنفسج، وكراسي الحديد وبوري المدفأة الذي أصبح مصباحاً، كلها يمكننا مشاهدتها في هذا المعرض الذي أقامته كل من جمعيتي «نور» و «تاء مبسوطة» في أول فعالية فنية يتلازم فيها العمل الإغاثي مع النشاط التشكيلي. مقاربة أخذت في بعض الأعمال بعداً تزيينياً اعتمد اليدويات والزخرفة، لكنها في أعمال أُخرى نحت إلى تقديم أسئلة لافتة عن وظيفة الفن التشكيلي في إعادة توزيع الأدوار، وانتشال أشياء الضحايا ومذكراتهم لتُمسي كبيت صور لعائلات هاجرت أو ماتت تحت ردم بيوتها المدمّرة.
هنا لا ضوء يتيح الفرجة إلا بما تفسحه لنا أكياس الخيش والمصابيح السوداء والدواليب المحترقة، جنباً إلى جنب مع حصيرة وعلبة عطر وستائر دوّن عليها الفارون روائحهم وأنفاسهم في ليالٍ غابرة. إنها بيوت سورية بعدما صارت وكراً لقناص أو حضناً لقذيفة، أو رحماً لسيارةٍ مفخخة. تبدل الأمكنة وأشياءها من هويتها الاستعمالية إلى هوية جمالية، قاتمة إنما جارحة ومستفزة بما تملكه من تواقيع أصحابها ومن أُسر غادرت المكان فابتلعها البحر، أو كانت دريئة لعملية انتحارية في الجوار.
تغيير اتجاه الرصاصة لتصبح «أليفةً» على هذا النحو؛ يبدو أنه لم يكن بالأمر السهل، فالقاتل والقتيل ربما ناما ليلة على الأريكة ذاتها قبل تنفيذ الأول عملية الإعدام بالثاني. مشهد ربما سيلحُّ على مخيلة المتلقي، آخذاً إياه إلى رائحة بيت أليف كان يضم أطفالاً وأبوين قبل أن تفتك الحرب بشبابيك المنزل، وتفترس نيران القذائف أبواب غرف النوم والجلوس، وستائر الصالة المطلة على شرفة أو حديقة كانت في الأمس القريب خميلةً وارفة بأشجار الكباد والتوت الشامي. مفارقات يمكن التقاطها في جولة خاطفة على مقتنيات المعرض الذي قدّم أكثر من ثلاثين عمل فني تمّ تجميع موادها من أحياء تداولتها ألسنة اللهب السوري، تاركةً جراحها على البشر والأشياء كبصمات من سخام وحريق ودم.
في النظر أكثر إلى طبيعة الفعالية التي ضمّتها جدران «الرواق العربي للفنون الجميلة» يمكن التقاط صوت حسيس السيجارة التي أحرقت فراش لؤي كيالي، فكأن الشرارة امتدت إلى اليوم لتطال بيوت سوريين جعلتهم الحرب موقداً جماعياً لذكريات تتلوها أشياؤهم بدلاً عنهم، فالمفقودون دخلوا «قيد نفوس» جديد يكتبه الرماد الآن ومظاريف الطلقات التي أصابت منهم قلوباً ورؤوساً، بينما كانوا يلوذون بصغارهم من أنياب المجازر الجماعية ونهش الأكباد وتقطيع الرقاب بالسيوف. مناظر عملت أصابع الفنانات الخمس على حياكتها بدربة وعناية من «يرشُّ على الموت سكّراً» فهنا - حتى عارضاتِ الأزياء - يجب عليهن ارتداء أقنعةً واقية من ضربات أسلحة كيميائية أو من حِمم (مدافع الجنّة).
سامر محمد اسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد