أصول التعامل مع الثلاّجة
تأتيه الثلاّجة في الحلم. وحدها. لا شيء سواها، لا حيوان ولا إنسان. هو وثلاّجة بيضاء أشبه ببهكنة ناصعة بحجم الكون. وحدهما في المنام. تفتح له بابيها كذراعين تستقبلانه. نور ساطع ينبلج من قلبها، يسحره ويسحبه، كل حلم، إلى نعيمه.
البرودة المتدفّقة كسيل أخرس لا توقظه. يلفّ اللحاف بإحكام حول جسده البارك على السرير، ويتغلغل نزولاً في فراشه، كمن يتأهّب للقفز.
البخار القارص يضمّه ويشدّ عليه، لتبدأ الرحلة إلى الجوف. يموضع رأسه جيّداً على الوسادة، كما يفعل ربّان الصاروخ عند الإقلاع. يهدر محرّك الثلاجة بلا صوت. ترتعش قليلاً. ويعبر.
الرحلة لا تستغرق أكثر من 30 ثانية، كأي حلم. ولكن عيني الرجل تزدردان، أثناءها، كل ما تشتهيه معدته.
وفي كل حلم، يبدأ جولته من الأسفل، فيمرّ بالخضار والفاكهة الزاهية الألوان، والمحتشدة كجمهور على مدرّجات ملعب كرة. ويتدرّج صعوداً، لينسل داخل أزقّة، بين علب شفافة تلتصق بجدرانها خيالات المآكل المؤجّلة. ويكاد يحسّ باحتفالاتها الماجنة، كل مكدّس فوق كلّ.
قبّة مستديرة تسترعي انتباهه. يهرع إليها ويلوّح للأجبان، وينقر على الزجاج مبتسماً، كمن يستدعي سمكات ذهبية في حوض، ليرشّ لها القوت.
المشهد في أعلى الثلاّجة أكثر وقاراً، يذكّر بسكون المكتبة، كل شيء فيه مرتّب. اللحوم والأسماك بملابسها النايلون المتلامعة، تتراصف، كمناشف على رف خزانة. هنا صقيع.
تتلاقى نظرات الرجل بنظرات سمكة لا يرف لها جفن. يتصوّرها محمّرة، تفترش صحناً وتلتحف طبقة من الطحينة نُثر عليها البقدونس... وقبل أن يطلق العنان لمخيّلته ويسيل لعابه، يتذكّر أنها ميتة.
يتذكّر أن كل شي داخل الثلاجة ميت. الفواكه قُطِعت كالرؤوس. الخضار حُرمت من نسغها. البطاطس اقتُلعت من تربة قبرها، وهي، كالأسماك، لا تعيش في الهواء. اللحوم أشلاء المواشي والدواجن... لا يبقى من أشياء الثلاجات سوى نضرتها التي يبطئ البرد أفولها، قبل أن يصيبها الذبول والتعفّن.
يستفيق الرجل من حلمه. يتقلّب في سريره قليلاً. يتنفّس نفساً طويلاً، ويستمرّ في سباته. هكذا ينتهي حلمه بالثلاجة، كلّما راوده. هو لا يخاف. هو يعرف أن الموت داخلها حياةٌ له.
يستيقظ الرجل من نومه. يذهب إلى المطبخ، يغلي ماء. وخلال الانتظار يفتح الثلاجة ليطمئن على أشيائها. وهذه عادة لديه منذ الصغر.
كان يصل من المدرسة، ومن الجامعة عندما شبّ، ليقف أمام الثلاجة. يقف أمامها. يتأّمّلها. يتأمّل ضخامتها. يأنس لهدير محرّكها. ثم يفتح الباب، فتعانقه البرودة، ويغمر كل ما فيها بنظراته. وعندما يمرض، كان يُمنع من الاقتراب منها، فيستغلها فرصة ليشتاق إليها.
الثلاجة عند هذا الرجل بالذات، فأل خير وحافز على البقاء. هي بمثابة ذلك اللوح الأسود الضخم، في فيلم «أوديسا الفضاء – 2001»، للمخرج ستاينلي كوبريك. لوح ظهر في حقبات مختلفة من تاريخ البشرية، معلناً انتقالها إلى عصر جديد.
زكي محفوض
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد