لماذا نحن متطرفون؟
الجمل ـ د. عماد فوزي شعيبي:
في دراستين أنجزتا عامي 1996 و 1999، تبين لدى كلٍّ من كوتولاك (kotulack) و ويستن (Westen) على التسلسل أن البيئات التي تفتقد إلى الحوارات النقدّية الحادة و التي تعاني من الخمول وتكتفي بحفظ معلومات بعينها وتداولها على أنها معلومات نهائية تؤدي إلى ترقق القشرة الدماغيّة، وبالتالي تراجع إمكانية المحاكمة العقلية السليمة، وهو أمر خطير من وجهة نظرنا؛ فعلى اعتبار أن البشر بالأصل ليسوا جميعاً أذكياء إذ يُشكل متوسطو وضعيفو الذكاء ما بين 83-85%من نسب البشر، فإن هذه البيئة تتدهور أصلاً في سوية ذكائهم، فبدلاً من أن تعمل السوية المتوسطة الذكاء وهي بنسبة (68.24%) في أعلى سوية لذكائها المتوسط نراها تتدهور إلى أدنى سوية متوسطة، فالمعروف في دراسة كين (Caine) عام 2001 أن المناخات التي فيها معرفة وقراءات وأفكار جديدة تساهم في توليد وخلق شبكات عصبية جديدة في المُخ تساعد على تطور السوية الذكائية نفسها، فيما تتدهور هذه السوية إلى مستوى الغرائز كالطعام والشراب والجنس والانفعالات والشعور ... إذا لم تتوالد تلك الشبكات العصبية، وهنا تتحكم منطقة ما تحت المهاد البصري (الهيباتلامس) التي تُشكل 35 بالألف من حجم المخ البشري بالسلوك الإنساني؛ فتغلب عليه العصبية والرغبات والتوجه نحو القتل ...
والخطير في حالتنا العربية أن عقول جيل بأكمله قد سُلِمت إلى التلقين التعليمي والديني والاجتماعي، ولم تفسح في المجال أمام ثقافة الاختلاف عن التردادات المعرفية التي تشكل وسادة معرفية من ناحية وعملية تحنيط للمخ البشري تمنع نمو القشر الدماغية المسؤولة عن الذكاء وتحبط نشوء الوصلات العصبية المساعدة على رفع السوية المخية في مستوى الذكاء الأصلي للجمهور. يساعد في ذلك إعلام اللامعرفة.
لقد نشأ جيلان على الأقل يردد المقولات ذاتها والتعاويذ و الأفكار والمعارف المدرسية الحفظية، ومُنع من التفكير في بيئة مُحافظة هرميّة تتوهم أنها تمتلك الحقيقة وأن ما تعرفه هو ذروة العلم (لاحظوا ما يرسله الناس لبعضهم في وسائل التواصل الاجتماعي اليوم من خرافات معرفية وأكاذيب وأدعية يتم تردادها كالببغاءات دون تمحيص أو بحث) حيث تسود الثقافة السائدة في أدنى مستوياتها، وثقافة (قالوا له) والإشاعة و التدين النصوصيّ (غير الإيماني)... ما حرم سلسلة من الأجيال إمكانيّة نمو القشرة الدماغية و تنامي الوصلات العصبية في مناطق المخ المسؤولة عن المحاكمة كالفص الأمامي الجبهي، فيما ساعدت ثقافة الانترنت وسيولة المعارف على نمو مناطق (إجرائية) في المُخ العربي عموماً.
وبخلاف المواطن الغربي الذي لا يتوقف عن القراءة بالعموم، حيث تقول دراسات إن المواطن الأوروبي يقرأ بالمتوسط 7 كتب سنوياً فيما الأمريكي 5 كتب بخلاف الصحافة الهائلة التي تشكل خبزه اليومي، حيث يقرأ في المترويات والباصات وأماكن الاستجمام، ويعرف الكتاب الالكتروني اليوم، لا يكاد المواطن العربي يقرأ أكثر من نصف عمود في جريدة سنوياً. فيما يكاد الكتاب لا يعرف صداقة مع حتى طلاب الجامعات الذين لايعرفون إلا الكتاب الجامعي الحصري ومحاضرات اساتذتهم التي هي تلخيص للكتاب، ويتقدمون للامتحانات بملخصات ملخصات الكتب، فيما يغيب المرجع عن ثقافتهم، يساعدهم في ذلك جيل من أساتذة جُلهم لا يقرأون، ويعادون من يقرأ، وأسئلتهم الامتحانيّة نمطية لا تطور السوية المُخيّة من نوع: عدد، اشرح، تكلم ...
لقد نما العقل المتطرّف من خلال هذه الحلقة المعيبة المُغلقة على العقل. Vicious circle ، والتي تشي باستحالة تجاوزها على المدى المنظور، لأن المصلحين يحتاجون إلى إصلاح هو شبه مستحيل، مالم تُفك الحلقة، من خارجها وليس من داخلها، أي من خبراء من خارج المنظومة، وهو شبه مستحيل بالعقليّة السائدة، سواء على مستوع التعليم، أو في المناخ الديني، وهذا ما يفسر التدهور نحو المذهبية والطائفية وتراجع الإيمان لمصلحة النصوصية المتطرّفة، وتدهور التعليم إلى حلقة مفرغة من المعلومات البصميّة التي لا ترفع السويّة العقليّة.
إضافة تعليق جديد